فصل
قال بعض الحنابلة:
القرآن كلام الله منزل، غير مخلوق، منه بدا وإليه يعود، تكلم به في القدم بحرف وصوت، حرف يكتب وصوت يسمع، ومعنى يعلم. وقالت المعتزلة: القرآن مخلوق، وقالت الأشعرية: كلام الله ليس بحرف ولا صوت، وإنما هو معنى قائم في نفسه لم ينزل على نبينا -صلى الله عليه وسلم- ولا على غيره، وما نقرأه عندهم مخلوق، فالدلالة على المعتزلة قوله تعالى:
إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون . فأخبر -تعالى- أنه كون الأشياء بكن، فلو كانت كن مخلوقة لاحتاجت إلى كن أخرى تخلق بها، والأخرى إلى أخرى إلى ما لا نهاية له فيفضي إلى قدم المخلوقات.
[ ص: 397 ] وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس -رضي الله عنه- وجماعة من المفسرين في قوله تعالى:
قرآنا عربيا غير ذي عوج أي: غير مخلوق.
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=8علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: (ما حكمت مخلوقا، وإنما حكمت كلام الله) ، فإن احتجوا بقوله تعالى:
ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه ، فالجواب: أي: محدث التنزيل؛ لأن الله -تعالى- تكلم به في القدم، فلما بعث
محمدا -صلى الله عليه وسلم- أنزله عليه، ويقال لهم قوله:
[ ص: 398 ] " من ذكر " من للتبعيض، وهذا يدل أن ثم ذكرا قديما، وعندهم ليس ثم ذكر قديم.
ومن الدليل على ما قلناه: قوله تعالى:
وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله . والمسموع إنما هو الحرف والصوت، لا المعنى؛ لأن العرب تقول: سمعت الكلام وفهمت المعنى، ولا تقول: سمعت المعنى. فلما قال:
حتى يسمع دل على أنه الحرف والصوت؛ ولأن الاستجارة إنما حصلت للمشركين بشرط استماع كلام الله، فلو كان ما سمعوه من النبي -صلى الله عليه وسلم- ليس بكلام الله لم تحصل الاستجارة لهم، ولأنه قال:
يريدون أن يبدلوا كلام الله فلا يجوز أن يكون كلاما لم يصل إليهم؛ لأن ما لم يصل إليهم لا يتأتى لهم تبديله، فلم يبق إلا أن يكون الحرف والصوت، ولأنه قال تعالى:
فلما أتاها نودي من شاطئ الواد الأيمن والنداء عند جميع أهل اللغة لا يكون إلا بحرف وصوت، ولأنه قال:
على أن يأتوا بمثل هذا القرآن وعند أهل اللغة: هذا إشارة إلى شيء حاضر، فلو كان قائما في نفسه لم يصح الإشارة إليه، ولأن الله -تعالى- امتحن العرب بالإتيان بمثل هذا القرآن، فلو كان معنى قائما في النفس لم يجز أن يمتحنهم بذلك؛ لأن فيه تكليف ما لا يطاق، ولا يجوز ذلك على الله -تعالى- لم يبق إلا أن يكون امتحنهم بما سمعوه من الحرف والصوت .
[ ص: 399 ]
وقد أجمع أهل العربية أن ما عدا الحروف والأصوات ليس بكلام حقيقة.