صفحة جزء
وقال أبو سليمان في حديث معاوية أن عمرو بن مسعود دخل عليه وقد أسن وطال عمره فقال له معاوية : كيف أنت وكيف حالك ؟ فقال : ما تسأل يا أمير المؤمنين عمن ذبلت بشرته وقطعت ثمرته ، فكثر منه ما يحب أن يقل ، وصعب منه ما يحب أن يذل ، وسحلت مريرته بالنقض ، وأجم النساء وكن الشفاء ، وقل انحياشه ، وكثر ارتعاشه ، فنومه سبات ، وليله هبات ، وسمعه خفات ، وفهمه تارات .

أخبرناه ابن الأعرابي وابن الزيبقي ، ودخل حديث أحدهما في الآخر .

قال ابن الأعرابي : نا ابن أبي الدنيا ، ثنا محمد بن عباد بن موسى ، نا محمد بن عبد الله الخزاعي قال : حدثني رجل من بني سليم .

وقال ابن الزيبقي : حدثني أبي ، عن جدي ، عن هشام بن محمد ، عن أبيه ، عن رجل من قريش .

قوله : ذبلت بشرته : أي قل ماؤها وذهبت نضارتها .

[ ص: 523 ] والبشرة : ما يباشره البصر من ظاهر بدن الإنسان ، والأدمة : باطن البدن ، وفي ذبول البشرة وجه آخر ، وهو أن يكون كناية عن الفرج ، يريد أنه قد ضعف واسترخى .

قال سفيان بن عيينة في قوله عز وجل : وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم أراد بالجلود الفروج .

وقوله : قطعت ثمرته يريد ذهاب الزرع وانقطاع النسل ، وهو ثمرة الإنسان ، وهو يؤيد التأويل الآخر في ذبول البشرة .

وقوله : كثر منه ما يحب أن يقل ، يريد آفات الكبر كالسهو والغلط ونحوهما وكالبوال والذنين وما أشبههما من العلل .

وأما صعوبة ما يحب أن يذل فإنه يريد بذلك ما يعرض للمشايخ من جسو المفاصل فيقل معه اللين واللدونة التي بها يكون مطاوعة القبض والبسط من الأعضاء .

وقوله : سحلت مريرته بالنقض ، فإن المريرة الحبل المفتول والسحل : أن يفتل الغزل طاقة واحدة ، يقال : خيط سحيل ، فإذا فتل طاقتين فهو مبرم ، قال زهير :


يمينا لنعم السيدان وجدتما على كل حال من سحيل ومبرم



[ ص: 524 ] وقال ابن هرمة :


أرى الناس في أمر سحيل فلا تكن     له صاحبا حتى ترى الأمر مبرما

وإنما جعل الحبل وانتقاضه مثلا لانحلال بدنه وانتقاض قواه .

وقوله : أجم النساء أي ملهن وعافهن كما يعاف الطعام .

ويقال : أجمت اللحم إذا أكثرت منه حتى تعافه .

وقوله : قل انحياشه أي حركته وتصرفه في الأمور ، إلا أن الحركة الضرورية بالارتعاش قد كثرت منه وغلبت عليه .

والسبات : نوم المريض والشيخ المسن ، وهو الغشية الخفيفة .

يقال : سبت الرجل فهو مسبوت ، ويقال : إنه مأخوذ من السبت وهو القطع ، وذلك لأنه سريع الانقطاع .

ويقال : إنما سمي آخر أيام الجمعة سبتا لانقطاع الأيام عنده ، وذلك أن أولها يوم الأحد ، والسبت أيضا السير السريع ، قال الشاعر :


ومطوية الأقراب أما نهارها     فسبت وأما ليلها فذميل

والخفات ضعف الحس ، يريد أنه لا يدرك الصوت إلا كهيئة السرار ، والخفوت خفض الصوت ، ومنه المخافتة في الكلام ، قال الله تعالى : ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها . وإنما قيل للميت : خافت لانقطاع [ ص: 525 ] صوته . والخفات من خفت بمنزلة الصمات من صمت والسكات من سكت .

وقوله : وليله هبات فإن الهبات من الهبت وهو اللين والاسترخاء ويقال : في فلان هبتة أي ضعف عقل ، وقد هبت السحاب بالمطر إذا أرخت عزاليها ، قال الشاعر :


سقيا مجلجلة ينهل وابلها     من باكر مستهل الودق مهبوت

كأنه يريد أن نومه بالليل إنما هو بقدر أن تسترخي أعضاؤه من غير أن يستغرق نوما ، ولو قيل : وليله هبات من هب النائم من نومه كان جيدا إلا أن الرواية متبعة . [ويروى مهتوت ، بتاءين أي مصبوب] .

وشبيه بهذا حديث أبي العريان ، أخبرناه ابن الأعرابي ، نا عبد الكريم بن الهيثم ، نا إبراهيم بن بشار ، نا سفيان بن عيينة ، عن عبد الملك بن عمير ، قال : دخلوا على أبي العريان يعودونه فقالوا : كيف تجدك ؟ قال : أجدني يبيض مني ما كنت أحب أن يسود ، واسود مني ما كنت أحب أن يبيض ، ولان مني ما كنت أحب أن يشتد ، واشتد مني ما كنت أحب أن يلين . ألا أخبرك بآيات الكبر :


تقارب الخطو وسوء في البصر     وقلة الطعم إذا الزاد حضر



[ ص: 526 ]

وقلة النوم إذا الليل اعتكر     وكثرة النسيان فيما يدكر
وتركك الحسناء في قبل الطهر     والناس يبلون كما يبلى الشجر

ألا أخبركم بجيد العنب ؟ هو ما روى عموده واخضر عوده وتفرق عنقوده .

ألا أخبركم بجيد الرطب ؟ هو ما كثر لحاؤه ورق سحاؤه وصغر نواه .

التالي السابق


الخدمات العلمية