صفحة جزء
وأما أن صاحب البدعة تنزع منه العصمة ويوكل إلى نفسه :

فقد تقدم نقله ، ومعناه ظاهر جدا :

فإن الله تعالى بعث إلينا محمدا صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين حسبما أخبر في كتابه ، وقد كنا قبل طلوع ذلك النور الأعظم لا نهتدي سبيلا ، ولا نعرف من مصالحنا الدنيوية إلا قليلا على غير كمال ، ولا من مصالحنا الأخروية قليلا ولا كثيرا ، بل كان كل أحد يركب هواه وإن كان فيه ما فيه ، ويطرح هوى غيره فلا يلتفت إليه .

فلا يزال الاختلاف بينهم والفساد فيهم يخص ويعم حتى بعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم ، لزوال الريب والالتباس ، وارتفاع الخلاف الواقع بين الناس :

كما قال الله تعالى : ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين ) إلى قوله : ( فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ) .

وقوله : ( كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين ) .

( وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ) .

[ ص: 150 ] ولم يكن حاكما بينهم فيما اختلفوا فيه; إلا وقد جاءهم بما ينتظم به شملهم ، وتجتمع به كلمتهم ، وذلك راجع إلى الجهة التي من أجلها اختلفوا ، وهو ما يعود عليهم بالصلاح في العاجل والآجل ، ويدرأ عنهم الفساد على الإطلاق ، فانخفضت الأديان والدماء والعقل والأنساب والأموال ، من طرق يعرف مآخذها العلماء ، وذلك [ من ] القرآن المنزل على النبي صلى الله عليه وسلم قولا وعملا وإقرارا ، ولم يردوا إلى تدبير أنفسهم; للعلم بأنهم لا يستطيعون ذلك ، ولا يستقلون بدرك مصالحهم ولا تدبير أنفسهم .

فإذا ترك المبتدع هذه الهبات العظيمة والعطايا الجزيلة ، وأخذ في استصلاح نفسه أو دنياه بنفسه بما لم يجعل الشرع عليه دليلا ، فكيف له بالعصمة والدخول تحت هذه الرحمة ؟ وقد حل يده من حبل العصمة إلى تدبير نفسه ، فهو حقيق بالبعد عن الرحمة . قال الله تعالى : ( واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ) بعد قوله : ( اتقوا الله حق تقاته ) ، فأشعر أن الاعتصام بحبل الله هو تقوى الله حقا ، وأن ما سوى ذلك تفرقة ، لقوله : ( ولا تفرقوا ) ، والفرقة من أخس أوصاف المبتدعة ، لأنه خرج عن حكم الله وباين جماعة أهل الإسلام .

روى عبد بن حميد بن عبد الله : أن حبل الله الجماعة .

وعن قتادة : " حبل الله المتين : هذا القرآن وسننه ، وعهده إلى عباده الذي أمر أن يعتصم بما فيه من الخير ، والثقة أن يتمسكوا به ويعتصموا [ ص: 151 ] بحبله . . . " إلى آخر ما قال .

ومن ذلك قوله تعالى : ( واعتصموا بالله هو مولاكم ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية