صفحة جزء
المسألة الرابعة :

إن هذه الأقوال المذكورة آنفا مبنية على أن الفرق المذكورة في الحديث هي المبتدعة في قواعد العقائد على الخصوص ، كالجبرية والقدرية ، والمرجئة وغيرها وهو مما ينظر فيه . فإن إشارة القرآن والحديث تدل على عدم الخصوص ، وهو رأي الطرطوشي ، أفلا ترى إلى قوله تعالى : فأما الذين في قلوبهم زيغ وما في قوله تعالى ما تشابه لا تعطي خصوصا في اتباع المتشابه لا في قواعد العقائد ولا في غيرها ، بل الصيغة تشمل ذلك كله ، فالتخصيص تحكم .

وكذلك قوله تعالى : إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء فجعل ذلك التفريق في الدين ، ولفظ الدين يشمل العقائد وغيرها ، وقوله : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله فالصراط المستقيم هو الشريعة على العموم ، وشبه ما تقدم في السورة من تحريم ما ذبح لغير الله وتحريم الميتة والدم ولحم [ ص: 710 ] الخنزير وغيره ، وإيجاب الزكاة ، كل ذلك على أبدع نظم وأحسن سياق .

ثم قال تعالى : قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا فذكر أشياء من القواعد وغيرها ، فابتدأ بالنهي عن الاشتراك ، ثم الأمر ببر الوالدين ، ثم النهي عن قتل الأولاد ، ثم عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ثم عن قتل النفس بإطلاق ، ثم عن أكل مال اليتيم ، ثم الأمر بتوفية الكيل والوزن ، ثم العدل في القول ، ثم الوفاء بالعهد .

ثم ختم ذلك بقوله : وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله .

فأشار إلى ما تقدم ذكره من أصول الشريعة وقواعدها الضرورية ، ولم يخص ذلك بالعقائد ، فدل على أن إشارة الحديث لا تختص بها دون غيرها .

وفي حديث الخوارج ما يدل عليه أيضا فإنه ذمهم بعد أن ذكر أعمالهم ، وقال في جملة ما ذمهم به :

يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم فذمهم بترك التدبر والأخذ بظواهر المتشابهات ، كما قالوا : حكم الرجال في دين الله ، والله يقول : إن الحكم إلا لله .

وقال أيضا :

ويقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان فذمهم بعكس ما عليه الشرع ، لأن الشريعة جاءت بقتل الكفار والكف عن المسلمين ، وكلا الأمرين غير مخصوص بالعقائد .

فدل على أن الأمر على العموم لا على الخصوص فيما رواه نعيم بن [ ص: 711 ] حماد في هذا الحديث :

أعظمها فتنة الذين يقيسون الأمور برأيهم فيحلون الحرام ويحرمون الحلال وهذا نص في أن ذلك العدد لا يختص بما قالوا من العقائد .

واستدل الطرطوشي على أن البدع لا تختص بالعقائد بما جاء عن الصحابة والتابعين وسار العلماء من تسميتهم الأقوال والأفعال بدعا إذا خالفت الشريعة ، ثم أتى بآثار كثيرة كالذي رواه مالك عن عمه أبي سهيل عن أبيه أنه قال : ما أعرف شيئا مما أدركت عليه الناس إلا النداء بالصلاة يعني بالناس الصحابة ، وذلك أنه أنكر أكثر أفعال عصره ، ورآها مخالفة لأفعال الصحابة .

وكذلك أبو الدرداء سأله رجل فقال : رحمك الله، لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا هل ينكر شيئا مما نحن عليه ؟ فغضب واشتد غضبه ، ثم قال : وهل يعرف شيئا مما أنتم عليه ؟

وفي البخاري عن أم الدرداء قالت : دخل أبو الدرداء مغضبا فقلت له : ما لك ؟ فقال : والله ما أعرف منهم من أمر محمد إلا أنهم يصلون جميعا . وذكر جملة من أقاويلهم في هذا المعنى مما يدل على أن مخالفة السنة في الأفعال قد ظهرت .

وفي مسلم قال مجاهد : دخلت أنا وعروة بن الزبير المسجد فإذا عبد الله بن عمر مستند إلى حجرة عائشة ، وإذا ناس في المسجد يصلون الضحى ، فقلنا : ما هذه الصلاة ؟ فقال : بدعة .

[ ص: 712 ] قال الطرطوشي : فحمله عندنا على أحد وجهين : إما أنهم يصلونها جماعة ، وإما أفذاذا على هيئة النوافل في أعقاب الفرائض . وذكر أشياء من البدع القولية مما نص العلماء على أنها بدع . فصح أن البدع لا تختص بالعقائد . وقد تقررت هذه المسألة في كتاب الموافقات بنوع آخر من التقرير .

التالي السابق


الخدمات العلمية