صفحة جزء
المثال العاشر :

إن الغزالي قال في بيعة المفضول مع وجود الأفضل : إن رددنا في مبدأ التولية بين مجتهد في علوم الشرائع وبين متقاصر عنها ، فيتعين تقديم المجتهد . لأن اتباع الناظر علم نفسه له مزية على اتباع علم غيره بالتقليد والمزايا لا سبيل إلى إهمالها مع القدرة على مراعاتها .

أما إذا انعقدت الإمامة بالبيعة أو تولية العهد لمنفك عن رتبة الاجتهاد ، وقامت له الشوكة ، وأذعنت له الرقاب ، بأن خلا الزمان عن قرشي مجتهد مستجمع جميع الشرائط ، وجب الاستمرار .

وإن قدر حضور قرشي مجتهد مستجمع للفروع والكفاية ، وجميع شرائط الإمامة واحتاج المسلمون في خلع الأول إلى تعرضه لإثارة فتن واضطراب أمور ، لم يجز لهم خلعه والاستبدال به ، بل تجب عليهم الطاعة له ، والحكم بنفوذ ولايته ، وصحة إمامته ، لأنا نعلم أن العلم مزية روعيت في الإمامة تحصيلا لمزيد المصلحة في الاستقلال بالنظر والاستغناء عن التقليد ، وأن الثمرة المطلوبة من الإمام تطفئة الفتن الثائرة من تفرق الآراء المتنافرة ، فكيف يستجيز العاقل تحريك الفتنة ، وتشويش النظام ، وتفويت [ ص: 626 ] أصل المصلحة في الحال ؟ تشوفا إلى مزيد دقيقة في الفرق بين النظر والتقليد .

قال : وعند هذا ينبغي أن يقيس الإنسان ما ينال الخلق من الضرر بسبب عدول الإمام عن النظر إلى التقليد ، بما ينالهم لو تعرضوا لخلعه والاستبدال به ، أو حكموا بأن إمامته غير منعقدة .

هذا ما قال ، وهو متجه بحسب النظر المصلحي ، وهو ملائم لتصرفات الشرع ، وإن لم يعضده نص على التعيين .

وما قرره هو أصل مذهب مالك .

: قيل ليحيى بن يحيى : البيعة مكروهة ؟ قال : لا . قيل له : فإن كانوا أئمة جور ؟ فقال : قد بايع ابن عمر لعبد الملك بن مروان ، وبالسيف أخذ الملك . أخبرني بذلك مالك عنه أنه كتب إليه وأمر له بالسمع والطاعة على كتاب الله وسنة نبيه .

قال يحيى : والبيعة خير من الفرقة .

قال : ولقد أتى مالكا العمري فقال له : يا أبا عبد الله ، بايعني أهل الحرمين ، وأنت ترى سيرة أبي جعفر ، فما ترى ؟ فقال له مالك : أتدري ما الذي منع عمر بن عبد العزيز أن يولي رجلا صالحا ؟ فقال العمري : لا أدري ، قال مالك لكني أنا أدري ، إنما كانت البيعة ليزيد بعده ، فخاف عمر إن ولى رجلا صالحا أن لا يكون ليزيد بد من القيام ، فتقوم هجمة فيفسد ما لا يصلح ، فصدر رأي هذا العمري على رأي مالك .

[ ص: 627 ] فظاهر هذه الرواية أنه إذا خيف عند خلع غير المستحق وإقامة المستحق أن تقع فتنة وما لا يصلح ؛ فالمصلحة الترك .

وروى البخاري عن نافع قال : لما خلع أهل المدينة يزيد بن معاوية جمع ابن عمر حشمه وولده ، فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :

ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة وإنا قد بايعنا هذا الرجل على بيعة الله ورسوله ، وإني لا أعلم أحدا منكم خلعه ولا تابع في هذا الأمر إلا كانت الفيصل بيني وبينه .

قال ابن العربي : وقد قال ابن الخياط : إن بيعة عبد الله ليزيد كانت كرها ، وأين يزيد من ابن عمر ؟ ولكن رأى بدينه وعلمه التسليم لأمر الله والفرار عن التعرض لفتنة فيها من ذهاب الأموال والأنفس ما لا يخفى . فخلع يزيد ـ لو تحقق أن الأمر يعود في نصابه ـ [ فيه تعرض لفتنة عظيمة ] فكيف ولا يعلم ذلك ؟ وهذا أصل عظيم فتفهموه والزموه ترشدوا إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية