صفحة جزء
باب المراقبة

قال الله تعالى: وكان الله على كل شيء رقيبا

أخبرنا أبو نعيم عبد الملك بن الحسين بن محمد بن إسحاق قال: حدثنا أبو عوانة يعقوب بن إسحاق قال: حدثنا يوسف بن سعيد بن مسلم قال: حدثنا خالد بن يزيد قال: حدثنا إسماعيل بن أبي خالد، عن قيس بن أبي حازم، عن جرير بن عبد الله البجلي، قال: جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم في صورة رجل، فقال: يا محمد، ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله والقدر خيره وشره حلوه ومره.

قال: صدقت.

قال: فتعجبنا من تصديقه النبي صلى الله عليه وسلم وهو يسأله قال: فأخبرني ما الإسلام؟ قال: الإسلام أن تقيم الصلاة وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت قال: صدقت.

قال: فأخبرني ما الإحسان؟ قال: الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك قال: صدقت ... ".
الحديث

قال الشيخ: هذا الذي قاله صلى الله عليه وسلم: فإن لم تكن تراه فإنه يراك إشارة إلى حال المراقبة، لأن المراقبة علم العبد باطلاع الرب سبحانه وتعالى عليه واستدامته لهذا العلم مراقبة لربه وهذا أصل كل خير له ولا يكاد يصل إلى هذه الرتبة إلا بعد فراغه من المحاسبة فإذا حاسب نفسه على ما سلف وأصلح حاله في الوقت ولازم طريق الحق وأحسن بينه وبين الله تعالى مراعاة القلب وحفظ مع الله تعالى الأنفاس راقب الله تعالى في عموم أحواله فيعلم أنه سبحانه عليه رقيب ومن قلبه قريب يعلم أحواله ويرى أفعاله ويسمع أقواله ومن تغافل عن هذه الجملة فهو بمعزل عن بداية الوصلة فكيف عن حقائق القربة.

***** سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا بكر الرازي يقول: سمعت الجريري يقول: من لم يحكم بينه وبين الله تعالى التقوى والمراقبة لم يصل إلى الكشف والمشاهدة. [ ص: 330 ]

سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق يقول: كان لبعض الأمراء وزير وكان بين يديه يوما فالتفت إليه بعض الغلمان الذين كانوا وقوفا لا لريبة ولكن لحركة أو صوت أحس به منهم فاتفق أن ذلك الأمير نظر إلى هذا الوزير في تلك الحالة فخاف الوزير أن يتوهم الأمير أنه نظر إليهم لريبة فجعل ينظر إليه كذلك فبعد ذلك اليوم كان هذا الوزير يدخل على هذا الأمير وهو أبدا ينظر إلى جانب حتى توهم الأمير أن ذلك خلقه وحول فيه فهذا مراقبة مخلوق لمخلوق فكيف مراقبة العبد لسيده.

سمعت بعض الفقراء يقول كان أمير له غلام يقبل عليه أكثر من إقباله على غيره من غلمانه ولم يكن أكثرهم قيمة ولا أحسنهم صورة فقالوا له في ذلك فأراد الأمير أن يبين لهم فضل الغلام في الخدمة على غيره فيوما من الأيام كان راكبا ومعه الحشم وبالبعد منهم جبل عليه ثلج فنظر الأمير إلى ذلك الثلج وأطرق رأسه فركض الغلام فرسه ولم يعلم القوم لماذا ركض فلم يلبث إلا يسيرا حتى جاء ومعه شيء من الثلج فقال له الأمير: ما أدراك أني أردت الثلج فقال الغلام: لأنك نظرت إليه ونظر السلطان إلى شيء لا يكون عن غير قصد صحيح.

فقال الأمير: إنما أخصه بإكرامي وإقبالي، لأن لكل أحد شغلا وشغله مراعاة لحظاتي ومراقبة أحوالي. وقال بعضهم: من راقب الله تعالى في خواطره عصمه الله تعالى في جوارحه. وسئل أبو الحسين بن هند: متى يهش الراعي غنمه بعصا الرعاية من مراتع الهلكة؟ فقال: إذا علم أن عليه رقيبا.

وقيل: كان ابن عمر في سفر فرأى غلاما يرعى غنما فقال له: تبيع من هذه الغنم واحدة فقال: إنها ليست لي فقال: قل لصاحبها إن الذئب أخذ منها واحدة فقال العبد: فأين الله فكان ابن عمر يقول بعد ذلك إلى مدة قال ذلك العبد فأين الله.

وقال الجنيد: من تحقق في المراقبة خاف على فوت حظه من ربه عز وجل لا غير. وكان بعض المشايخ له تلامذة فكان يخص واحدا منهم بإقباله عليه أكثر مما يقبل على غيره فقالوا له في ذلك فقال: أبين لكم فدفع إلى كل واحد من تلامذته طائرا [ ص: 331 ] وقال له: اذبحه بحيث لا يراه أحد ودفع إلى هذا أيضا فمضوا ورجع كل واحد منهم وقد ذبح طائره وجاء هذا بالطائر حيا فقال: هلا ذبحته فقال: أمرتني أن أذبحه بحيث لا يراه أحد ولم أجد موضعا لا يراه فيه أحد فقال: لهذا أخصه بإقبالي عليه.

وقال ذو النون: علامة المراقبة إيثار ما آثر الله تعالى وتعظيم ما عظم الله تعالى وتصغير ما صغر الله تعالى.

وقال النصراباذي: الرجاء يحركك إلى الطاعات والخوف يبعدك عن المعاصي والمراقبة تؤديك إلى طرق الحقائق سمعت محمد بن الحسين يقول: سمعت أبا العباس البغدادي يقول سألت جعفر بن نصير عن المراقبة فقال: مراعاة السر لملاحظة الحق سبحانه مع كل خطرة وسمعته يقول: سمعت أبا الحسين الفارسي يقول: سمعت الجريري يقول: أمرنا هذا مبني على فصلين: وهو أن تلزم نفسك المراقبة لله تعالى ويكون العلم على ظاهرك قائما وسمعته يقول: سمعت أبا القاسم البغدادي يقول: سمعت المرتعش يقول: المراقبة مراعاة السر بملاحظة الغيب مع كل لحظة ولفظة. وسئل ابن عطاء ما أفضل الطاعات فقال: مراقبة الحق على دوام الأوقات. وقال إبراهيم الخواص: المراعاة تورث المراقبة والمراقبة تورث خلوص السر والعلانية لله تعالى.

سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول أفضل ما يلزم به الإنسان نفسه في هذه الطريقة المحاسبة والمراقبة وسياسة عمله بالعلم وسمعته يقول: سمعت عبد الله الرازي يقول: سمعت أبا عثمان يقول: قال لي أبو حفص إذا جلست للناس فكن واعظا لقلبك ولنفسك ولا يغرنك اجتماعهم عليك فإنهم يراقبون ظاهرك والله تعالى يراقب باطنك وسمعته يقول: سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت أبا جعفر الصيدلاني يقول: [ ص: 332 ]

سمعت أبا سعيد الخراز يقول: قال لي: بعض مشايخي: عليك بمراعاة سرك والمراقبة قال فبينا أنا يوما أسير في البادية إذ أنا بخشخشة خلفي فهالني ذلك وأردت أن ألتفت فلم ألتفت فرأيت شيئا واقفا على كتفي فانصرف وأنا مراع لسري ثم التفت فإذا أنا بسبع عظيم. وقال الواسطي: أفضل الطاعات حفظ الأوقات وهو أن لا يطالع العبد غير حده ولا يراقب غير ربه ولا يقارن غير وقته.

التالي السابق


الخدمات العلمية