صفحة جزء
التصحيف وسوء التأويل.

إن طالب الحديث إذا أغفل معرفة الأبواب الثلاثة التي قدمنا ذكرها لم يكد يسلم من التصحيف وسوء التأويل; وذلك لأن فيما يرد من الحديث ألفاظا كثيرة متشابهة في الصورة والخط، متنافية في المعنى والحكم، فحق على طالب الحديث أن يرفق في تأمل مواضع الكلام، ويحسن التأني لمحنة اللفظ، ومعرفة ما يليق به من المعنى، ليستوضح به قصده، ويصيب جهته، فإن قوما أغفلوا تفقد هذا الباب فلحقتهم سمة التحريف ولزمتهم هجنة التقصير، وصاروا سبة على أهل الحديث تنثى زلاتهم وتذكر عثراتهم.

حدثني عبد العزيز بن محمد المسكي، نا محمد بن عبد الله بن الجنيد نا سويد، نا ابن المبارك، عن ابن جريج، سمعت ابن أبي مليكة، يقول: أخبرني عبد الله بن أبي عمار قال: سرقت لي عيبة ومعنا رجل يتهم، فقال [ ص: 58 ] أصحابي: يا فلان، اردد عليه عيبته، فقال: ما أخذتها فجئت إلى عمر بن الخطاب، فأخبرته القصة وقلت: يا أمير المؤمنين، لقد هممت أن آتي به مصفودا، قال: تأتيني به مصفودا بغير بينة، وغضب، فما كتب لي فيها وما سأل.

قال الخليل: هذا مما صحف فيه الراوي، إنما قال له عمر: تعترسه بمعنى تقهره وتظلمه، قال: وذلك لأنه لو أقام عليه البينة لم يكن في الحكم أن يكتفه.

وأخبرنا ابن الأعرابي قال: نا العباس بن محمد الدوري، عن يحيى بن معين، وذكر حديث أبي الدرداء أتقنوا عليك البنيان وتركوك لمتلك أي لمصرعك.

قال يحيى بن معين: صحفه فلان فرواه: لمثلك.

قال يحيى: وصحف فلان حديث أبي عبيدة: أنه كان على الحسر فرواه: على الجسر. والحسر: جمع حاسر، وهو الذي لا درع عليه.

قال: وصحف في حديث يرويه شبابة عن ورقاء فيه عبر [ ص: 59 ] الوادي، فقال: عبر الوادي، وإنما هو العبر، يريد شاطئ الوادي، قال النابغة:


ترمي أواذيه العبرين بالزبد

.

ومن تصحيف بعض الرواة في الحديث الذي يروى إن صمتم حتى تكونوا كالأوتار، وصليتم حتى تكونوا كالحنائر .

رواه كالجنائز، وإنما هي الحنائر جمع حنيرة، وهي القوس لا وتر عليها. والحنيرة أيضا: الطاق المعقود من طيقان البناء.

وفي حديث يأجوج ومأجوج أنها إذا هلكت أكلت منها دواب الأرض، فتسمن وتشكر شكرا ) ، بلغني عن بعضهم أنه كان يقول: تسكر سكرا، من سكر الشراب، وإنما هي تشكر أي تمتلئ شبعا .

أخبرني أبو عمر، أنا أبو العباس ثعلب، عن عمر بن شبة، قال: قيل لمحمد بن واسع: ما للقراء أغلم الناس؟ قال: لأنهم لا يزنون، قال: فما بالهم آكل الناس؟ قال: لأنهم لا يشكرون; أي لا يمتلئون شبعا.

واستقصاء هذا الباب يطول، وإنما أردت التنبيه لمنتحلي الحديث; لئلا [ ص: 60 ] يضاهوا مذهب من ذكرناهم، فيخرجوا به من جملة من عدله الرسول في قوله (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله .. ) الحديث.

التالي السابق


الخدمات العلمية