صفحة جزء
فصل

أجمع المسلمون أن القرآن كلام الله، وإذا صح أنه كلام الله صح أنه صفة لله تعالى، وأنه عز وجل موصوف به، وهذه الصفة لازمة لذاته.

تقول العرب: زيد متكلم، فالمتكلم صفة له، إلا أن حقيقة هذه الصفة الكلام، وإذا كان كذلك، كان القرآن كلام الله، وكانت هذه الصفة لازمة له أزلية .

والدليل على أن الكلام لا يفارق المتكلم، أنه لو كان يفارقه لم يكن للمتكلم إلا كلمة واحدة، فإذا تكلم بها لم يبق له كلام، فلما كان المتكلم قادرا على كلمات كثيرة بعد كلمة، دل على أن الكلمات فروع لكلامه الذي هو صفة له ملازمة.

والدليل على أن القرآن غير مخلوق: أنه كلام الله، وكلام الله سبب إلى خلق الأشياء، قال الله عز وجل: إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون . أي أردنا خلقه، وإيجاده، وإظهاره.

فقوله: كن، كلام الله وصفته، والصفة التي منها يتفرع الخلق والفعل وبها يتكون المخلوق لا تكون مخلوقة، ولا يكون مثلها للمخلوق.

[ ص: 194 ] والدليل عليه: أنه كلام لا يشبه كلام المخلوقين، وهو كلام معجز ، وكلام المخلوقين غير معجز، لو اجتمع الخلق على أن يأتوا بمثل سورة من سوره أو آية من آياته، عجزوا عن ذلك ولم يقدروا عليه .

قال أهل اللغة: اللفظ في كلام العرب الإخراج. يقال: لفظت الشيء عن الشيء: أخرجته منه. فاللفظ: كلام مخرج عن الفم، له معنى يفهمه السامع ، وإذا لم يكن هكذا لا يسمونه لفظا.

يقولون: لفظ فلان صحيح، أي كلامه صحيح. قال الله تعالى: ما يلفظ من قول . أي: لا يتكلم بشيء، فدل هذا على أن اللفظ قول وكلام. والعرب تريد باللفظ الملفوظ، لأنه وإن كان مصدرا ، فالمصدر في [ ص: 195 ] الحقيقة مفعول به ؛ لأن الفاعل يفعله، فعلى هذا حقيقة اللفظ ما يخرجه الإنسان من فمه ، وقولهم: لفظي بالقرآن مخلوق، وسيلة إلى القول بخلق القرآن، فاللفظ الذي يقوله المتكلم: إما أن ينشئه المتكلم من نفسه ويلفظه من فمه، فذلك لفظه خاصة، ولا يكون استعماله الحلق واللسان لإظهاره لفظا، لأن ذلك تصرف الحلق في ذلك الكلام لازم لداخل الفم غير خارج منه، فلا يسمى لفظا لأنه غير ملفوظ. وإما أن يكون أنشأه غيره، فلفظ هو به من فمه وأداه إلى السامع، فيستعمل في إظهاره حلقه وفمه حتى يخرجه لفظا بلفظ، وحرفا بحرف، فيكون ذلك اللفظ لذلك المتكلم المؤدي، لأنك إذا قرأت قول امرئ القيس:


قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل . . . .

فإن السامع يسمعه منك، وقد لفظ به امرؤ القيس، فإذا قلت: لفظي بقول امرئ القيس كان خطأ ؛ لأن الذي لفظت له ليس بلفظ لك، بل هو لفظ امرئ القيس، وإذا سمعه سامع فقال: ما أحسن لفظ امرئ القيس وقوله، ولا يقول: ما أحسن لفظك وقولك، وإذا قال ذلك كان مخطئا. وهكذا القرآن إذا قرأه قارئ فإنما قرأ كلام الله تعالى ولفظ به، ولم يقرأ مع القرآن كلامه الذي هو لفظه، ولأن المتكلم إذا تكلم بكلام لا يخلو أن يكون لفظه، أو لفظ غيره، ومحال أن يكون لفظه وكلامه غيره معا لفظا واحدا في حالة واحدة، فإذا لم يجز هذا ، صح أن الذي يتلفظ به من القرآن كلام الله عز وجل .

[ ص: 196 ] وقولهم: لفظي بالقرآن مخلوق خطأ؛ لأن قائل هذا يريد أن يتدرج إلى أن يقول القرآن مخلوق، وهو لا يجسر أن يفعله ظاهرا، فيقوله باطنا.

فإن قيل: المراد بقوله لفظي بالقرآن مخلوق: إخراجي القرآن من فمي مخلوق. يقال: هذا مجاز وليس بحقيقة، وحقيقة اللفظ كلام الله له معنى مفهوم، ومتى أمكن أن يحمل الشيء على حقيقته، لم يجز أن يحمل على المجاز؛ لأن الحقيقة أصل صحيح، والمجاز لا أصل له.

ولأن استعمال المتكلم فمه ولسانه لإخراج اللفظ لا يخرج من الفم حتى يكون لفظا، وإنما ذلك عمل يعمله المتكلم داخل الفم من غير أن يخرجه من الفم فلا يكون لفظا بوجه.

فإن قيل: المراد بقوله لفظي بالقرآن مخلوق، أي قراءتي القرآن مخلوقة والقراءة غير القرآن.

يقال: القراءة، والقرآن واحد، يقال: قرأت الشيء قراءة وقرآنا قال الشاعر:


(ضحوا بأشمط عنوان السجود به     يقطع الليل تسبيحا وقرآنا)

قال أهل اللغة: قراءة القرآن جمعه في الفم، فقراءة القرآن بمنزلة استعمال الفم والحلق، ثم إخراجه وإظهاره، وذلك لا يسمى لفظا. فقولهم [ ص: 197 ] لفظي بالقرآن خطأ، ولأن حالفا لو حلف أن لا يسمع القرآن، فسمع قراءة من يقرأ القرآن حنث في يمينه.

ومن الدليل على أن القراءة هي القرآن: أن القرآن يوجد بوجودها، ويعدم بعدمها، وإدخال الباء في قوله: لفظي بالقرآن خطأ لا معنى له، لأن الباء تأتي في العربية على وجوه، وليس لدخولها ها هنا معنى.

فإن قيل: الباء ها هنا للتأكيد والزيادة في الكلام كقولك: رميت بالسهم ورميت السهم. يقال إذا ذهبت الباء بقي لفظي القرآن مخلوق، فيصير المخلوق صفة للقرآن، ويصير القرآن بدلا من اللفظ فيصير القرآن مخلوقا، ولأن لفظه القرآن من فمه قرآن، لأنه لفظ حروفه وكلماته، فتلك الحروف نفس القرآن، فهذا دليل على أن قائل هذا يتدرج إلى القول بخلق القرآن في خفية.

[ ص: 198 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية