فصل
ذكر الشيخ أبو زيد محمد بن أحمد الفقيه المرزوي ، وكان أوحد وقته قال: لما فرغت من درسي على أبي إسحاق إبراهيم بن أحمد المرزوي [ ص: 254 ] وأردت الرجوع إلى أهلي قال لي الشيخ أبو إسحاق: إنك ترجع إلى مرو، ويحدق بك الناس للتفقه فيشغلونك، وما حججت حجة الإسلام، ونفسك تطالبك بذلك فتحتاج أن تنشئ لها سفرة أخرى، فإن كانت بقيت معك بقية من النفقة فقدم الحج حتى تنصرف إلى أهلك بقلب فارغ، وإن ضاقت بك النفقة فعرفني حتى أدبر لك، فقلت: بقي معي ما أرجو أن يقوم بي، فاكترى لي في وسط السنة، وأوصاهم بي، وخرجنا قاصدين إلى المدينة فوصلناها لأيام مضين من رجب، فأقمنا بالمدينة بقية رجب، وإلى النصف من شعبان، وتهنأنا بالزيارات التي بها، ثم خرجنا من المدينة، وأتينا مكة لأربع بقين من شعبان فصمنا بها رمضان، وقضينا نهمتنا من الاعتمار، فأقمنا إلى وقت الحج، وسهل الله تعالى لنا الحج، فحين فرغنا منه أشار علي بعض أصحابي بالخروج على طريق البصرة فإنه أخف في المؤنة، وأقرب إلى خراسان فاكتريت وهيأت أشغالي، وخرجت في البصريين حتى استتب بنا السير، وإذا في القطار الذي أنا فيه رجل من فقهاء البصرة، ومياسيرها، وأمثالها، وإذا القطار بأسره له والمكارون خدمه، فكنا ننزل أوقات الصلوات، وأوقات الرواح نستأنس، ونتذاكر حتى تأكد بيني وبينه الأنس، فأمر جمالي أن يقطر جملي إلى جمله، فيذهب أوقاتنا في المذاكرة حتى إذا قربنا من البصرة قال لي: أيها الفقيه أنت على جناح السفر ولست تنوي الإقامة بالبصرة، وإنما مكثك فيها قدر ما تصلح من شؤونك، وإني أحب أن تنزل عندي أيام مكثك بالبصرة فلا تحتاج إلى [ ص: 255 ] إصلاح منزل، فأجبته إلى ذلك لما صار بيننا من الانبساط، وقدمنا البصرة سالمين، وإذا الرجل من جلة أهل البصرة ينتابه الناس من كل جانب على طبقاتهم لتهنئته، والسلام عليه، وأنزلني حجرة من داره فكان كل يوم يجيء ويصبحني، يذهب إلى بهو له يقعد لسلام الناس حتى إذا انقطع الناس عنه عاد إلى عندي، وكل من جاءه، من أهل العلم ينوه بي عندهم فإذا انصرفوا من عنده دخلوا إلي فهنوني وربما ذاكروني حتى كان بعد أيام دخل عليه شخص، ثم انصرف من عنده، ودخل علي ومعه نفر فألقى إنسان منهم مسألة من الكلام فاعتذرت واستعفيت، وقلت: ليس هذا من علمي، وإنما كان كدحي في الفقه، وما أريد الخوض فيما ليس لي به دربة فذنب بعض الحاضرين، وكلمه في المسألة فوجدته باقعة حسن التصرف في الكلام والاحتيال في دفع مقالة الخصم، فأعجبني حسن تصرفه فزهزهت له فقام وخرج، فلما كان بعد ساعة جاء الشيخ فذكرت له ما أعجبني من كلام من تكلم، وحلاوته بقلبي فقال: هذا من أهل الاعتزال فارق أصحابه، وعاد إلينا، وصار يرد عليهم بعد طول صحبته لهم يقال له: علي بن إسماعيل الأشعري ، فلما أمسينا قمت في الليل لورد لي، ثم أغفيت بعد ذلك من آخر الليل فرأيت في المنام كأني أتيت المدينة في ركب من الناس زائرين، ولم يكن في القوم من زار غيري، وكنت قريب عهد بالزيارة، فأمرتهم فاغتسلوا، ولبسوا أحسن ما عندهم وتقدمت بهم لأزور بهم، فجئت إلى الباب الذي كنت منه فإذا هو مصمت لا خرق فيه فجئت إلى باب آخر فإذا هو كذلك حتى درت على سائر الأبواب يعني أبواب المسجد - فوجدتها مسدودة، وانصرفت، وإذا أصحابي لم أر منهم أحدا فانتبهت مرعوبا، فلما [ ص: 256 ] أصبحنا جاءني الشيخ على عادته يصبحني فقلت له: هل ها هنا عابر يعتمد على قوله، فقد رأيت رؤيا شغل قلبي؟ فقال: نعم. ها هنا رجل ولي لله صاحب كرامات يقرأ في بني حرام كأنه يوحى إليه هذا العلم، ولكن الموضع بعيد فاكتب الرؤيا في رقعة حتى نرسلها مع بعض غلماننا، فيقرأ ويكتب جوابها. فقلت: لا يقنعني ذلك أريد مشافهته بها قال: فاصبر حتى أفرغ من شغل الناس، ثم رجع إلي وأمر ببغله فأسرجت، ووجه معي بعض غلمانه فجئنا بني حرام، وقد أذن لصلاة الظهر فدخلت المسجد، وصليت وتقدم الشيخ وصلى بنا، ثم قمت إليه وإذا كأنه قطعة نور عليه أثر عبادة فتقدمت إليه، وقلت: أنا رسول لبعض من رأى رؤيا فقال: هات فقصصت عليه الرؤيا فقال: قل لصاحب هذه الرؤيا اتق الله وراجع الحق فإن هذا رجل كان على الهدى المستقيم فقرع سمعه شيء من الباطل فأداه إلى قلبه فاستحلاه وتشوشت عقيدته، فقل له: راجع الحق فإن الله عز وجل يقبلك، فإن الأبواب المسدودة هي الطريق إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والطريق إليه الطريق إلى سنته، فلما استحلى الباطل سدت الأبواب بينه وبينه، فعظم في عيني، وقبلت رأسه وخرجت، فلما رجعت إلى المنزل قال لي الشيخ: ما كان منك؟ فقصصت عليه القصة وقلت له: إنه لكما قلت: وحي يوحى إليه، فوجم الشيخ وقال: لعل هذا الرجل أحب الشهرة، ولم يرجع حقيقة عما كان عليه.
[ ص: 257 ] وكأنه حكى الحكاية لغيره فشاعت، وبلغت الأشعري فجاءني بعد ثالثة فقال: قد بلغني رؤياك، وبيننا حرمة الأنس، فأحب أن لا تحكيها للناس، فقلت: أما البصرة فلا أحكيها فطابت نفسه وخرج.
التالي
السابق