صفحة جزء
وقال أبو سليمان في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "من قطع سدرة، صوب الله رأسه في النار".

أخبرني ابن داسة قال: سئل أبو داود سليمان بن الأشعث عن هذا الحديث، فقال: هذا الحديث مختصر، ومعناه: من قطع سدرة في فلاة يستظل بها ابن السبيل عنتا وظلما بغير حق يكون له فيها، صوب الله رأسه في النار.

قال: وحدثنا عبيد الله بن عمر بن ميسرة، وحميد بن مسعدة قالا: نا حسان بن إبراهيم، قال: سألت هشام بن عروة عن قطع السدر، وهو مسند إلى قصر عروة، فقال: ترى هذه الأبواب والمصاريع، إنما هي من سدر عروة، وكان عروة يقطعه من أرضه، وقال: لا بأس به.

وسئل عن هذا الحديث إسماعيل بن يحيى المزني، فقال: وجهه أن يكون [ ص: 477 ] -صلى الله عليه وسلم- سئل عن من هجم على قطع سدر لقوم، أو ليتيم، أو لمن حرم الله أن يقطع عليه، فتحامل عليه فقطعه، فيستحق ما قاله لهجومه على خلاف أمر الله، فتكون المسألة سبقت السامع، فسمع الجواب ولم يسمع المسألة، فأدى ما سمع دون ما لم يسمع.

ونظيره ما روى أسامة بن زيد: "أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنما الربا في النسيئة"، فسمع الجواب ولم يسمع المسألة، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا تبيعوا الذهب إلا مثلا بمثل، يدا بيد".

قال المزني: والدليل على جواز قطع السدر أن المرء أحق بماله، ولما لم أر أحدا يمنع من ورق السدر والورق من بعضها كالغصن منها، وقد سوى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيما حرم قطعه بينه وبين عضده لقوله في شجر مكة: "لا يعضد شجرها". وفي إجازة النبي -صلى الله عليه وسلم- أن يغسل الميت بالسدر دليل على أن قطعه من شجره مباح، ولو كان حراما لم يجز الانتفاع به.

قال مالك بن أنس: إنما نهى عن قطع السدر بالمدينة ليكون مستظلا للناس، وليستأنسوا به، ولا تستوحش عرصتها.

فأما حديث أبيض بن حمال قال: "سألت رسول الله: ماذا يحمى من الأراك؟ قال: ما لم تنله أخفاف الإبل"، فإن أبا عبيد ذكره في كتابه، [ ص: 478 ] قال: وإنما نهى أن يحمى ما نالته أخفاف الإبل من الأراك؛ لأنه مرعى لها فرآه مباحا لابن السبيل؛ وذلك لأنه كلأ، والناس شركاء في الماء والكلأ، وما لم تنله أخفاف الإبل كان لمن شاء أن يحميه حماه.

قال أبو سليمان: وهذا كما قاله أبو عبيد إلا أنه مع ذلك لم يبين ما تناله أخفاف الإبل مما لا تناله، فيعلم ما يجوز أن يحمى مما لا يجوز حماه، وبيان ذلك ما أخبرناه ابن داسة، عن أبي داود، عن هارون بن عبد الله قال: قال لي محمد بن الحسن المخزومي: ما لم تنله أخفاف الإبل هو أن الإبل تأكل منتهى رؤوسها، ويحمى ما فوقه.

وفيه وجه آخر، وهو أن يراد بأخفاف الإبل مسانها. قال الأصمعي: الخف: الجمل المسن، وأنشد:


سألت زيدا بعد بكر خفا والدلو قد تسمع كي تخفا



أي: سألته بكرا من الإبل، فلما منعه اقتصرت على خف، وهو المسن. ويقال: أسمعت الدلو إذا شددت على أسفلها خيطا؛ لئلا تمتلئ ماء فتخف على المستقي. والمعنى أن ما قرب من المرعى لا يحمى، بل يترك لمسان الإبل. ولما في معناها من حاشية المال وضعافها التي لا تقوى على الإمعان في طلب المرعى.

ومن هذا الباب حديثه الآخر، أخبرناه ابن داسة، نا أبو داود، نا محمد بن [ ص: 479 ] أحمد القرشي، نا عبد الله بن الزبير، نا فرج بن سعيد، حدثني عمي ثابت بن سعيد، عن أبيه، عن جده، عن أبيض بن حمال أنه سأل رسول الله عن حمى الأراك، فقال: "لا حمى في الأراك". قال: أراكة في حظاري. قال النبي عليه السلام: "لا حمى في الأراك". قال: فرج يعني بالحظار الأرض التي فيها الزرع المحاط عليها، وقال الليث بن المظفر: هو الحظار بفتح الحاء، وهو حائط الحظيرة، ويقال: حظر فلان على نعمه حظيرة.

قال أبو سليمان: ونرى -والله أعلم- أنه إنما لم يحم له الأراكة التي في حظاره؛ لأنها أرض قد كان أحياها، وهذه الأراكة فيها، فملك الأرض بما أحدث فيها من العمارة، ولم يكن له صنع في الأراكة فيملكها، فبقيت على أصل الإباحة، والأصل أن كل ما كان له نفع عاجل، وللمسلمين فيه مرفق لم يجز حماه ولا إقطاعه؛ ألا ترى أن رسول الله لما أقطعه الملح الذي بمأرب، فقال رجل: يا رسول الله، إنما أقطعت له الماء العد، رجعه منه.

التالي السابق


الخدمات العلمية