صفحة جزء
فإن قال قائل: إن أهل الفقه مجمعون على قول الفقهاء، وطريق كل واحد منهم في الفروع، وأهل النحو مجمعون على طريق البصريين والكوفيين في النحو، وكذلك أهل الكلام مجمعون على طريق واحد منهم من متقدميهم وسلفهم، فأما ما يرجع إلى العقائد فلم يجتمع أهل الإسلام على ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، بل كل فريق يدعي دينه، وينتسب إلى ملته ويقولون: نحن الذي تمسكنا بملة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، واتبعنا طريقته، ومن كان على غير ما نحن عليه كان على غير طريقته، فلم يجز اعتبار هذا الذي تنازعنا فيه بما قلتم.

الجواب: أن كل فريق من المبتدعة إنما يدعي أن الذي يعتقده هو ما كان عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لأنهم كلهم مدعون شريعة الإسلام ملتزمون في الظاهر شعائرها، يرون أن ما جاء به محمد غير أن الطرق تفرقت بهم بعد ذلك، وأحدثوا في الدين ما لم يأذن به الله ورسوله، فزعم كل فريق أنه هو المتمسك بشريعة الإسلام، وأن الحق الذي قام به رسول الله هو الذي يعتقده وينتحله، غير أن الله أبى أن يكون الحق والعقيدة الصحيحة إلا مع أهل الحديث والآثار؛ لأنهم أخذوا دينهم وعقائدهم خلفا عن سلف، وقرنا عن قرن، إلى أن انتهوا إلى التابعين، وأخذه التابعون من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأخذه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا طريق إلى معرفة ما دعا إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الناس من الدين المستقيم، والصراط القويم، [ ص: 224 ] إلا هذا الطريق الذي سلكه أصحاب الحديث، وأما سائر الفرق فطلبوا الدين لا بطريقه لأنهم رجعوا إلى معقولهم، وخواطرهم، وآرائهم، فطلبوا الدين من قبله، فإذا سمعوا شيئا من الكتاب والسنة، عرضوه على معيار عقولهم، فإن استقام قبلوه، وإن لم يستقم في ميزان عقولهم ردوه، فإن اضطروا إلى قبوله، حرفوه بالتأويلات البعيدة، والمعاني المستكرهة، فحادوا عن الحق وزاغوا عنه، ونبذوا الدين وراء ظهورهم، وجعلوا السنة تحت أقدامهم تعالى الله عما يصفون.

وأما أهل الحق فجعلوا الكتاب والسنة إمامهم، وطلبوا الدين من قبلهما، وما وقع لهم من معقولهم وخواطرهم، عرضوه على الكتاب والسنة فإن وجدوه موافقا لهما قبلوه، وشكروا الله حيث أراهم ذلك ووفقهم إليه، وإن وجدوه مخالفا لهم تركوا ما وقع لهم، وأقبلوا على الكتاب والسنة، ورجعوا بالتهمة على أنفسهم، فإن الكتاب والسنة لا يهديان إلا إلى الحق، ورأي الإنسان قد يرى الحق، وقد يرى الباطل، وهذا معنى قولأبي سليمان الداراني: وهو واحد زمانه في المعرفة: ما حدثتني نفسي بشيء إلا طلبت منها شاهدين من الكتاب والسنة، فإن أتت بهما، وإلا رددته في نحرها. أو كلام هذا معناه .

ومما يدل على أن أهل الحديث هم على الحق، أنك لو طالعت جميع كتبهم المصنفة من أولهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم مع اختلاف بلدانهم وزمانهم، وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كل [ ص: 225 ] واحد منهم قطرا من الأقطار، وجدتهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة، ونمط واحد يجرون فيه على طريقة لا يحيدون عنها، ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد ونقلهم واحد، لا ترى بينهم اختلافا، ولا تفرقا في شيء ما وإن قل، بل لو جمعت جميع ما جرى على ألسنتهم، ونقلوه عن سلفهم، وجدته كأنه جاء من قلب واحد، وجرى على لسان واحد، وهل على الحق دليل أبين من هذا؟

قال الله تعالى: أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا . وقال تعالى: واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا .

وأما إذا نظرت إلى أهل الأهواء والبدع، رأيتهم متفرقين مختلفين أو شيعا وأحزابا، لا تكاد تجد اثنين منهم على طريقة واحدة في الاعتقاد، يبدع بعضهم بعضا، بل يرتقون إلى التكفير، يكفر الابن أباه ، والرجل أخاه، والجار جاره، تراهم أبدا في تنازع وتباغض، واختلاف، تنقضي أعمارهم ولما تتفق كلماتهم تحسبهم جميعا وقلوبهم شتى ذلك بأنهم قوم لا يعقلون

أوما سمعت أن المعتزلة مع اجتماعهم في هذا اللقب يكفر [ ص: 226 ] البغداديون منهم البصريين، والبصريون منهم البغداديين، ويكفر أصحاب أبي علي الجبائي ابنه أبا هاشم ، وأصحاب أبي هاشم يكفرون أباه أبا علي ، وكذلك سائر رؤوسهم وأرباب المقالات منهم، إذا تدبرت أقوالهم رأيتهم متفرقين يكفر بعضهم بعضا، ويتبرأ بعضهم من بعض، كذلك الخوارج والروافض فيما بينهم وسائر المبتدعة بمثابتهم. وهل على الباطل دليل أظهر من هذا؟

قال الله تعالى: إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله .

وكان السبب في اتفاق أهل الحديث أنهم أخذوا الدين من الكتاب والسنة، وطريق النقل، فأورثهم الاتفاق والائتلاف. وأهل البدعة أخذوا الدين من المعقولات والآراء، فأورثهم الافتراق والاختلاف، فإن النقل والرواية من الثقات والمتقنين قلما يختلف، وإن اختلف في لفظ أو كلمة، فذلك اختلاف لا يضر الدين، ولا يقدح فيه.

وأما دلائل العقل فقلما تتفق، بل عقل كل واحد يري صاحبه [ ص: 227 ] غير ما يرى الآخر، وهذا بين والحمد لله، وبهذا يظهر مفارقة الاختلاف في مذاهب الفروع اختلاف العقائد في الأصول، فإنا وجدنا أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم، اختلفوا في أحكام الدين فلم يفترقوا، ولم يصيروا شيعا، لأنهم لم يفارقوا الدين، ونظروا فيما أذن لهم فاختلفت أقوالهم وآراؤهم في مسائل كثيرة، مثل مسألة الجد، والمشتركة، وذوي الأرحام، ومسألة الحرام وفي [ ص: 228 ] أمهات الأولاد وغير ذلك مما يكثر تعداده من مسائل البيوع، والنكاح، والطلاق، وكذلك في مسائل كثيرة من باب الطهارة، وهيئات الصلاة، وسائر العبادات، فصاروا باختلافهم في هذه الأشياء محمودين، وكان هذا النوع من الاختلاف رحمة من الله لهذه الأمة حيث أيدهم باليقين، ثم وسع على العلماء النظر فيما لم يجدوا حكمه في التنزيل والسنة، فكانوا مع هذا الاختلاف أهل مودة، ونصح، وبقيت بينهم أخوة الإسلام، ولم ينقطع عنهم نظام الألفة، فلما حدثت هذه الأهواء المردية الداعية صاحبها إلى النار، ظهرت العداوة، وتباينوا وصاروا أحزابا، فانقطعت الأخوة في الدين، وسقطت الألفة. فهذا يدل على أن هذا التباين، والفرقة، إنما حدثت من المسائل المحدثة، التي ابتدعها الشيطان فألقاها على أفواه أوليائه ليختلفوا، ويرمي بعضهم بعضا بالكفر ، فكل مسألة حدثت في الإسلام فخاض فيها الناس فتفرقوا واختلفوا، فلم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا تفرقا، وبقيت بينهم الألفة، والنصيحة، والمودة، والرحمة، والشفقة، علمنا أن ذلك من مسائل [ ص: 229 ] الإسلام يحل النظر فيها، والأخذ بقول من تلك الأقوال لا يوجب تبديعا، لا تكفيرا كما ظهر مثل هذا الاختلاف بين الصحابة والتابعين مع بقاء الألفة والمودة، فكل مسألة حدثت فاختلفوا فيها فأورث اختلافهم في ذلك التولي والإعراض، والتدابر والتقاطع، وربما ارتقى إلى التكفير، علمت أن ذلك ليس من أمر الدين في شيء بل يجب على كل ذي عقل أن يجتنبها، ويعرض عن الخوض فيها، لأن الله شرط في تمسكنا بالإسلام أنا نصبح في ذلك إخوانا فقال سبحانه وتعالى: واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا .

التالي السابق


الخدمات العلمية