صفحة جزء
وقال أبو سليمان في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إذا كان يوم الجمعة كان على كل باب من أبواب المسجد ملائكة يكتبون الأول فالأول، فالمهجر إلى الصلاة كالمهدي بدنة، ثم الذي يليه كالمهدي بقرة، ثم الذي يليه كالمهدي الكبش، ثم الذي على أثره كالذي يهدي الدجاجة، ثم الذي على أثره كالذي يهدي البيضة" .

أخبرناه ابن الأعرابي، نا سعدان، نا سفيان، عن الزهري، عن سعيد بن المسيب، عن أبي هريرة إلا أنه لم يذكر الدجاجة والبيضة.

وحدثناه ابن مالك، نا عمر بن حفص السدوسي، نا عاصم بن علي، نا [ ص: 327 ] ابن أبي ذئب، عن الزهري، عن الأعرج، عن أبي هريرة، فذكر الدجاجة والبيضة.

وأخبرناه ابن داسة، نا أبو داود، نا عبد الله بن مسلمة، عن مالك، عن سمي، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من اغتسل يوم الجمعة غسل الجنابة، ثم راح فكأنما قرب بدنة، ومن راح في الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشا، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة" .

قد يعرض الإشكال من هذا الحديث في موضعين: أحدهما قوله: من راح في الساعة الرابعة والخامسة؛ لأنه يوهم جواز تأخير صلاة الجمعة عن أول وقتها إلى الساعة الرابعة أو الخامسة، وهذا فاسد.

والموضع الآخر: أنه لما فاضل بين الساعات جعل الرائح في الساعة الرابعة كمن أهدى دجاجة، ومن راح في الساعة الخامسة كمن أهدى بيضة، واسم الهدي لا يقع على الدجاجة والبيضة غالبا.

وأما الغنم فقد اختلف الفقهاء فيها، فقال بعضهم: ليست بهدي، والأكثرون منهم يجعلونها هديا، وثمرة هذا الخلاف أن يوجب الرجل على نفسه هديا فإذا ذبح شاة أجزأه عن نذره في قول من رآها هديا، ولا يجزيه في قول الآخرين إلا بدنة أو بقرة.

أما قوله: راح في الساعة الرابعة والخامسة ففيه وجهان: أحدهما: [ ص: 328 ] ما ذهب إليه مالك بن أنس. أخبرني الحسن بن يحيى، عن ابن المنذر قال: كان مالك بن أنس يقول في هذا الحديث: لا يكون الرواح إلا بعد الزوال، قال: وهذه الساعات كلها في ساعة واحدة من يوم الجمعة، يذهب إلى قول القائل: جئت منذ ساعة، وقعدت عند فلان ساعة، وتحدثت معه ساعة، وما أشبه ذلك يريد به جزءا من الزمان غير معلوم، دون الساعات التي هي أوراد الليل والنهار وأقسامهما.

والوجه الآخر ما ذهب إليه محمد بن إبراهيم بن سعيد البوشنجي.

أخبرني أحمد بن الحسين التيمي قال: قال أبو عبد الله: قوله: راح إلى الجمعة وهجر إلى الجمعة في هذا الحديث، إنما هو بعد طلوع الشمس، كأنه يذهب إلى معنى القصد منه دون الفعل، وذلك أنه إنما تصلى الجمعة بعد الرواح، فسمي رائحا بالقصد، وهذا كما قيل للمتساومين: متبايعان لقصدهما البيع، وللمقبلين إلى مكة حجاج ولما يحجوا بعد، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلا الله" يريد من أشرف على الموت، ومثله كثير، وزعم بعضهم أن الرائح هو الخارج عن أهله، وكل من خرج في وقت من الأوقات فقد راح، قال: وعلى هذا مذهب العرب إذا أرادوا الرحيل أي وقت كان من ليل أو نهار، قالوا: الرواح.

قال أبو سليمان: والأمر في هذا واضح غير مشكل، والفرق بين الأمرين موجود في مستفيض كلام الناس. ألا تراهم يقولون: غدونا ورحنا إلى باب فلان، وغدوت إلى السوق، ورحت إلى أهلي. قال الله تعالى: ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر [ ص: 329 ] . وقال النابغة:


أمن آل مية رائح أو مغتدي



وقال عمر بن أبي ربيعة:


أمن آل نعم أنت غاد فمبكر     غداة غد أم رائح فمهجر



وكان أبو الدرداء إذا رأى جنازة قال: "روحي فإنا غادون"، وهذا أبين من أن يستشهد له. فأما قولهم عند الرحيل: الرواح فإنما يقال ذلك؛ لأن رحيل المسافر إنما يكون في الغالب وقت الرواح والإبراد، ثم كثر ذلك حتى استجازوا أن يقولوه في غير حينه، وهذا كقولهم في الاستغاثة عند مفاجأة العدو أي وقت كانت: واصباحاه؛ لأن الغالب أن العدو إنما يصبح القوم، ويأتيهم حال الغرة والأمن.

وأما قول ابن أبي ربيعة:


أيها الرائح المجد ابتكارا     قد قضى من تهامة الأوطارا
ليت ذا الحج كان فرضا علينا     كل يومين حجة واعتمارا



فإنه أراد الرائح إلى منزله المزمع الرحيل بكرة غده.

وأما قوله: "أهدى دجاجة وأهدى بيضة" فمن المحمول على حكم ما تقدمه من الكلام كقولك: أكلت طعاما وشرابا، والأكل إنما ينصرف إلى الطعام [ ص: 330 ] دون الشراب، إلا أنه لما عطف به على المذكور قبله حمل على حكمه، كقول الشاعر:


ورأيت بعلك في الوغى     متقلدا سيفا ورمحا



والرمح لا يتقلد لكن يحمل. وقال الآخر:


إذا ما الغانيات برزن يوما     وزججن الحواجب والعيونا



أي: كحلن العيون. ومثل هذا كثير.

فأما حديثه الآخر في الجمعة أنه قال: "من بكر وابتكر، وغسل واغتسل" ، فقد قيل: إنه أراد به بكور الوقت، وقيل: أراد إدراك باكورة الخطبة، وهي أولها.

وأخبرني بعض أصحابنا، عن ابن الأنباري أنه قال: أراد تقديم الصدقة من قوله: "باكروا بالصدقة؛ فإن البلاء لا يتخطاها" .

وقوله: غسل فقد قيل: أراد غسل أعضاء الطهارة، وقيل: أراد غسل الرأس لما في رؤوس العرب من الشعر، وقيل: معناه جامع أهله من قولهم: فحل غسلة، إذا كان كثير الضراب.

وقوله: اغتسل أراد غسل سائر البدن. وقال الأثرم: هما لفظان بمعنى واحد كررا للتأكيد، ألا تراه يقول في هذا الحديث: "ومشى ولم يركب" وفي خبر آخر: "واستمع وأنصت". وهذا كله واحد.

[ ص: 331 ]

وأما قوله: فالمهجر إلى الصلاة فإن أكثر الناس يذهبون في معناه إلى أنه من الهاجرة وقت الزوال.

وقد روى أبو داود المصاحفي، عن النضر بن شميل قال: التهجير إلى الجمعة وغيرها: التبكير. قال: سمعت الخليل يقول ذلك في تفسير هذا الحديث.

التالي السابق


الخدمات العلمية