صفحة جزء
باب الفراسة قال الله تعالى : إن في ذلك لآيات للمتوسمين قيل : للمتفرسين ،

أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى قال : أخبرنا أحمد بن علي بن الحسين الرازي قال : أخبرنا محمد بن أحمد بن السكن قال : حدثنا موسى بن داود قال : حدثنا محمد بن كثير الكوفي قال : حدثنا عمرو بن قيس ، عن عطية ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله تعالى ،

قال الأستاذ : الفراسة خاطر يهجم على القلب فينفي ما يضاده وله على القلب حكم اشتقاقا من فريسة السبع وليس في مقابلة الفراسة مجوزات للنفس وهي على حسب قوة الإيمان فكل من كان أقوى إيمانا كان أحد فراسة

وقال أبو سعيد الخراز : من نظر بنور الفراسة نظر بنور الحق وتكون مواد علمه من الحق بلا سهو ،

ولا غفلة بل حكم حق جرى على لسان عبد ،

وقوله : نظر بنور الحق يعني بنور خصه به الحق سبحانه ،

وقال الواسطي : إن الفراسة سواطع أنوار لمعت في القلوب وتمكين معرفة حملت السرائر في الغيوب من غيب إلى غيب حتى يشهد الأشياء من حيث أشهده الحق سبحانه إياها فيتكلم على ضمير الخلق ،

ويحكى عن أبي الحسن الديلمي أنه قال : دخلت أنطاكية لأجل أسود قيل لي إنه يتكلم على الأسرار فأقمت فيها إلى أن أخرج من جبل لكام ومعه شيء من المباح يبيعه وكنت جائعا منذ يومين لم آكل شيئا فقلت له : بكم هذا وأوهمت أني أشتري ما بين يديه فقال : اقعد ثم حتى إذا بعناه نعطيك [ ص: 387 ] ما تشتري به شيئا فتركته وسرت إلى غيره أوهمه أني أساومه ثم رجعت إليه وقلت له إن كنت تبيع هذا فقل لي بكم ؟ فقال : إنما جعت يومين اقعد ثم حتى إذا بعناه نعطيك ما تشتري به شيئا فقعدت فلما باعه أعطاني شيئا ومشى فتبعته فالتفت إلي وقال إذا عرض لك حاجة فأنزلها بالله تعالى إلا أن يكون لنفسه بها حظ فتحجب عن الله تعالى ،

وسمعت محمد بن الحسين يقول : سمعت محمد بن عبد الله يقول : سمعت الكتاني يقول الفراسة مكاشفة اليقين ومعاينة الغيب وهي من مقامات الإيمان ،

وقيل : كان الشافعي ومحمد بن الحسن رحمهما الله تعالى في المسجد الحرام فدخل رجل فقال محمد بن الحسن : أتفرس أنه نجار ، وقال الشافعي : أتفرس أنه حداد فسألاه فقال : كنت قبل هذا حدادا والساعة أنجر وقال أبو سعيد الخراز : المستنبط من يلاحظ الغيب أبدا ولا يغيب عنه ولا يخفى عليه شيء وهو الذي دل عليه قوله تعالى : لعلمه الذين يستنبطونه منهم والمتوسم هو الذي يعرف الوسم وهو العارف بما في سويداء القلوب بالاستدلال والعلامات قال الله تعالى : إن في ذلك لآيات للمتوسمين أي للعارفين بالعلامات التي يبديها على الفريقين من أوليائه وأعدائه والمتفرس ينظر بنور الله تعالى وذلك سواطع أنوار لمعت في قلبه فأدرك بها المعاني وهو من خواص الإيمان والذين هم أكثر من حظا الربانيون قال الله تعالى : كونوا ربانيين يعني : علماء حكماء متخلقين بأخلاق الحق نظرا وخلقا وهم فارغون عن الإخبار عن الخلق والنظر إليهم والاشتغال بهم وقيل : كان أبو القاسم المنادي مريضا وكان كبير الشأن من مشايخ نيسابور فعاده [ ص: 388 ] أبو الحسن البوشنجي ، والحسن الحداد ، واشتريا بنصف درهم تفاحا في الطريق نسيئة وحملاه إليه فلما قعدا قال أبو القاسم : ما هذه الظلمة فخرجا وقالا : إيش فعلنا ؟ وتفكرا فقالا : لعلنا لم نؤد ثمن التفاح فأعطيا الثمن وعادا إليه فلما وقع بصره عليهما قال : يمكن الإنسان أن يخرج من الظلمة بهذه السرعة أخبراني عن شأنكما فذكرا له القصة فقال : نعم كان يعتمد كل واحد منكما على صاحبه في إعطاء الثمن والرجل يستحي منكما في التقاضي فكان يتقي التبعة وأنا السبب إنما رأيت ذلك فيكما وكان أبو القاسم المنادي هذا يدخل السوق كل يوم ينادي فإذا وقع بيده ما فيه كفايته من دانق إلى نصف درهم خرج وعاد إلى رأس وقته ومراعاة قلبه ، وقال الحسين بن منصور

