صفحة جزء
المسألة السابعة في تعيين هذه الفرق

وهي مسألة - كما قال الطرطوشي - طاشت فيها أحلام الخلق ، فكثير ممن تقدم وتأخر من العلماء عينوها، لكن في الطوائف التي خالفت في مسائل العقائد فمنهم من عد أصولها ثمانية ، فقال : كبار الفرق الإسلامية ثمانية : ( 1 ) المعتزلة و ( 2 ) الشيعة ، و ( 3 ) الخوارج ، و ( 4 ) المرجئة ، و ( 5 ) النجارية ، و ( 6 ) الجبرية و ( 7 ) المشبهة ، و ( 8 ) الناجية .

فأما المعتزلة فافترقوا إلى عشرين فرقة وهم : الواصلية ، [ ص: 719 ] والعمرية ، والهذيلية ، والنظامية ، والأسوارية ، والإسكافية ، والجعفرية ، والبشرية ، والمزدارية ، والهشامية ، والصالحية ، والخطابية ، والحدبية ، والمعمرية ، والثمامية ، والخياطية ، والجاحظية ، والكعبية ، والجبائية ، والبهشمية .

وأما الشيعة فانقسموا أولا ثلاث فرق : غلاة . وزيدية ، وإمامية .

فالغلاة ثمان عشرة فرقة وهم : السبئية ، والكاملية ، والبيانية ، والمغيرية ، والجناحية ، والمنصورية ، والخطابية ، والغرابية ، والذمية ، والهشامية ، والزرارية ، واليونسية ، والشيطانية ، والرزامية ، والمفوضة ، والبدائية ، والنصيرية ، والإسماعيلية وهم : الباطنية ، والقرمطية ، والخرمية ، والسبعية ، والبابكية ، والحمدية .

وأما الزيدية فهم ثلاث فرق : الجارودية ، والسليمانية ، والبتيرية .

وأما الإمامية ففرقة واحدة ، فالجميع اثنتان وأربعون فرقة .

وأما الخوارج فسبع فرق ، وهم : المحكمة ، والبيهسية ، والأزارقة ، والنجدات . والعبدية ، والإباضية وهم أربع فرق : الحفصية ، واليزيدية ، والحارثية ، والمطيعية .

وأما العجاردة فإحدى عشرة فرقة وهم : الميمونة ، والشعيبية ، والحازمية ، والحمزية ، والمعلومية ، والمجهولية ، والصلتية ، والثعلبية أربع فرق وهم : الأخنسية ، والمعبدية ، والشيبانية ، والمكرمية ، فالجميع اثنتان وستون .

وأما المرجئة فخمس وهم : العبيدية ، واليونسية ، والغسانية ، [ ص: 720 ] والثوبانية ، والتومنية .

وأما النجارية فثلاث فرق وهم : البرغوثية ، والزعفرانية ، والمستدركة .

وأما الجبرية ففرقة واحدة ، وكذلك المشبهة .

فالجميع اثنتان وسبعون فرقة ، فإذا أضيفت الفرقة الناجية إلى عدد الفرق صار الجميع ثلاثا وسبعين فرقة .

وهذا التعديد بحسب ما أعطته المنة في تكليف المطابقة للحديث الصحيح ، لا على القطع بأنه المراد ، إذ ليس على ذلك دليل شرعي ، ولا دل العقل أيضا على انحصار ما ذكر في تلك العدة من غير زيادة ولا نقصان ، كما أنه لا دليل على اختصاص تلك البدع بالعقائد ، وقال جماعة من العلماء : أصول البدع أربعة ، وسائر الثنتين والسبعين فرقة عن هؤلاء تفرقوا ، وهم : الخوارج ، والروافض ، والقدرية ، والمرجئة .

قال يوسف بن أسباط : ثم تشعبت كل فرقة ثمان عشرة فرقة : فتلك اثنتان وسبعون فرقة ، والثالثة والسبعون هي الناجية .

وهذا التقدير نحو الأول ، ويرد عليه من الإشكال ما ورد على الأول .

فشرح ذلك الشيخ أبو بكر الطرطوشي رحمه الله شرحا يقرب الأمر ، فقال : لم يرد علماؤنا بهذا التقدير أن أصل كل بدعة من هذه الأربع [ ص: 721 ] تفرقت وتشعبت على مقتضى أصل البدع حتى تحملت تلك العدة ، لأن ذلك لعله لم يدخل في الوجود إلى الآن .

قال : وإنما أرادوا أن كل بدعة ضلالة لا تكاد توجد إلا في هذه الفرق الأربع ، وإن لم تكن البدعة الثانية فرعا للأولى ولا شعبة من شعبها ، بل هي بدعة مستقلة بنفسها ليست من الأولى بسبيل .

ثم بين ذلك بالمثال بأن التقدير أصل من أصول البدع ، ثم اختلف أهله في مسائل من شعب القدر ، وفي مسائل لا تعلق لها بالقدر ، فجميعهم متفقون على أن أفعال العباد مخلوقة لهم من دون الله تعالى .

ثم اختلفوا في فرع من فروع القدر . فقال أكثرهم : لا يكون فعل بين فعلين مخلوقين على التولد، وأحال مثله بين القديم والمحدث .

ثم اختلفوا فيما لا يعود إلى القدر في مسائل كثيرة . كاختلافهم في الصلاح والأصلح : فقال البغداديون منهم : يجب على الله تعالى فعل الصلاح لعباده في دينهم .

ويجب عليه ابتداء الخلق الذين علم أنه يكلفهم . ويجب عليه إكمال عقولهم وأقدارهم وإزاحة عللهم .

وقال البصريون منهم : لا يجب على الله إكمال عقولهم ولا أن يؤتيهم أسباب التكليف .

وقال البغداديون منهم : يجب على الله - تعالى عن قولهم - عقاب [ ص: 722 ] العصاة إذا لم يتوبوا، والمغفرة من غير توبة سفه من الغافر .

وأما المصريون منهم ذلك .

وابتدع جعفر بن مبشر من استصر امرأة ليتزوجها فوثب عليها فوطئها بلا ولي ولا شهود ولا رضى ولا عقد حل له ذلك . وخالفه في ذلك سلفه .

وقال ثمامة بن أشرس : إن الله يصير الكفار والملحدين وأطفال المشركين والمؤمنين والمجانين ترابا يوم القيامة لا يعذبهم ولا يرضيهم .

وهكذا ابتدعت كل فرقة من هذه الفرق بدعا تتعلق بأصل بدعتها التي هي معروفة بها . وبدعا لا تعلق لها بها .

فإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد بتفرق أمته أصول البدع التي تجري مجرى الأجناس للأنواع . والمعاقد للفروع لعلهم - والعلم عند الله - ما بلغوا هذا العدد إلى الآن . غير أن الزمان باق والتكليف قائم والخطرات متوقعة . وهل قرن أو عصر يخلو إلا وتحدث فيه البدع ؟

وإن كان أراد بالتفرق كل بدعة حدثت في دين الإسلام مما لا يلائم أصول الإسلام ولا تقبلها قواعده من غير التفات إلى التقسيم الذي ذكرنا كانت البدع أنواعا لأجناس ، أو كانت متغايرة الأصول والمباني .

فهذا هو الذي أراده عليه الصلاة والسلام - والعلم عند الله - فقد وجد من ذلك عدد أكثر من اثنتين وسبعين .

ووجه تصحيح الحديث على هذا ، أن يخرج من الحساب غلاة أهل البدع ، ولا يعدون من الأمة ولا في أهل القبلة ، كنفاة الأعراض من القدرية [ ص: 723 ] لأنه لا طريق إلى معرفة حدوث العالم وإثبات الصانع إلا بثبوت الأعراض ، وكالحلولية والنصيرية وأشباههم من الغلاة .

هذا ما قال الطرطوشي رحمه الله تعالى ، وهو حسن من التقرير ، غير أنه يبقى للنظر في كلامه مجالان :

أحدهما : أن ما اختار من أنه ليس المراد الأجناس ; فإن كان مراده أعيان البدع وقد ارتضى اعتبار البدع القولية والعملية ; فمشكل ، لأنا إذا اعتبرنا كل بدعة دقت أو جلت فكل من ابتدع بدعا كيف كانت لزم أن يكون هو ومن تابعه عليها فرقة ، فلا تقف في مائة ولا مائتين ، فضلا عن وقوعها في اثنتين وسبعين ، وأن البدع - كما قال - لا تزال تحدث مع مرور الأزمنة إلى قيام الساعة .

وقد مر من النقل ما يشعر بهذا المعنى ، وهو قول ابن عباس : ما من عام إلا والناس يحيون فيه بدعة ويميتون فيه سنة ، حتى تحيا البدع وتموت السنن . وهذا موجود في الواقع ، فإن البدع قد نشأت إلى الآن ولا تزال تكثر ، وإن فرضنا إزالة بدع الزائغين في العقائد كلها لكان الذي يبقى أكثر من اثنتين وسبعين فما قاله - والله أعلم - غير مخلص .

والثاني : أن حاصل كلامه أن هذه الفرق لم تتعين بعد ، بخلاف القول المتقدم ، وهو أصح في النظر ، لأن ذلك التعيين ليس عليه دليل ، والعقل لا يقتضيه . وأيضا فالمنازع له أن يتكلف من مسائل الخلاف التي بين الأشعرية [ ص: 724 ] في قواعد العقائد فرقا يسميها ويبرئ نفسه وفرقته عن ذلك المحظور . فالأولى ما قاله من عدم التعيين . وإن سلمنا أن الدليل قام له على ذلك فلا ينبغي التعيين .

أما أولا : فإن الشريعة قد فهمنا منها أنها تشير إلى أوصافهم من غير تصريح ليحذر منها ، ويبقى الأمر في تعيين الداخلين في مقتضى الحديث مرجى ، وإنما ورد التعيين في النادر كما قال عليه الصلاة والسلام فيالخوارج :

إن من ضئضئ هذا قوما يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم الحديث ، مع أنه عليه الصلاة والسلام لم يعرف أنهم ممن شملهم حديث الفرق . وهذا الفصل مبسوط في كتاب الموافقات والحمد لله .

وأما ثانيا : فلأن عدم التعيين هو الذي ينبغي أن يلتزم ليكون سترا على الأمة كما سترت عليهم قبائحهم فلم يفضحوا في الدنيا في الغالب ، وأمرنا بالستر على المؤمنين ما لم تبد لنا صفحة الخلاف ، ليس كما ذكر عن بني إسرائيل أنهم كانوا إذا أذنب أحدهم ليلا أصبح وعلى بابه معصية مكتوبة ، وكذلك في شأن قربانهم : فإنهم كانوا إذا قربوا لله قربانا فإن كان مقبولا عند الله نزلت نار من السماء فأكلته ، وإن لم يكن مقبولا لم تأكله النار ، وفي ذلك افتضاح المذنب . ومثل ذلك في الغنائم أيضا ، فكثير من هذه الأشياء خصت هذه الأمة بالستر فيها .

وأيضا ، فللستر حكمة أخرى ، وهي أنها لو أظهرت مع أن أصحابها من الأمة لكان في ذلك داع إلى الفرقة وعدم الألفة التي أمر الله ورسوله [ ص: 725 ] بها ، حيث قال تعالى : واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وقال تعالى : فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وقال تعالى : ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات وفي الحديث :

لا تحاسدوا ولا تدابروا ولا تباغضوا وكونوا عباد الله إخوانا ، وأمر عليه الصلاة والسلام بإصلاح ذات البين ، وأخبر أن فساد ذات البين هي الحالقة التي تحلق الدين .

فإذا كان من مقتضى العادة أن التعريف بهم على التعيين يورث العداوة بينهم والفرقة ، لزم من ذلك أن يكون منهيا عنه ، إلا أن تكون البدعة فاحشة جدا كبدعة الخوارج ، وذكرهم بعلامتهم حتى يعرفوا ، ويلحق بذلك ما هو مثله في الشناعة أو قريب منه بحسب نظر المجتهد ، وما عدا ذلك فالسكوت عنه أولى .

وخرج أبو داود عن عمرو بن أبي قرة قال :

كان حذيفة بالمدائن فكان يذكر أشياء قالها رسول الله لأناس من أصحابه في الغضب ، فينطلق ناس ممن سمع ذلك من حذيفة فيأتون سلمان فيذكرون له قول حذيفة فيقول سلمان : حذيفة أعلم بما يقول فيرجعون إلى حذيفة [ ص: 726 ] فيقولون له : قد ذكرنا قولك إلى سلمان فما صدقك ولا كذبك . فأتى حذيفة سلمان وهو في مبقلة فقال : يا سلمان ! ما يمنعك أن تصدقني بما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يغضب فيقول لناس من أصحابه ويرضى فيقول في الرضى : أما تنتهي حتى تورث رجالا حب رجال ورجالا بغض رجال . وحتى توقع اختلافا وفرقة ؟ ولقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فقال : أيما رجل سببته سبة أو لعنته لعنة في غضبي فإنما أنا من ولد آدم أغضب كما يغضبون، وإنما بعثني الله رحمة للعالمين أجعلها عليهم صلاة يوم القيامة . فوالله لتنتهين أو أكتبن إلى عمر .

فتأملوا ما أحسن هذا الفقه من سلمان - رضي الله عنه - ! وهو جار في مسألتنا ، فمن هنا لا ينبغي للراسخ في العلم أن يقول : هؤلاء الفرق هم بنو فلان وبنو فلان ! وإن كان يعرفهم بعلامتهم بحسب اجتهاده ، اللهم إلا في موطنين :

أحدهما : حيث نبه الشرع على تعيينهم كالخوارج ، فإنه ظهر من استقرائه أنهم متمكنون تحت حديث الفرق ، ويجري مجراهم من سلك سبيلهم ، فإن أقرب الناس إليهم شيعة المهدي المغربي ، فإنه ظهر فيهم [ ص: 727 ] الأمران اللذان عرف النبي صلى الله عليه وسلم بهما في الخوارج من أنهم يقرؤون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، وأنهم يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ، فإنهم أخذوا أنفسهم بقراءة القرآن وإقرائه حتى ابتدعوا فيه ثم لم يتفقهوا فيه ، ولا عرفوا مقاصده . ولذلك طرحوا كتب العلماء وسموها كتب الرأي وخرقوها ومزقوا أدمها ، مع أن الفقهاء هم الذين بينوا في كتبهم معاني الكتاب والسنة على الوجه الذي ينبغي ، وأخذوا في قتال أهل الإسلام بتأويل فاسد ، زعموا عليهم أنهم مجسمون وأنهم غير موحدين ، وتركوا الانفراد بقتال أهل الكفر من النصارى والمجاورين لهم وغيرهم .

فقد اشتهر في الأخبار والآثار ما كان من خروجهم على علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - وعلى من بعده كعمر بن عبد العزيز رحمه الله وغيرهم ، حتى لقد روي في حديث خرجه البغوي في معجمه عن حميد بن هلال أن عبادة بن قرط غزا فمكث في غزاته تلك ما شاء الله ، ثم رجع مع المسلمين منذ زمان فقصد نحو الأذان يريد الصلاة فإذا هو بالأزارقة - صنف من الخوارج - فلما رأوه قالوا : ما جاء بك يا عدو الله ؟ قال : ما أنتم يا إخوتي ؟ قالوا : أنت أخو الشيطان ، لنقتلنك . قال . ما ترضون مني بما رضي به رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالوا : وأي شيء رضي به منك ؟ قال : أتيته وأنا كافر فشهدت أن لا إله إلا الله وأنه رسول الله فخلى عني - قال - فأخذوه فقتلوه .

وأما عدم فهمهم للقرآن فقد تقدم بيانه ، وقد جاء في القدرية حديث خرجه أبو داود عن ابن عمرو - رضي الله عنهما - ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : القدرية مجوس هذه الأمة ، إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن [ ص: 728 ] ماتوا فلا تشهدوهم .

وعن حذيفة - رضي الله عنه - أنه عليه الصلاة والسلام قال :

لكل أمة مجوس، ومجوس هذه الأمة الذين يقولون : لا قدر ، من مات منهم فلا تشهدوا جنازته ومن مرض منهم فلا تعودوه ، وهم شيعة الدجال ، وحق على الله أن يلحقهم بالدجال وهذا الحديث غير صحيح عند أهل النقل . قال صاحب المغني : لم يصح في ذلك شيء . نعم قول ابن عمر ليحيى بن يعمر حين أخبره أن القول بالقدر قد ظهر : إذا لقيت أولئك فأخبرهم أني بريء منهم وهم برآء مني ، ثم استدل بحديث جبريل - صحيح لا إشكال في صحته .

خرج أبو داود أيضا من حديث عمر - رضي الله عنه - ، عن النبي صلى الله عليه وسلم : لا تجالسوا أهل القدر ولا تفاتحوهم [ ص: 729 ] ولم يصح أيضا .

وخرج ابن وهب عن زيد بن علي قال :

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : صنفان من أمتي لا سهم لهم في الإسلام يوم القيامة : المرجئة والقدرية ، و عن معاذ بن جبل وغيره يرفعه قال : لعنت القدرية والمرجئة على لسان سبعين نبيا آخرهم محمد صلى الله عليه وسلم . وعن مجاهد بن جبر :

أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : سيكون من أمتي قدرية وزنديقية أولئك مجوس .

وعن نافع قال : بينما نحن عند عبد الله بن عمر نعوده إذ جاء رجل فقال : إن فلانا يقرأ عليك السلام - لرجل من أهل الشام - فقال عبد الله : بلغني أنه قد أحدث حدثا ، فإن كان كذلك فلا تقرأن عليه السلام . سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : سيكون في أمتي مسخ وخسف وهو في الزنديقية .

وعن ابن الديلمي قال : أتينا أبي بن كعب فقلت له : وقع في نفسي شيء من القدر فحدثني لعل الله يذهبه من قلبي فقال : لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه عذبهم وهو غير ظالم لهم ، ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم ، ولو أنفقت مثل أحد ذهبا في سبيل [ ص: 730 ] الله ما قبله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، ولو مت على غير هذا لدخلت النار . قال : ثم أتيت عبد الله بن مسعود فقال لي مثل ذلك . قال : ثم أتيت حذيفة بن اليمان فقال مثل ذلك . وفي بعض الحديث :

لا تكلموا في القدر فإنه سر الله وهذا كله أيضا غير صحيح .

