صفحة جزء
باب أحكامهم في السفر قال الله تعالى : هو الذي يسيركم في البر والبحر

أخبرنا علي بن أحمد بن عبدان قال : أخبرنا أحمد بن عبيد البصري قال : حدثنا محمد بن الفرج الأزرق قال : أخبرنا حجاج قال : قال ابن جريح أخبرني أبو الزبير أن عليا الأزدي أخبره أن ابن عمر علمهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على البعير خارجا على سفر كبر ثلاثا ، ثم قال : سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين 13 وإنا إلى ربنا لمنقلبون ثم يقول : اللهم إنا نسألك في سفرنا هذا البر والتقوى ومن العمل ما ترضى وهون علينا سفرنا اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل والمال ، اللهم إني أعوذ بك من وعثاء السفر وكآبة المنقلب وسوء المنظر في المال والأهل ، فإذا رجع قالهن وزاد فيهن : آيبون تائبون لربنا حامدون

قال الأستاذ : لما كان رأى كثير من هذه الطائفة اختيار السفر أفردنا لذكر السفر في هذه الرسالة بابا لكونه من أعظم شأنهم ، وهذه الطائفة مختلفون ، فمنهم من آثر الإقامة على السفر ، ولم يسافر إلا لفرض كحجة الإسلام والغالب عليهم الإقامة مثل الجنيد ، وسهل بن عبد الله ، وأبي يزيد البسطامي ، وأبي حفص ، وغيرهم ، ومنهم من آثر السفر وكانوا على ذلك إلى أن خرجوا من الدنيا مثل أبي عبد الله المغربي ، وإبراهيم بن أدهم وغيرهم ، وكثير منهم سافروا في ابتداء أمورهم في حال ابتداء شبابهم أسفارا كثيرة ، ثم قعدوا عن السفر في [ ص: 451 ] آخر أحوالهم مثل أبي عثمان الحيري والشبلي وغيرهم ، ولكل منهم أصول بنوا عليها طريقتهم ،

واعلم أن السفر على قسمين : سفر بالبدن وهو الانتقال من بقعة إلى بقعة ، وسفر بالقلب وهو الارتقاء من صفة إلى صفة ، فترى ألفا يسافر بنفسه وقليل من يسافر بقلبه ،

سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق رحمه الله تعالى يقول : كان بفرخك قرية بظاهر نيسابور شيخ من شيوخ هذه الطائفة وله على هذا اللسان تصانيف سأله بعض الناس هل سافرت أيها الشيخ فقال : سفر الأرض أم سفر السماء ؟ سفر الأرض لا ، وسفر السماء بلى ، وسمعته رحمه الله تعالى يقول : جاءني بعض الفقراء يوما وأنا بمرو فقال لي : قطعت إليك شقة بعيدة ، والمقصود لقاؤك ، فقلت له : كان يكفيك خطوة واحدة لو سافرت عن نفسك وحكاياتهم في السفر تختلف على ما ذكرنا من أقسامهم في أحوالهم ،

سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول : سمعت محمد بن علي العلوي يقول : سمعت جعفر بن محمد يقول : سمعت أحنف الهمداني يقول : كنت في البادية وحدي فأعييت فرفعت يدي وقلت : يا رب ضعيف زمن وقد جئت إلى ضيافتك فوقع في قلبي أن يقال لي : من دعاك ؟ فقلت : يا رب هي مملكة تحتمل الطفيلي ، فإذا أنا بهاتف من ورائي فالتفت فإذا أعرابي على راحلة فقال : يا أعجمي إلى أين قلت : إلى مكة حرسها الله تعالى ،

قال : أودعاك قلت : لا أدري ، فقال : أليس قال : من استطاع إليه سبيلا ، فقلت : المملكة واسعة تحتمل الطفيلي ، فقال : أطفيلي أنت ؟ يمكنك أن تخدم الجمل ؟ قلت : نعم ، فنزل عن راحلته وأعطانيها وقال : سر عليها ،

سمعت محمد بن عبد الله الصوفي يقول : سمعت محمد بن أحمد النجار يقول : سمعت [ ص: 452 ] الكتاني وقد قال له بعض الفقراء أوصني قال اجتهد أن تكون كل ليلة ضيف مسجد ، وأن لا تموت إلا بين منزلين ،

ويحكى عن الحصري أنه كان يقول : جلسة خير من ألف حجة ، وإنما أراد جلسة تجمع الهم على نعت الشهود ولعمري أنها أتم من ألف حجة على وصف الغيبة عنه ،

سمعت محمد بن أحمد الصوفي يقول : سمعت عبد الله بن علي التميمي يقول حكي عن محمد بن إسماعيل الفراغاني أنه قال : كنا نسافر مقدار عشرين سنة وأنا وأبو بكر الزقاق والكتاني لا نختلط بأحد ولا نعاشر أحدا فإذا قدمنا بلدا فإن كان فيه شيخ سلمنا عليه وجالسناه إلى الليل ثم نرجع إلى مسجد فيصلي الكتاني في أول الليل إلى آخره ويختم القرآن ويجلس الزقاق مستقبل القبلة ، وكنت أستلقي متفكرا ثم نصبح ونصلي صلاة الفجر على وضوء العتمة ، فإذا وقع معنا إنسان ينام كنا نراه أفضلنا ،

سمعت محمد بن الحسين يقول : سمعت عبد الله بن علي يقول : سمعت عيسى القصار يقول : سئل رويم عن أدب السفر فقال : أن لا يجاوز همه قدمه ، وحيثما وقف قلبه يكون منزله ، وحكي عن مالك بن دينار أنه قال : أوحى الله تعالى إلى موسى عليه السلام اتخذ نعلين من حديد وعصا من حديد ثم سح في الأرض واطلب الآثار والعبر حتى تنخرق النعلان وتنكسر العصا ، وقيل : كان أبو عبد الله المغربي يسافر أبدا ومعه أصحابه وكان يكون محرما ، فإذا تحلل من إحرامه ثانيا ، ولم ينسج له ثوب ، ولا طال له ظفر ولا شعر ، وكان يمشي معه أصحابه بالليل وراءه فكان إذا حاد أحدهم عن الطريق يقول يمينك يا فلان يسارك يا فلان وكان لا يمد يده إلى ما وصلت إليه يد الآدميين وكان طعامه أصل شيء من النبات يؤخذ فيقطع لأجله ،

وقيل : كل صاحب تقول له قم فيقول : إلى أين ، فليس بصاحب وفي معناه أنشدوا : [ ص: 453 ]


إذا استنجدوا لم يسألوا من دعاهم لأية حرب أم لأي مكان



وحكي عن أبي علي الرباطي قال : صحبت عبد الله المروزي وكان يدخل البادية قبل أن أصحبه بلا زاد ولا راحلة فلما صحبته قال لي : أيما أحب إليك تكون أنت الأمير أم أنا ؟ فقلت : لا بل أنت فقال : وعليك الطاعة فقلت : نعم فأخذ مخلاة ووضع فيها زادا وحملها على ظهره فإذا قلت : أعطني حتى أحملها قال الأمير : أنا وعليك الطاعة ،

قال : فأخذنا المطر ليلة فوقف إلى الصباح على رأسي وعليه كساء يمنع عني المطر ، فكنت أقول في نفسي يا ليتني مت ولم أقل له أنت الأمير ثم قال لي إذا صحبت إنسانا فاصحبه كما رأيتني صحبتك ،

وقدم شاب على أبي الروذباري فلما أراد الخروج قال : يقول الشيخ شيئا فقال : يا فتى كانوا لا يجتمعون عن موعد ولا يتفرقون عن مشورة ،

وعن المزين الكبير قال : كنت يوما مع إبراهيم الخواص في بعض أسفاره فإذا عقرب تسعى على فخذه فقمت لأقتلها فمنعني وقال دعها كل شيء مفتقر إلينا ولسنا مفتقرين إلى شيء غير الله ،

وقال أبو عبد الله النصيبيني : سافرت ثلاثين سنة ما خطت قط خرقة على مرقعتي ولا عدلت إلى موضع علمت أن لي فيه رفيقا ولا تركت أحدا يحمل معي شيئا ،

واعلموا أن القوم استوفوا آداب الحضور من المجاهدات ثم أرادوا أن يضيفوا إليها شيئا فأضافوا أحكام السفر إلى ذلك رياضة لنفوسهم حتى أخرجوها عن المعلومات وحملوها على مفارقة المعارف كي يعيشوا مع الله عز وجل بلا علاقة ولا واسطة فلم يتركوا شيئا من أورادهم في أسفارهم وقالوا الرخص لمن كان سفره ضرورة ونحن لا شغل لنا ولا ضرورة في أسفارنا علينا ،

سمعت أبا صادق بن حبيب قال : سمعت النصراباذي يقول : ضعفت في البادية مرة فأيست من نفسي فوقع بصري على القمر وكان ذلك بالنهار فرأيت مكتوبا عليه فسيكفيكهم الله فاستقللت وفتح علي من ذلك الوقت هذا الحديث ، [ ص: 454 ]

وقال أبو يعقوب السوسي : يحتاج المسافر إلى أربعة أشياء في سفره : علم يسوسه ، وورع يحجزه ، ووجد يحمله ، وخلق يصونه وقيل : سمي السفر سفرا لأنه يسفر عن أخلاق الرجال ،

وكان الكتاني إذا سافر الفقير إلى اليمن ثم رجع إليه مرة أخرى يأمر بهجرانه وإنما كان يفعل ذلك ، لأنهم كانوا يسافرون إلى اليمن ذلك الوقت لأجل الرفق ،

وقيل : كان إبراهيم الخواص لا يحمل شيئا في السفر وكان لا يفارقه الإبرة والركوة أما الإبرة فلخياطة ثوبه إن تمزق سترا للعورة وأما الركوة فللطهارة وكان لا يرى ذلك علاقة ولا معلوما ،

وحكي عن أبي عبد الله الرازي قال : خرجت من طرسوس حافيا وكان معي رفيق فدخلنا بعض قرى الشام فجاءني فقير بحذاء فامتنعت من قبوله فقال : لي رفيق البس هذا فقد عييت فإنه قد فتح عليك بهذا النعل بسببي فقلت : ما لك فقال : نزعت نعلي موافقة لك ورعاية لحق الصحبة ،

وقيل : كان الخواص في سفر ومعه ثلاثة نفر فبلغوا مسجدا في بعض المفاوز وباتوا فيه ولم يكن عليه باب وكان برد شديد فناموا فلما أصبحوا رأوه واقفا على الباب فقالوا له في ذلك فقال : خشيت أن تجدوا البرد وكان قد وقف طول ليلته ،

وقيل : إن الكتاني استأذن أمه في الحج مرة فأذنت له فخرج فأصاب ثوبه البول في البادية فقال : إن هذا لخلل في حالي ، فانصرف ، فلما دق باب داره أجابته أمه ففتحت فرآها جالسة خلف الباب فسألها عن جلوسها فقالت له مذ خرجت اعتقدت أن لا أبرح عن هذا الموضع حتى أراك ،

سمعت محمد بن الحسين يقول : سمعت عبد الله بن محمد الدمشقي يقول : سمعت إبراهيم بن المولد يقول : سمعت إبراهيم القصار يقول سافرت ثلاثين سنة أصلح قلوب الناس للفقراء ،

وقيل : زار رجل داود الطائي فقال له : يا أبا سليمان كانت نفسي تنازعني إلى لقائك منذ زمان فقال : لا بأس إذا كانت الأبدان هادئة والقلوب ساكنة فالتلاقي أيسر ، [ ص: 455 ]

سمعت أبا نصر الصوفي وكان من أصحاب النصراباذي رحمه الله يقول : خرجت من البحر بعمان وقد أثر في الجوع فكنت أمر في السوق فبلغت حانوت حلاوى فرأيت فيه حملانا مشوية وحلواء فتعلقت برجل وقلت اشتر لي من هذه الأشياء فقال : لماذا ألك علي شيء أو عندي دين فقلت : لا بد أن تشتري لي من هذا فرآني رجل فقال : خله يا فتى إن الذي يجب عليه أن يشتري لك ما تريد أنا لا هو اقترح علي واحكم بما تريد ثم اشترى لي ما أردت ومر ،

وحكي عن أبي الحسين المصري قال : اتفقت مع الشجري في السفر من طرابلس فسرنا أياما لم نأكل شيئا فرأيت قرعا مطبوخا فأخذت آكله فالتفت إلي الشيخ ولم يقل شيئا فرميت به وعلمت أنه كرهه ثم فتح علينا بخمسة دنانير فدخلنا قرية فقلت : يشتري لنا شيئا لا محالة فمر ولم يفعل ثم قال لعلك تقول نمشي جياعا ولم تشتر لنا شيئا هو ذا ، فوافى اليهودية قرية على الطريق وثم رجل صاحب عيال إذا دخلناها يشتغل بنا فادفعها إليه لينفقها علينا وعلى عياله فوصلنا إليه ودفع الدنانير إلى الرجل فأنفقها فلما خرجنا قال لي : إلى أين يا أبا الحسين ؟ فقلت : أسير معك فقال : لا إنك تخونني في قرعة وتصحبني لا تفعل وأبى أن أصحبه سمعت محمد بن عبد الله الشيرازي يقول : سمعت أبا أحمد الصغير يقول : سمعت أبا عبد الله بن خفيف يقول : كنت في حال حدثاني استقبلني بعض الفقراء فرأى في أثر الضر والجوع فأدخلني داره وقدم إلي لحما طبخ بالكشك واللحم متغير فكنت آكل الثريد وأتجنب اللحم لتغيره فلقمني لقمة فأكلتها بجهد ثم لقمني ثانية فبلغتني مشقة فرأى ذلك في وخجل وخجلت لأجله فخرجت وانزعجت في الحال للسفر [ ص: 456 ] فأرسلت إلى والدتي من يحمل إلي مرقعتي فلم تعارضني الوالدة ورضيت بخروجي فارتحلت من القادسية مع جماعة من الفقراء فتهنا ونفد ما كان معنا وأشرفنا على التلف فوصلنا إلى حي من أحياء العرب ولم نجد شيئا واضطررنا إلى أن اشترينا منهم كلبا بدنانير وشووه وأعطوني قطعة من لحمه فلما أردت أكله فكرت في حالي فوقع لي أنه عقوبة خجل ذلك الفقير فتبت في نفسي وسكت فدلونا على الطريق فمضيت وحججت ثم رجعت معتذرا إلى الفقير ، [ ص: 457 ]

التالي السابق


الخدمات العلمية