الحق إذا استولى على سر ملكه الأسرار فيعاينها ويخبر عنها ، وسئل بعضهم عن الفراسة فقال : أرواح تتقلب في الملكوت فتشرف على معاني الغيوب فتنطق عن أسرار الخلق نطق مشاهدة لا نطق ظن وحسبان ، وقيل : كان بين زكريا الشختني وبين امرأة سبب قبل توبته فكان يوما واقفا على رأس أبي عثمان الحيري بعد ما صار من خواص تلامذته فتفكر في شأنها فرفع أبو عثمان رأسه إليه وقال : أما تستحيي ،

قال الأستاذ الإمام رحمه الله كنت في ابتداء وصلتي بالأستاذ أبي علي رضي الله عنه عقد لي المجلس في مسجد المطرز فاستأذنته وقتا للخروج إلى نسا فأذن لي فكنت أمشي معه يوما في طريق مجلسه فخطر ببالي ليته يتوب عني في مجالسي أيام غيبتي فالتفت إلي وقال أنوب عنك أيام غيبتك في عقد المجالس فمشيت قليلا فخطر ببالي أنه عليل يشق عليه أن ينوب عني في الأسبوع يومين فليته يقتصر على يوم واحد في الأسبوع فالتفت إلي وقال : إن لم يمكني في الأسبوع يومان أنوب عنك في الأسبوع مرة واحدة فمشيت معه قليلا ، فخطر ببالي شيء ثالث فالتفت إلي وصرح بالإخبار عنه على القطع ،

سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول : سمعت جدي أبا عمرو بن نجيد يقول : كان شاه الكرماني حاد الفراسة لا يخطئ ويقول : من غض بصره عن المحارم [ ص: 389 ] وأمسك نفسه عن الشهوات وعمر باطنه بدوام المراقبة وظاهره باتباع السنة وتعود أكل الحلال لم تخطئ فراسته ، وسئل أبو الحسن النوري من أين تولدت فراسة المتفرسين فقال : من قوله تعالى : ونفخت فيه من روحي فمن كان حظه من ذلك النور أتم كانت مشاهدته أحكم وحكمه بالفراسة أصدق ألا ترى كيف أوجب نفخ الروح فيه السجود له بقوله تعالى : فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين

قال الأستاذ : وهذا الكلام من أبي الحسن النوري فيه أدنى غموض وإبهام بذكر نفخ الروح لا لتصويب من يقول بقدم الأرواح ولا كما يلوح لقلوب المستضعفين فإن الذي يصح عليه النفخ والاتصال والانفصال فهو قابل للتأثير والتغيير وذلك من سمات الحدوث وإن الله سبحانه وتعالى خص المؤمنين ببصائر وأنوار بها يتفرسون وهي في الحقيقة معارف وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم فإنه ينظر بنور الله أي : بعلم وبصيرة يخصه الله تعالى به ويفرده به من دون أشكاله ، وتسمية العلوم والبصائر أنوار غير مستبدع ولا يبعد وصف ذلك بالنفخ والمراد منه الخلق ،

