صفحة جزء
[ ص: 19 ] فصل: في بيان اعتقاد هذه الطائفة في مسائل الأصول

اعلموا رحمكم الله أن شيوخ هذه الطائفة بنوا قواعد أمرهم على أصول صحيحة في التوحيد، صانوا بها عقائدهم عن البدع ، ودانوا بما وجدوا عليه السلف وأهل السنة من توحيد ليس فيه تمثيل ولا تعطيل، وعرفوا ما هو حق القدم، وتحققوا بما هو نعت الموجود عن العدم، ولذلك قال سيد هذه الطريقة الجنيد رحمه الله: التوحيد إفراد القدم من الحدث.

[ ص: 20 ] وأحكموا أصول العقائد بواضح الدلائل ، ولائح الشواهد ، كما قال أبو محمد الحريري رحمه الله: من لم يقف على علم التوحيد بشاهد من شواهده ، زلت به قدم الغرور في مهواة من التلف.

يريد بذلك أن من ركن إلى التقليد ، ولم يتأمل دلائل التوحيد سقط عن سنن النجاة، ووقع في أسر الهلاك، ومن تأمل ألفاظهم ، وتصفح كلامهم وجد في مجموع أقاويلهم ومتفرقاتها ما يثق بتأمله بأن القوم لم يقصروا في التحقيق عن شأو ، ولم يعرجوا في الطلب على تقصير.

ونحن نذكر في هذا الفصل جملا من متفرقات كلامهم فيما يتعلق بمسائل الأصول، ثم نحرر على الترتيب بعدها ما يشتمل على ما يحتاج إليه في الاعتقاد على وجه الإيجاز والاختصار إن شاء الله تعالى.

سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي رحمه الله يقول: سمعت عبد الله بن موسى السلامي ، يقول: سمعت أبا بكر الشبلي يقول: الواحد المعروف قبل الحدود وقبل الحروف، وهذا صريح من الشبلي أن القديم سبحانه لا حد لذاته ، ولا حروف لكلامه.

سمعت أبا حاتم الصوفي ، يقول: سمعت أبا نصر الطوسي ، يقول: سئل رويم عن أول فرض افترضه الله عز وجل على خلقه ما هو؟ فقال المعرفة لقوله جل ذكره: وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ، قال ابن عباس: إلا ليعرفون. [ ص: 21 ]

وقال الجنيد: إن أول ما يحتاج إليه العبد من عقد الحكمة معرفة المصنوع صانعه والمحدث كيف كان إحداثه، فيعرف صفة الخالق من المخلوق، وصفة القديم من المحدث، ويذل لدعوته ، ويعترف بوجوب طاعته، فإن لم يعرف مالكه لم يعترف بالملك لمن استوجبه.

أخبرني محمد بن الحسين ، قال: سمعت محمد بن عبد الله الرازي ، يقول: سمعت أبا الطيب المراغي ، يقول: للعقل دلالة، وللحكمة إشارة وللمعرفة شهادة، فالعقل يدل، والحكمة تشير، والمعرفة تشهد أن صفاء العبادات لا ينال إلا بصفاء التوحيد.

وسئل الجنيد عن التوحيد فقال: إفراد الموحد بتحقيق وحدانيته بكمال أحديته أنه الواحد الذي لم يلد ولم يولد بنفي الأضداد والأنداد والأشباه بلا تشبيه ، ولا تكييف ، ولا تصوير ، ولا تمثيل ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .

أخبرنا محمد بن أحمد بن محمد بن يحيى الصوفي ، قال: أخبرنا عبد الله بن علي التميمي الصوفي ، يحكي عن الحسين بن علي الدامغاني ، قال: سئل أبو النصراباذي عن المعرفة فقال: المعرفة: اسم ، ومعناه وجود تعظيم في القلب يمنعك عن التعطيل والتشبيه.

وقال أبو الحسن البوشنجي رحمه الله: التوحيد أن تعلم أنه غير مشبه للذوات ولا منفي الصفات.

أخبرنا الشيخ أبو عبد الرحمن السلمي رحمه الله تعالي ، قال: سمعت محمد بن محمد بن غالب ، قال: سمعت أبا نصر أحمد بن سعيد الإسفنجاني ، يقول: قال الحسين بن منصور: ألزم الكل الحدث؛ لأن القدم له، فالذي بالجسم ظهوره فالعرض يلزمه، والذي بالأداة [ ص: 22 ] اجتماعه فقواها تمسكه، والذي يؤلفه وقت يفرقه وقت، والذي يقيمه غيره فالضرورة تمسه، والذي الوهم يظفر به ، فالتصوير يرتقي إليه، ومن آواه محل أدركه أين ، ومن كان له جنس طالبه مكيف .

إنه سبحانه لا يظله فوق ، ولا يقله تحت ، ولا يقابله حد ، ولا يزاحمه عند، ولا يأخذه خلف ، ولا يحده أمام ، ولم يظهره قبل ، ولم ينفه بعد، ولم يجمعه كل، ولم يوجده كان ، ولم يفقده ليس.

وصفه لا صفة له ، وفعله لا علة له، وكونه لا أمد له، تنزه عن أحوال خلقه ، ليس له من خلقه مزاج ، ولا في فعله علاج، باينهم بقدمه كما باينوه بحدوثهم .

إن قلت: متى فقد سبق الوقت كونه ، وإن قلت: هو فالهاء والواو خلقه، وإن قلت: أين فقد تقدم المكان وجوده ، فالحروف آياته ، ووجوده إثباته ، ومعرفته توحيده ، وتوحيده تمييزه من خلقه [ ص: 23 ] ما تصور في الأوهام فهو بخلافه ، كيف يحل به ما منه بدأ، أو يعود إليه ما هو أنشأه ، لا تماقله العيون ، ولا تقابله الظنون، قربه كرامته ، وبعده إهانته، علوه من غير توقل ، ومجيئه من غير تنقل، هو الأول والآخر والظاهر والباطن ، القريب البعيد الذي ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .

سمعت أبا حاتم السجستاني يقول: سمعت أبا نصر الطوسي السراج ، يحكي عن يوسف بن الحسين ، قال: قام رجل بين يدي ذي النون المصري ، فقال: أخبرني عن التوحيد ما هو؟ فقال: هو أن تعلم أن قدرة الله تعالي في الأشياء بلا مزاج ، وصنعه للأشياء بلا علاج ، وعلة كل شيء صنعه ، ولا علة لصنعه، وليس في السماوات العلا ولا في الأرضين السفلى مدبر غير الله، وكل ما تصور في وهمك فالله بخلاف ذلك.

وقال الجنيد: التوحيد علمك وإقرارك بأن الله فرد في أزليته لا ثاني معه ، ولا شيء يفعل فعله.

وقال أبو عبد الله بن خفيف: الإيمان تصديق القلوب بما علمه الحق من الغيوب. وقال أبو عباس السياري: عطاؤه على نوعين: كرامة ، واستدراج ، فما أبقاه عليك فهو كرامة، وما أزاله عنك فهو استدراج ، فقل: أنا مؤمن إن شاء الله تعالى، وأبو العباس السياري كان شيخ وقته. [ ص: 24 ]

سمعت الأستاذ أبا علي الدقاق رحمه الله يقول: غمز رجل رجل أبي العباس السياري فقال: تغمز رجلا ما نقلتها قط في معصية الله عز وجل.

وقال أبو بكر الواسطي من قال: أنا مؤمن بالله حقا ، قيل له: الحقيقة تشير على إشراف وإطلاع وإحاطة ، فمن فقده بطل دعواه فيها، يريد بذلك ما قاله أهل السنة: إن المؤمن الحقيقي من كان محكوما له بالجنة ، فمن لم يعلم ذلك من سر حكمة الله تعالى فدعواه بأنه مؤمن حقا غير صحيحة.

سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي يقول سمعت منصور بن عبد الله يقول: سمعت أبا الحسن العنبري يقول: سمعت سهل بن عبد الله التستري يقول: ينظر إليه -تعالى- المؤمنون بالأبصار من غير إحاطة ولا إدراك نهاية.

وقال أبو الحسين النوري: شاهد الحق القلوب، فلم ير قلبا أشوق إليه من قلب محمد صلى الله عليه وسلم فأكرمه بالمعراج تعجيلا للرؤية والمكالمة.

سمعت الإمام أبا بكر محمد بن الحسن بن فورك رحمه الله تعالي يقول: سمعت محمد بن المحبوب خادم أبي عثمان المغربي يقول: قال لي أبو عثمان المغربي يوما: يا محمد لو قال لك أحد أين معبودك إيش تقول؟ قال: قلت: أقول حيث لم يزل، قال: فإن قال أين كان في الأزل إيش تقول؟ [ ص: 25 ] قال: قلت: أقول حيث هو الآن ، يعني أنه كما كان ولا مكان ، فهو الآن كما كان ، قال: فارتضى مني ذلك ، ونزع قميصه وأعطانيه.

وسمعت الإمام أبا بكر بن فورك رحمه الله تعالي يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول: كنت أعتقد شيئا من حديث الجهة، فلما قدمت بغداد زال ذلك عن قلبي، فكتبت إلى أصحابنا بمكة إني أسلمت الآن إسلاما جديدا.

سمعت محمد بن الحسين السلمي رحمه الله يقول: سمعت أبا عثمان المغربي يقول - وقد سئل عن الخلق - فقال: قوالب وأشباح تجري عليهم أحكام القدرة.

وقال الواسطي: لما كانت الأرواح والأجساد قامتا بالله وظهرتا به لا بذواتها كذلك قامت الخطوات والحركات بالله لا بذواتها، إذ الحركات والخطوات فروع الأجساد والأرواح، صرح بهذا الكلام أن أكساب العباد مخلوقة لله تعالى، وكما أنه لا خالق للجواهر إلا الله تعالى ، فكذلك لا خالق للأعراض إلا الله تعالى.

سمعت الشيخ أبا عبد الرحمن السلمي رحمه الله يقول: سمعت محمد بن عبد الله يقول: سمعت أبا جعفر الصيدلاني يقول: سمعت أبا سعيد الخراز يقول: من ظن أنه يبذل الجهد يصل إلى مطلوبه فمتعن، ومن ظن أنه بغير الجهد يصل فمتمن. [ ص: 26 ]

وقال الواسطي: المقامات أقسام قسمت ، ونعوت أجريت ، كيف تستجلب بحركات أو تنال بسعايات؟

وسئل الواسطي عن الكفر بالله أو لله ، فقال: الكفر والإيمان والدنيا والآخرة من الله ، وإلى الله ، وبالله ، ولله ، من الله ابتداء وإنشاء ، وإلى الله مرجعا وانتهاء ، وبالله بقاء وفناء، ولله ملكا وخلقا.

وقال الجنيد: سئل بعض العلماء عن التوحيد فقال: هو اليقين، فقال السائل: بين لي ما هو ؟ فقال: هو معرفتك أن حركات الخلق وسكونهم فعل الله عز وجل وحده لا شريك له، فإذا فعلت ذلك فقد وحدته.

سمعت محمد بن الحسين رحمه الله يقول: سمعت عبد الواحد بن علي يقول: سمعت القاسم بن القاسم يقول: سمعت محمد بن موسى الواسطي يقول: سمعت محمد بن الحسين الجوهري يقول: سمعت ذا النون المصري يقول: وقد جاءه رجل فقال: ادع الله لي، فقال: إن كنت قد أيدت في علم الغيب بصدق التوحيد فكم من دعوة مجابة قد سبقت لك، وإلا فإن النداء لا ينقذ الغرقى.

وقال الواسطي: ادعى فرعون الربوبية على الكشف، وادعت المعتزلة على الستر، نقول: ما شئت فعلت.

وقال أبو الحسين النوري: التوحيد كل خاطر يشير إلى الله تعالى ، بعد أن لا تزاحمه خواطر التشبيه.

التالي السابق


الخدمات العلمية