صفحة جزء
وقوله: ويأبى الله إلا أن يتم نوره دخلت (إلا) لأن في أبيت طرفا من الجحد ألا ترى أن (أبيت) كقولك:

لم أفعل، ولا أفعل، فكانه بمنزلة قولك: ما ذهب إلا زيد. ولولا الجحد إذا ظهر أو أتى الفعل محتملا لضميره لم تجز دخول إلا كما أنك لا تقول: ضربت إلا أخاك، ولا ذهب إلا أخوك. وكذلك قال الشاعر:


وهل لي أم غيرها إن تركتها أبى الله إلا أن أكون لها ابنما



وقال الآخر:


إيادا وأنمارها الغالبين     إلا صدودا وإلا ازورارا



أراد: غلبوا إلا صدودا وإلا ازورارا، وقال الآخر:


واعتل إلا كل فرع معرق     مثلك لا يعرف بالتلهوق

[ ص: 434 ] فأدخل (إلا) لأن الاعتلال في المنع كالإباء. ولو أراد علة صحيحة لم تدخل إلا لأنها ليس فيها معنى جحد. والعرب تقول: أعوذ بالله إلا منك ومن مثلك لأن الاستعاذة كقولك: اللهم لا تفعل ذا بي.

وقوله: والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله ولم يقل: ينفقونهما. فإن شئت وجهت الذهب والفضة إلى الكنوز فكان توحيدها من ذلك. وإن شئت اكتفيت بذكر أحدهما من صاحبه كما قال:

وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها فجعله للتجارة، وقوله: ومن يكسب خطيئة أو إثما ثم يرم به بريئا

فجعله- والله أعلم- للإثم، وقال الشاعر في مثل ذلك:


نحن بما عندنا وأنت بما عن     دك راض والرأي مختلف



ولم يقل: راضون، وقال الآخر:


إني ضمنت لمن أتاني ما جنى     وأبى وكان وكنت غير غدور



ولم يقل: غدورين، وذلك لاتفاق المعنى يكتفى بذكر الواحد. وقوله: والله ورسوله أحق أن يرضوه إن شئت جعلته من ذلك: مما اكتفي ببعضه من بعض، وإن شئت جعلت الله تبارك وتعالى في هذا الموضع ذكر لتعظيمه، والمعنى للرسول صلى الله عليه وسلم كما قال: وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه ألا ترى أنك قد تقول لعبدك : قد أعتقك الله وأعتقتك، فبدأت بالله تبارك وتعالى تفويضا إليه وتعظيما له، وإنما يقصد قصد نفسه [ ص: 435 ] .

وقوله: منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم جاء التفسير: في الاثني عشر. وجاء (فيهن) : في الأشهر الحرم وهو أشبه بالصواب- والله أعلم- ليتبين بالنهي فيها عظم حرمتها كما قال: حافظوا على الصلوات ثم قال: والصلاة الوسطى فعظمت، ولم يرخص في غيرها بترك المحافظة. ويدلك على أنه للأربعة- والله أعلم- قوله: (فيهن) ولم يقل (فيها) . وكذلك كلام العرب لما بين الثلاثة إلى العشرة تقول: لثلاث ليال خلون، وثلاثة أيام خلون إلى العشرة، فإذا جزت العشرة قالوا: خلت، ومضت. ويقولون لما بين الثلاثة إلى العشرة (هن) و (هؤلاء) فإذا جزت العشرة قالوا (هي، وهذه) إرادة أن تعرف سمة القليل من الكثير. ويجوز في كل واحد ما جاز في صاحبه أنشدني أبو القمقام الفقعسي:


أصبحن في قرح وفي داراتها     سبع ليال غير معلوفاتها



ولم يقل: معلوفاتهن وهي سبع، وكل ذلك صواب، إلا أن المؤثر ما فسرت لك.

ومثله: وقال نسوة في المدينة فذكر الفعل لقلة النسوة ووقوع (هؤلاء) عليهن كما يقع على الرجال. ومنه قوله: فإذا انسلخ الأشهر الحرم ولم يقل: انسلخت، وكل صواب. وقال الله تبارك وتعالى: إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك لقلتهن ولم يقل (تلك) ولو قيلت كان صوابا [ ص: 436 ] .

التالي السابق


الخدمات العلمية