وقال الحسين بن منصور : المتفرس هو المصيب بأول مرماه إلى مقصده ولا يعرج على تأويل وظن وحسبان وقيل : فراسة المريدين تكون ظنا يوجب تحقيقا وفراسة العارفين تحقيق يوجب حقيقة وقال أحمد بن عاصم الأنطاكي : إذا جالستم أهل الصدق فجالسوهم بالصدق فإنهم جواسيس القلوب يدخلون في قلوبكم ويخرجون منها من حيث لا تحسون ،

سمعت محمد بن الحسين يقول : سمعت منصور بن عبد الله يقول : سمعت [ ص: 390 ] الخلدي يقول : سمعت أبا جعفر الحداد يقول : الفراسة أول خاطر بلا معارض فإن عارض معارض من جنسه فهو خاطر وحديث نفس ،

ويحكى عن أبي عبد الله الرازي نزيل نيسابور قال كساني ابن الأنباري صوفا ورأيت على رأس الشبلي قلنسوة ظريفة تليق بذلك الصوف فتمنيت في نفسي أن يكونا جميعا لي فلما قام الشبلي من مجلسه التفت إلي فتبعته وكان عادته إذا أراد أن أتبعه يلتفت إلي فلما دخل داره دخلت فقال : انزع الصوف فنزعته فلفه وطرح القلنسوة عليه ودعا بنار فأحرقهما ،

وقال أبو حفص النيسابوري : ليس لأحد أن يدعي الفراسة ولكن يتقي الفراسة من الغير ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : اتقوا فراسة المؤمن ولم يقل تفرسوا وكيف يصح دعوى الفراسة لمن هو في محل اتقاء الفراسة وقال أبو العباس بن مسروق : دخلت على شيخ من أصحابنا أدعوه فوجدته على حال رثة فقلت في نفسي : من أين يرتزق هذا الشيخ فقال : يا أبا العباس دع عنك هذه الخواطر الدنيئة فإن لله ألطافا خفية ،

ويحكى عن الزبيدي قال : كنت في مسجد ببغداد مع جماعة من الفقراء فلم يفتح علينا بشيء أياما فأتيت الخواص لأسأله شيئا فلما وقع بصره علي قال : الحاجة التي جئت لأجلها يعلمها الله تعالى أم لا فقلت : بلى فقال : اسكت ولا تبدها لمخلوق فرجعت ولم ألبث إلا قليلا حتى فتح علينا بما فوق الكفاية وقيل : كان سهل بن عبد الله يوما في الجامع فوقع حمام في المسجد من شدة ما لحقه من الحر والمشقة فقال سهل : إن شاه الكرماني مات الساعة إن شاء الله تعالى فكتبوا ذلك فكان كما قال ،

وقيل : خرج أبو عبد الله التروغندي وكان كبير الوقت إلى طوس فلما بلغ خر وقال لصاحبه اشتر الخبز فاشترى ما يكفيهما فقال : اشتر أكثر فاشترى صاحبه ما يكفي عشرة أنفس تعمدا فكأنه لم يجعل لقول ذلك الشيخ تحقيقا قال فلما صعدنا إلى الجبل إذا بجماعة قيدتهم اللصوص لم يأكلوا منذ مدة فسألونا الطعام فقال : قدم إليهم السفرة [ ص: 391 ] قال الأستاذ الإمام رضي الله عنه كنت بين يدي الأستاذ أبي علي رحمه الله يوما فجرى حديث الشيخ أبي عبد الرحمن السلمي رحمه الله وأنه يقوم في السماع موافقة للفقراء فقال الأستاذ أبو علي مثله في حاله لعل السكون أولى به ثم قال في ذلك المجلس امض إليه فتجده وهو قاعد في بيت كتبه وعلى وجه الكتب مجلدة حمراء مربعة صغيرة فيها أشعار الحسين بن منصور فاحمل تلك المجلدة ولا تقل له شيئا وجئني بها وكان وقت هاجر فدخلت عليه وإذا هو في بيت كتبه والمجلدة موضوعة بحيث ذكر فلما قعدت أخذ الشيخ أبو عبد الرحمن في الحديث وقال كان بعض الناس ينكر على أحد من العلماء حركته في السماع فرأى ذلك الإنسان يوما خاليا في بيت وهو يدور كالمتواجد فسئل عن حاله فقال : كانت مسألة مشكلة علي فتبين لي معناها فلم أتمالك من السرور حتى قمت أدور فقيل له مثل هذا يكون حالهم فلما رأيت ما أمرني به الأستاذ أبو علي وما وصف لي على الوجه الذي قال وجرى على لسان الشيخ أبي عبد الرحمن ما كان قد ذكره به تحيرت وقلت : كيف أفعل بينهما ثم فكرت في نفسي وقلت : لا وجه إلا الصدق فقلت : إن الأستاذ أبا علي وصف لي هذه المجلدة وقال لي احملها إلي من غير أن تستأذن الشيخ وأنا هو ذا أخافك وليس يمكنني مخالفته فأي شيء تأمر فأخرج مسدسا من كلام الحسين وفيه تصنيف له سماه كتاب الصيهور في نقض الدهور وقال : احمل هذا إليه وقل له : إني أطالع تلك المجلدة وأنقل منها أبياتا إلى مصنفاتي فخرجت ،

ويحكى عن الحسن الحداد أنه قال : كنت عند أبي القاسم المنادي وعنده جماعة من الفقراء فقال لي : اخرج وائتهم بشيء فسررت حيث أذن لي في التكلف للفقراء وأن آتيهم بشيء بعد ما علم فقري قال : فأخذت مكتلا وخرجت فلما أتيت سكة سيار رأيت شيخا بهيا ، فسلمت عليه وقلت : جماعة من الفقراء في موضع فهل لك أن تتخلق معهم بشيء فأمر حتى إذا أخرج إلي شيئا من الخبز واللحم والعنب فلما بلغت الباب ناداني أبو القاسم المنادي من وراء [ ص: 392 ] الباب : رده إلى الموضع الذي أخذته منه فرجعت واعتذرت إلى الشيخ وقلت : لم أجدهم وعرضت بأنهم تفرقوا فرددت السبب عليه ثم جئت إلى السوق ففتح علي بشيء فحملته فقال : ادخل فقصصت عليه القصة فقال : نعم ذاك ابن سيار رجل سلطاني إذا جئت للفقراء بشيء فأتهم بمثل هذا لا بمثل ذاك ،

وقال أبو الحسين القرافي : زرت أبا الخير التيناتي فلما ودعته خرج معي إلى باب المسجد فقال : يا أبا الحسين أنا أعلم أنك لا تحمل معك معلوما ولكن احمل هاتين التفاحتين فأخذتهما ووضعتهما في جيبي وسرت فلم يفتح لي بشيء ثلاثة أيام فأخرجت واحدة منهما وأكلتها ثم أردت أن أخرج الثانية فإذا هما جميعا في جيبي فكنت آكل منهما ويعودان إلى باب الموصل فقلت في نفسي : إنهما يفسدان علي حال توكلي إذا صارتا معلوما لي فأخرجتهما من جيبي بمرة فنظرت فإذا فقير ملفوف في عباءة يقول : أشتهي تفاحة فناولتهما إياه فلما عبرت وقع لي أن الشيخ إنما بعثهما إليه وكنت في رفقة في الطريق فانصرفت إلى الفقير فلم أجده ،

سمعت محمد بن الحسين يقول : سمعت عبد الله بن علي يقول : سمعت أبا عمر بن علوان يقول : كان شاب يصحب الجنيد وكان يتكلم على خواطر الناس فذكر للجنيد فقال له الجنيد : إيش هذا الذي ذكر عنك ؟ فقال للجنيد : أعتقد شيئا فقال : اعتقدت فقال الشاب : اعتقدت كذا وكذا فقال الجنيد : لا فقال : اعتقد ثانيا ففعل فقال : اعتقدت كذا وكذا فقال : لا فقال : ثالثا فقال : مثله فقال الشاب : هذا عجب أنت صدوق وأنا أعرف قلبي فقال الجنيد : صدقت في الأول والثاني والثالث ولكني أردت أن أمتحنك هل يتغير قلبك ، [ ص: 393 ]

وسمعته يقول : سمعت أبا عبد الله الرازي يقول اعتل ابن الرقي فحمل إليه دواء في قدح فأخذه ثم قال : وقع اليوم في المملكة حدث لا آكل ولا أشرب حتى أعلم ما هو فورد الخبر بعده بأيام أن القرمطي دخل مكة في ذلك اليوم وقتل بها تلك المقتلة العظيمة ،

سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالى يقول : سمعت أبا عثمان المغربي يقول : ذكر لابن الكاتب هذه الحكاية فقال : هذا عجب له فقلت : ليس هذا بعجب فقال لي أبو علي بن الكاتب : إيش خبر مكة حرسها الله تعالى اليوم فقلت : ذا تحارب الطلحيون وبنو الحسن ومقدم الطلحيين أسود عليه عمامة حمراء وعلى مكة اليوم غيم على مقدار الحرم فكتب أبو علي إلى مكة فكان كما ذكرت ،

ويروى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : دخلت على عثمان رضي الله عنه وكنت رأيت في الطريق امرأة تأملت محاسنها فقال عثمان رضي الله عنه : يدخل علي أحدكم وآثار الزنا ظاهرة على عينه فقلت : أوحي بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لا ولكن تبصرة وبرهان وفراسة صادقة ،

وقال أبو عبيد الخراز : دخلت المسجد الحرام فرأيت فقيرا عليه خرقتان يسأل شيئا فقلت في نفسي : مثل هذا كل على الناس فنظر إلي وقال : واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه قال : فاستغفرت في سري فناداني وقال : وهو الذي يقبل التوبة عن عباده

وحكي عن إبراهيم الخواص أنه قال : كنت ببغداد في جامع المدينة وهناك جماعة من الفقراء فأقبل شاب ظريف طيب الرائحة حسن الحرمة حسن الوجه فقلت لأصحابنا : يقع لي أنه يهودي فكلهم كرهوا ذلك فخرجت وخرج الشاب ثم رجع إليهم وقال : إيش قال الشيخ في ؟ [ ص: 394 ] فاحتشموه فألح عليهم فقالوا : قال : إنك يهودي ،

قال : فجاءني وأكب على يدي وأسلم ؟ فقيل له : ما السبب ؟ قال : نجد في كتبنا أن الصديق لا تخطئ فراسته فقلت : أمتحن المسلمين فتأملتهم فقلت : إن كان فيهم صديق ففي هذه الطائفة ، لأنهم يقولون حديثه سبحانه فلبست عليكم فلما اطلع هذا الشيخ علي وتفرس في علمت أنه صديق وصار الشاب من كبار الصوفية ،

سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي رحمه الله يقول : سمعت عبد الله بن إبراهيم بن العلاء يقول : سمعت محمد بن داود يقول : كنا عند الجريري رحمه الله فقال : هل فيكم من إذا أراد الحق سبحانه أن يحدث في المملكة حدثا أعلمه قبل أن يبديه قلنا : لا فقال : ابكوا على قلوب لم تجد من الله تعالى شيئا وقال أبو موسى الديلمي : سألت عبد الرحمن بن يحيى عن التوكل فقال : لو أدخلت يدك في فم التنين حتى تبلغ الرسغ لا تخف مع الله تعالى شيئا غيره قال : فخرجت إلى أبي يزيد سأله عن التوكل فدققت الباب فقال : أليس لك في قول عبد الرحمن كفاية فقلت : افتح الباب فقال : ما زرتني أتاك الجواب من وراء الباب ولم يفتح لي الباب قال فمضيت ولبثت سنة ثم قصدته فقال : مرحبا جئتني زائرا فكنت عنده شهرا فكان لا يخطر بقلبي شيء إلا حدثني عنه فعند وداعه قلت : أفدني فائدة فقال : حدثني أخي أنها كانت حاملا بي ، فكانت إذا قدم لها طعام من حلال امتدت يدها إليه ، وإذا كان فيه شبهة انقبضت يدها عنه ،

وقال إبراهيم الخواص دخلت البادية فأصابتني شدة فلما بلغت مكة داخلني شيء من الإعجاب فنادتني عجوز يا إبراهيم كنت معك في البادية ، فلم أكلمك لأني لم أرد أن أشغل سرك أخرج عنك هذا الوسواس ،

وحكي أن الفرغاني كان يخرج كل سنة إلى الحج ويمر بنيسابور ولا يدخل على أبي عثمان الحيري قال : فدخلت عليه مرة وسلمت فلم يرد علي السلام فقلت في نفسي : [ ص: 395 ]

مسلم يدخل عليه ويسلم فلا يرد سلامه فقال أبو عثمان : مثل هذا يحج ويدع أمه لا يبرها قال : فرجعت إلى فرغانة ولزمتها حتى ماتت ثم قصدت أبا عثمان ، فلما دخلت استقبلني وأجلسني ، ثم إن الفرغاني لازمه وسأله سياسة دابته فولاه ذلك حتى مات أبو عثمان وقال خير النساج : كنت جالسا في بيتي فوقع لي أن الجنيد بالباب فنفيت عن قلبي فوقع ثانيا وثالثا فخرجت فإذا بالجنيد فقال : لم لم تخرج مع الخاطر الأول وقال محمد بن الحسين البسطامي دخلت على أبي عثمان المغربي فقلت : في نفسي لعله يتشهى علي شيئا فقال أبو عثمان : لا يكفي الناس أن آخذ منهم حتى يريدوا مسألتي إياهم وقال بعض الفقراء : كنت ببغداد فوقع لي أن المرتعش يأتيني بخمسة عشر درهما لأشتري بها الركوة والحبل والنعل وأدخل البادية قال فدق علي البادية ففتحت فإذا أنا بالمرتعش معه خريقة فقال : خذها فقلت : يا سيدي لا أريدها قال فلم تؤذينا كم أردت فقلت : خمسة عشر درهما فقال : هي خمسة عشر درهما وقال بعضهم في قوله تعالى : أومن كان ميتا فأحييناه أي : ميت الذهن فأحياه الله تعالى بنور الفراسة وجعل له نور التجلي والمشاهدة لا يكون كمن يمشي بين أهل الغفلة غافلا ، وقيل : إذا صحت الفراسة ارتقى صاحبها إلى المشاهدة ،

سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن يقول : سمعت محمد بن الحسين البغدادي يقول : سمعت جعفر بن محمد بن نصير يقول : سمعت أبا العباس بن مسروق يقول : [ ص: 396 ]

قدم عليها شيخ فكان يتكلم علينا في هذا الشأن بكلام حسن وكان عذب اللسان جيد الخاطر فقال لنا في بعض كلامه : كل ما وقع لكم في خاطركم فقولوه لي فوقع في قلبي أنه يهودي وكان الخاطر يقوى ولا يزول فذكرت ذلك للجريري فكبر عليه ذلك فقلت : لا بد أن أخبر الرجل بذلك فقلت له : تقول لنا ما وقع لكم في خاطركم فقولوه لي إنه يقع لي أنك يهودي فأطرق ساعة ثم رفع رأسه فقال : صدقت أشهد أن لا إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله وقال : قد مارست جميع المذاهب وكنت أقول إن كان مع قوم منهم شيء فمع هؤلاء فداخلتكم لأختبركم فأنتم على الحق وحسن إسلامه ،

ويحكى عن الجنيد أنه كان يقول له السري تكلم على الناس فقال الجنيد : وكان في قلبي حشمة من الكلام على الناس فإني كنت أتهم نفسي في استحقاق ذلك فرأيت ليلة النبي صلى الله عليه وسلم في المنام وكانت ليلة جمعة فقال لي : تكلم على الناس فانتبهت وأتيت باب السري قبل أن أصبح فدققت عليه الباب فقال : لم ليلة جمعة فقال لي : فقال : لم تصدقنا حتى قيل لك فقعد للناس في الجامع بالغد فانتشر في الناس أن الجنيد قعد يتكلم على الناس فوقف عليه غلام نصراني متنكرا وقال له : أيها الشيخ ما معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم اتقوا فراسة المؤمن فإن المؤمن ينظر بنور الله تعالى فأطرق الجنيد ثم رفع رأسه وقال أسلم فقد حان وقت إسلامك فأسلم الغلام ، [ ص: 397 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية