صفحة جزء
وقال أبو سليمان في حديث النبي صلى الله عليه أنه قال: "إن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم".

ذكره أبو عبيد في كتابه فقال: الحبط أن تأكل الدابة فتكثر حتى ينتفخ لذلك بطنها، أو تمرض عنه. يقال حبطت تحبط حبطا.

قال أبو سليمان: وهذا حديث طويل لم يذكر أبو عبيد منه إلا هذا الفصل، وفيه أمثال ومعان يحتاج إلى ذكرها وتفسير المشكل منها، ونحب أن نسرد الحديث بطوله لنبين مواضعها منه. فحدثني أحمد بن إبراهيم بن مالك، نا بشر بن موسى، نا الحميدي، نا سفيان، نا محمد بن عجلان: أنه سمع عياض بن عبد الله بن أبي سرح العامري يقول: سمعت أبا سعيد الخدري يقول: قال رسول الله صلى الله عليه على المنبر: "إن أخوف ما أخاف عليكم ما يخرج الله من نبات الأرض وزهرة الدنيا" فقام رجل فقال: يا رسول الله، وهل يأتي الخير بالشر؟ فقال رسول الله: "إن الخير لا يأتي إلا بالخير، ولكن الدنيا حلوة خضرة، ومما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم، إلا آكلة [ ص: 711 ] الخضر تأكل حتى إذا امتدت خاصرتاها استقبلت الشمس فثلطت وبالت، ثم عادت فأكلت، ثم أفاضت فاجترت، من أخذ مالا بحقه بورك له فيه، ومن أخذ مالا بغير حقه لم يبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع".

قوله: "إن الخير لا يأتي إلا بالخير، ولكن الدنيا حلوة خضرة" مثل يريد أن جمع المال واكتسابه غير محرم، ولكن الاستكثار منه والخروج من حد الاقتصاد فيه ضار، كما أن الاستكثار من المأكل مسقم، والاقتصاد فيه محمود. ونظير هذا من الكلام قول الأحنف بن قيس. وقيل له: الحياء خير كله، فقال: إن منه ضعفا، يريد أن ما خرج من حد الاعتدال لم يكن خيرا، لكن ذلك يستحيل ضعفا وخورا، كالجود إذا أفرط صار سرفا، وكالشجاعة إذا أفرطت صارت تهورا، وكالحزم إذا أفرط صار جبنا إلى ما أشبه هذا.

وقوله: "الدنيا حلوة خضرة" فإن العرب تسمي الشيء المشرق خضرا، تشبيها له بالنبات الأخضر، ويقال: إنما سمي الخضر خضرا لحسنه وإشراق وجهه. ويقال: بل سمي خضرا لأنه كان إذا جلس في مكان اخضر ما حوله. يقول: إن الدنيا حسنة المنظر مونقة، تعجب الناظرين، وتحلى في أعينهم فيدعوهم حسنها إلى الاستكثار منها، فإذ فعلوا ذلك تضرروا به كالماشية إذا استكثرت من المرعى حبطت. وسمعت الأزهري في هذا الحديث يقول: هما مثلان.

أما قوله: "وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطا أو يلم" فهو مثل [ ص: 712 ] المفرط الحريص على جمع المال، ومنعه من حقه، وذلك أن الربيع ينبت أحرار العشب التي تحلوليها الماشية فتستكثر منها حتى تنتفخ بطونها فتهلك، كذلك الذي يجمع الدنيا ويحرص عليها، ويمنع ذا الحق حقه منها يهلك في الآخرة بدخول النار، واستيجاب العذاب.

وأما مثل المقتصد المحمود فقوله صلى الله عليه: "إلا آكلة الخضر، فإنها أكلت حتى إذا امتلأت خواصرها استقبلت عين الشمس فثلطت وبالت ثم أرتعت" وذلك أن الخضر ليس من أحرار البقول التي تستكثر منها الماشية، فتنهكه أكلا، ولكنه من الجنبة التي ترعاها بعد هيج العشب ويبسها. وأكثر ما رأيت العرب يقولون: الخضر لما كان أخضر من الحلي الذي لم يصفر، والماشية من الإبل ترتع منه سنا سنا، ولا تستكثر منه، ولا تحبط بطونها عنه، وقد ذكره طرفة فبين أنه ينبت في الصيف فقال:


كبنات المخر يمأدن إذا أنبت الصيف عساليج الخضر

فالخضر من كلأ الصيف في القيظ، وليس من أحرار بقول الربيع، والنعم لا تستوبله ولا تحبط بطونها عنه.

وقال أبو سليمان في حروف من حديث طهفة بن أبي زهير النهدي لما وفد على رسول الله صلى الله عليه، وقد رواه ابن قتيبة في كتابه من طريق الليث بن أبي سليم، عن حبة العرني وفسره فقال فيه: "قد نشف المدهن، ويبس الجعثن، وسقط الأملوج، ومات العسلوج".

قال ابن قتيبة: الأملوج جمعه الأماليج، وهو ورق كالعيدان، يكون [ ص: 713 ] لضرب من شجر البر، وفيه أيضا. ولنا نعم أغفال لا تبض ببلال، ووقير قليل الرسل كثير الرسل، أصابته سنة حمراء مؤزلة، ليس بها علل ولا نهل. قال ابن قتيبة: الوقير الغنم. والرسل: اللبن، والرسل: ما يرسل منها إلى المرعى، يريد أنها كثيرة العدد، قليلة اللبن. وفيه أيضا: ولكم العارض والفريش. قال ابن قتيبة: العارض المريضة، وهي التي أصابها كسر، والفريش هي التي وضعت حديثا كالنفساء من النساء. قال: وقال الأصمعي: فرس فريش إذا حمل عليها بعد النتاج بسبع، وهي كالربى، وفيه أيضا لا يمنع سرحكم، ولا يعضد طلحكم، ولا يحبس دركم، ما لم تضمروا الإماق، وتأكلوا الرباق، قال ابن قتيبة: وأصله الإمآق، ثم تخفف الهمزة وهو من المأقة، والمأقة الأنفة والحدة. يقال رجل مئق إذا كان ذلك فيه، وإنما أراد بالإماق هاهنا النكث والغدر، وسمي ذلك إماقا لأنه يكون من الأنفة والحمية من أن يسمعوا أو يطيعوا ويذعنوا بما ألزموه في أموالهم. هذا كله في كتاب ابن قتيبة.

قال أبو سليمان : وحدثنا بهذا الحديث بطوله ابن الأعرابي، نا أبو سعيد الحارثي، نا عبد الرحمن بن يحيى بن سعيد العذري، نا شريك بن عبد الله النخعي، عن العوام بن حوشب، عن الحسن، عن عمران بن الحصين، فقال فيه: قد نشف المدهن، ويبس الجعثن، وسقط الأملوج من البكارة، وفسره العذري فقال: يريد البكر السمين يدركه الهزال.

قال أبو سليمان : يريد أن السمن الذي قد علاه بما ارتعى من هذا الشجر [ ص: 714 ] قد سقط عنه فسماه باسم المرعى إذ كان سببا له، كقول الشاعر يصف غيثا:


أقبل في المستن من ربابه     أسنمة الآبال في سحابه

وقوله: ووقير قليل الرسل كثير الرسل. قال العذري قوله: كثير الرسل: أي شديد التفرق في طلب المرعى.

قال أبو سليمان : هذا أشبه من قول ابن قتيبة إنها كثيرة العدد قليلة اللبن؛ لأن الحال التي ذكرها أشبه بصفة الجدب، وكيف يصفها بكثرة العدد، وهو يقول في أول هذا الحديث مات الودي، وهلك الهدي، والهدي الإبل، وهي أبقى على السنة من الغنم، فإذا هلك الإبل كيف تسلم الغنم، وتنمى حتى يكثر عددها، وإنما الوجه ما قاله العذري، وهو أنه وصف قلة المرعى، وعز الشجر، وأن الغنم تنتشر في طلب الرعي أرسالا متفرقين. وقال العذري: في روايته ولكم الفارض والفريض، مكان الفريش، والفريض والفارض: المسن، ومن هذا قوله: لا فارض ولا بكر وفي هذه الرواية ما لم تضمروا الرماق وتأكلوا الرياق. قال العذري: والرماق النفاق.

قال أبو سليمان : وهذا هو المحفوظ، وهو مصدر رامقني رماقا، وهو نظر الكاشح الذي يضمر العداوة. فذلك النظر منه يدل على نغل الضمير، وسوء الدخلة. يقول ما لم يفعلوا هذا ولم يخالف ظاهر أمركم باطنه.

وفيه وجه آخر: وهو أن يكون ذلك من قولك رمقت على فلان بمعنى [ ص: 715 ] ضيقت عليه. وعيش فلان رماق: أي ضيق، ومعروفه رماق: أي يسير. قال الراجز:


ما وجز معروفك بالرماق     ولا مؤاخاتك بالمذاق

يقول: ما لم تضق صدوركم من أداء الحق الواجب في أموالكم ولم تمتنعوا من ذلك؛ لأنه نفاق ونكث للعهد.

التالي السابق


الخدمات العلمية