وجاء في المرجئة والجهمية شيء لا يصح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلا تعديل عليه .

نعم نقل المفسرون أن قوله تعالى : يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر نزل في أهل القدر . فروى عبد بن حميد عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال :

أتى مشركوا قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت الآية . وروى مجاهد وغيره أنها نزلت في المكذبين بالقدر ، ولكن إن صح ففيه دليل ، وإلا فليس في الآية ما يعين أنهم من الفرق ، وكلامنا فيه .

والثاني : حيث تكون الفرقة تدعو إلى ضلالتها وتزيينها في قلوب العوام ومن لا علم عنده ، فإن ضرر هؤلاء على المسلمين كضرر إبليس ، [ ص: 731 ] وهم من شياطين الإنس ، فلابد من التصريح بأنهم من أهل البدعة والضلالة ، ونسبتهم إلى الفرق إذا قامت له الشهود على أنهم منهم . كما اشتهر عن عمرو بن عبيد وغيره . فروى عاصم الأحول . قال : جلست إلى قتادة فذكر عمرو بن عبيد فوقع فيه ونال منه . فقلت : أبا الخطاب : ألا أرى العلماء يقع بعضهم في بعض ؟ فقال : يا أحول أولا تدري أن الرجل إذا ابتدع بدعة فينبغي لها أن تذكر حتى تحذر ؟ فجئت من عند قتادة وأنا مغتم بما سمعت من قتادة في عمرو بن عبيد ، وما رأيت من نسكه وهديه ، فوضعت رأسي نصف النهار وإذا عمرو بن عبيد والمصحف في حجره وهو يحك آية من كتاب الله . فقلت : سبحان الله ! تحك آية من كتاب الله ؟ قال إني سأعيدها . قال : فتركته حتى حكها . فقلت له : أعدها . فقال : لا أستطيع .

فمثل هؤلاء لابد من ذكرهم والتشريد بهم ، لأن ما يعود على المسلمين من ضررهم إذا تركوا ، أعظم من الضرر الحاصل بذكرهم والتنفير عنهم إذا كان سبب ترك التعيين الخوف من التفرق والعدواة . ولا شك أن التفريق بين المسلمين وبين الداعين للبدعة وحدهم - إذا أقيم - عليهم أسهل من التفرق بين المسلمين وبين الداعين ومن شايعهم واتبعهم ، وإذا تعارض الضرران يرتكب أخفهما وأسهلهما ، وبعض الشر أهون من جميعه ، كقطع اليد المتآكلة ، إتلافها أسهل من إتلاف النفس . وهذا شأن الشرع أبدا : يطرح حكم الأخف وقاية من الأثقل .

فإذا فقد الأمران فلا ينبغي أن يذكروا ولا أن يعينوا إن وجدوا ، لأن ذلك أول مثير للشر وإلقاء العداوة والبغضاء ، ومتى حصل باليد منهم أحد [ ص: 732 ] ذاكره برفق ، ولم يره أنه خارج من السنة ، بل يريه أنه مخالف للدليل الشرعي ، وأن الصواب الموافق للسنة كذا وكذا . فإن فعل ذلك من غير تعصب ولا إظهار غلبة فهو الحج ، وبهذه الطريقة دعي الخلق أولا إلى الله تعالى ، حتى [ إذا ] عاندوا وأشاعوا الخلاف وأظهروا الفرقة قوبلوا بحسب ذلك .

قال الغزالي في بعض كتبه : أكثر الجهالات إنما رسخت في قلوب العوام بتعصب جماعة من جهال أهل الحق ، أظهروا الحق في معرض التحدي والإدلال ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء ، فثارت من بواطنهم دواعي المعاندة والمخالفة ، ورسخت في قلوبهم الاعتقادات الباطلة ، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها ، حتى انتهى التعصب بطائفة إلى أن اعتقدوا أن الحروف التي نطقوا بها في الحال بعد السكوت عنها طول العمر قديمة . ولولا استيلاء الشيطان بواسطة العناد والتعصب للأهواء ، لما وجد مثل هذا الاعتقاد مستنفرا في قلب مجنون فضلا عن قلب عاقل .

هذا ما قال . وهو الحق الذي تشهد له العوائد الجارية فالواجب تسكين الثائرة ما قدر على ذلك . والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية