صفحة جزء
النوع الأول

إن الله عز وجل أنزل القرآن عربيا لا عجمة فيه ، بمعنى أنه جاء في ألفاظه ومعانيه وأساليبه على لسان العرب ، قال الله تعالى : إنا جعلناه قرآنا عربيا [ ص: 805 ] وقال تعالى : قرآنا عربيا غير ذي عوج وقال تعالى : نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين وكان المنزل عليه القرآن عربيا أفصح من نطق بالضاد وهو محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم ، وكان الذين بعث فيهم عربا أيضا ، فجرى الخطاب به على معتادهم في لسانهم ، فليس فيه شيء من الألفاظ والمعاني إلا وهو جار على ما اعتادوه ، ولم يداخله شيء بل نفى عنه أن يكون فيه شيء أعجمي فقال تعالى : ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربي مبين .

وقال تعالى في موضع آخر : ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته .

هذا وإن كان بعث للناس كافة فإن الله جعل جميع الأمم وعامة الألسنة في هذا الأمر تبعا للسان العرب ، وإذا كان كذلك فلا يفهم كتاب الله تعالى إلا من الطريق الذي نزل عليه وهو اعتبار ألفاظها ومعانيها وأساليبها .

[ ص: 806 ] أما ألفاظها فظاهرة للعيان ، وأما معانيها وأساليبها فكان مما يعرف من معانيها اتساع لسانها ، وأن تخاطب بالشيء منه عاما ظاهرا يراد به الظاهر ، ويستغنى بأوله عن آخره ، وعاما ظاهرا يراد به العام ويدخله الخاص ، ويستدل إلى هذا ببعض الكلام ، وعاما ظاهرا يراد به الخاص ، وظاهرا يعرف في سياقه أن المراد به غير ذلك الظاهر ، والعلم بهذا كله موجود في أول الكلام أو وسطه أو آخره .

وتبتدئ الشيء من كلامها بين أول اللفظ فيه عن آخره ، أو بين آخره عن أوله ، ويتكلم بالشيء تعرفه بالمعنى دون اللفظ كما تعرف بالإشارة ، وهذا عندها من أفصح كلامها ، لانفرادها بعلمه دون غيرها ممن يجهله ، وتسمي الشيء الواحد بالأسماء الكثيرة ، وتوقع اللفظ الواحد للمعاني الكثيرة .

فهذه كلها معروفة عندها وتستنكر عند غيرها ، إلى غير ذلك من التصرفات التي يعرفها من زاول كلامهم وكانت له به معرفة، وثبت رسوخه في علم ذلك .

فمثال ذلك أن الله تعالى خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل ، وقال تعالى : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها فهذا من العام الظاهر الذي لا خصوص فيه فإن كل شيء من سماء وأرض وذي روح وشجر وغير ذلك فالله خالقه ، وكل دابة على الله رزقها ، ويعلم مستقرها ومستودعها .

وقال الله تعالى : ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه [ ص: 807 ] فقوله : ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله إنما أريد به من أطاق ومن لم يطق فهو عام المعنى ، وقوله : ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه عام فيمن أطاق ومن لم يطق ، فهو عام المعنى .

وقوله تعالى : حتى إذا أتيا أهل قرية استطعما أهلها فأبوا أن يضيفوهما فهذا من العام المراد به الخاص ، لأنهما لم يستطعما جميع أهل القرية .

وقال تعالى : ياأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا فهذا عام لم يخرج عنه أحد من الناس . وقال إثر هذا : إن أكرمكم عند الله أتقاكم فهذا خاص ، لأن التقوى إنما تكون على من عقلها من البالغين .

وقال تعالى : الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فالمراد بالناس الثاني الخصوص لا العموم . وإلا فالمجموع لهم الناس ناس أيضا وهم قد خرجوا . لكن لفظ الناس يقع على ثلاثة منهم . وعلى جميع الناس ، وعلى ما بين ذلك . فيصح أن [ ص: 808 ] يقال : إن الناس قد جمعوا لكم . والناس الأول القائلون كانوا أربعة نفر .

وقال تعالى : ياأيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له فالمراد بالناس هنا الذين اتخذوا من دون الله إلها ، دون الأطفال والمجانين والمؤمنين .

وقال تعالى : واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر فظاهر السؤال عن القرية نفسها ، وسياق قوله تعالى : إذ يعدون في السبت إلى آخر الآية يدل على أن المراد أهلها لأن القرية لا تعدو ولا تفسق .

وكذلك قوله تعالى : وكم قصمنا من قرية كانت ظالمة الآية ، فإنه لما قال كانت ظالمة دل على أن المراد أهلها .

وقال تعالى : واسأل القرية التي كنا فيها الآية ، فالمعنى بين أن المراد أهل القرية ، ولا يختلف أهل العلم باللسان في ذلك ، لأن القرية والعير لا يخبران بصدقهم .

هذا كله معنى تقرير الشافعي رحمه الله في هذه التصرفات الثابتة للعرب وهو بالجملة مبين أن القرآن لا يفهم إلا عليه ، وإنما أتى الشافعي بالنوع الأغمض من طرائق العرب ، لأن سائر أنواع التصرفات العربية قد بسطها أهلها ، وهم أهل النحو والتصريف ، وأهل المعاني والبيان ، وأهل [ ص: 809 ] الاشتقاق وشرح مفردات اللغة ، وأهل الأخبار المنقولة عن العرب لمقتضيات الأحوال ، فجميعه نزل به القرآن . ولذلك أطلق عليه عبارة العربي .

فإذا ثبت هذا فعلى الناظر في الشريعة والمتكلم فيها أصولا وفروعا أمران

أحدهما : أن لا يتكلم في شيء من ذلك حتى يكون عربيا أو كالعربي في كونه عارفا بلسان العرب، بالغا فيه مبالغ العرب . أو مبالغ الأئمة المتقدمين كالخليل وسيبويه والكسائي والفراء ومن أشبههم وداناهم . وليس المراد أن يكون حافظا كحفظهم وجامعا كجمعهم ، وإنما المراد أن يصير فهمه عربيا في الجملة . وبذلك امتاز المتقدمون من علماء العربية على المتأخرين . إذ بهذا المعنى أخذوا أنفسهم حتى صاروا أئمة ، فإن لم يبلغ ذلك فحسبه في فهم معاني القرآن التقليد ، ولا يحسن ظنه بفهمه دون أن يسأل فيه أهل العلم به .

قال الشافعي لما قرر معنى ما تقدم : فمن جهل هذا من لسانها يعني لسان العرب - وبلسانها نزل القرآن وجاءت السنة به - فتكلف القول في علمها تكلف ما يجهل لفظه ، ومن تكلف ما جهل وما لم يثبته معرفة، كانت موافقته للصواب - إن وافقه - من حيث لا يعرفه غير محمودة ، وكان في تخطئته غير معذور ، إذ نظر فيما لا يحيط علمه بالفرق بين الصواب والخطإ فيه .

وما قاله حق ، فإن القول في القرآن والسنة بغير علم تكلف - وقد نهينا عن التكلف - ودخول تحت معنى الحديث ، حيث قال عليه الصلاة [ ص: 810 ] والسلام :

حتى إذا لم يبق عالم اتخذ الناس رؤساء جهالا الحديث ، لأنهم إذا لم يكن لهم لسان عربي يرجعون إليه في كتاب الله وسنة نبيه رجع الأعجمي إلى فهمه وعقله المجرد عن التمسك بدليل يضل عن الجادة .

وقد خرج ابن وهب عن الحسن أنه قيل له : أرأيت الرجل يتعلم العربية ليقيم بها لسانه ، ويصلح بها منطقه ؟ قال : نعم ! فليتعلمها ، فإن الرجل يقرأ فيعيا بوجهها فيهلك .

وعن الحسن قال : أهلكتهم العجمة ، يتأولون على غير تأويله . .

والأمر الثاني : أنه إذا أشكل عليه في الكتاب أو في السنة لفظ أو معنى فلا يقدم على القول فيه دون أن يستظهر بغيره ممن له علم بالعربية ، فقد يكون إماما فيها ، ولكنه يخفى عليه الأمر في بعض الأوقات . فالأولى في حقه الاحتياط ، إذ قد يذهب على العربي المحض بعض المعاني الخاصة حتى يسأل عنها . . . وقد نقل شيء من هذا . . . عن الصحابة - وهم العرب - فكيف بغيرهم .

نقل عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنه قال : كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر . فقال أحدهما : أنا فطرتها . أي أنا ابتدأتها .

وفيما يروى عن عمر - رضي الله عنه - أنه سأل وهو على المنبر عن معنى قوله تعالى : أو يأخذهم على تخوف فأخبره رجل من هذيل [ ص: 811 ] أن التخوف عندهم هو التنقص وأشباه ذلك كثيرة . كلام الشافعي في فقه العربية وخفاء بعض العربية على بعض العرب

قال الشافعي : لسان العرب أوسع الألسنة مذهبا ، وأكثرها ألفاظا .

قال : ولا نعلمه يحيط بجميع علمه إنسان غير نبي . ولكنه لا يذهب منه شيء على عامته حتى لا يكون موجودا فيها من يعرفه - قال - والعلم به عند العرب كالعلم بالسنة عند أهل العلم لا نعلم رجلا جمع السنن فلم يذهب منها عليه شيء ، فإذا جمع ( علم ) عامة أهل العلم بها أتى على السنن ، وإذا فرق كل واحد منهم ذهب عليه الشيء منها ، ثم كان ما ذهب عليه منها موجودا عند غيره ممن كان في طبقته وأهل علمه قال : وهكذا لسان العرب عند خاصتها وعامتها لا يذهب منه شيء عليها ولا يطلب عند غيرها ، ولا يعلمه إلا من نقله عنها ، ولا يشركها فيه إلا من اتبعها في تعلمه منها ، ومن قبله منها فهو من أهل لسانها ، وإنما صار غيرهم من غير أهله لتركه، فإذا صار إليه صار من أهله .

هذا ما قال ولا يخالف فيه أحد ، فإذا كان الأمر على هذا لزم كل من أراد أن ينظر في الكتاب والسنة أن يتعلم الكلام الذي به أديت ، وأن لا يحسن ظنه بنفسه قبل الشهادة له من أهل علم العربية بأنه يستحق النظر ، وأن لا يستقل بنفسه في المسائل المشكلة التي لم يحط بها علمه دون أن يسأل عنها من هو من أهلها ، فإن ثبت على هذه الوصاة كان - إن شاء الله - موافقا لما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام .

[ ص: 812 ] روي عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال : قلنا يا رسول الله . من خير الناس ؟ قال : ذو القلب المهموم، واللسان الصادق، قلنا : قد عرفنا اللسان الصادق ، فما ذو القلب المهموم ؟ قال : هو التقي النقي الذي لا إثم فيه ولا حسد ، قلنا فمن على أثره ؟ قال : الذي ينسى الدنيا ويحب الآخرة . قلنا : ما نعرف هذا فينا إلا رافعا مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلنا : فمن على أثره ؟ قال : مؤمن في خلق حسن ، قلنا : أما هذا فإنه فينا .

ويروى : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءه رجل فقال : يا رسول الله ! أيدالك الرجل امرأته ؟ قال : نعم إذا كان ملفجا فقال له أبو بكر - رضي الله عنه - : ما قلت وما قال لك يا رسول الله صلى الله عليك وسلم ؟ فقال : قال : أيماطل الرجل امرأته ؟ قلت : نعم إذا كان فقيرا ، فقال أبو بكر : ما رأيت الذي هو أفصح منك يا رسول الله فقال : كيف لا وأنا من قريش ، وأرضعت في بني سعد ؟ .

فهذه أدلة تدل على أن بعض اللغة يعزب عن علم بعض العرب ، فالواجب السؤال كما سألوا فيكون على ما كانوا عليه ، وإلا زل فقال في الشريعة برأيه لا بلسانها .

[ ص: 813 ] ولنذكر لذلك ستة أمثلة :

أحدها : قول جابر الجعفي في قوله تعالى : فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أن تأويل هذه الآية لم يجئ بعد - وكذب - فإنه أراد بذلك مذهب الرافضة ، فإنها تقول إن عليا في السحاب فلا يخرج مع من خرج من ولده حتى ينادي علي من السماء : اخرجوا مع فلان فهذا معنى قوله تعالى :فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي الآية، عند جابر حسبما فسره سفيان من قوله : لم يجئ بعد .

بل هذه الآية كانت في إخوة يوسف ، وقع ذلك في مقدمة كتاب مسلم ، ومن كان ذا عقل فلا يرتاب في أن سياق القرآن دال على ما قال سفيان ، وأن ما قاله جابر لا ينساق .

والثاني : قول من زعم أنه يجوز للرجل نكاح تسع من الحلائل مستدلا بقوله تعالى : فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع لأن أربعا إلى ثلاث إلى اثنتين تسع ، ولم يشعر بمعنى فعال ومفعل في كلام العرب، وأن معنى الآية ، فانكحوا إن شئتم اثنتين اثنتين أو ثلاثا ثلاثا أو أربعا على التفصيل لا على ما قالوا .

والثالث : قول من زعم أن المحرم من الخنزير إنما هو اللحم ، وأما الشحم فحلال لأن القرآن إنما حرم اللحم دون الشحم ، ولو عرف أن اللحم يطلق على الشحم أيضا بخلاف الشحم فإنه لا يطلق على [ ص: 814 ] اللحم لم يقل ما قال .

والرابع : قول من قال : إن كل شيء فان حتى ذات الباري - تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا - ما عدا الوجه، بدليل كل شيء هالك إلا وجهه وإنما المراد بالوجه هنا غير ما قال ، فإن للمفسرين فيه تأويلات، وقصد هذا القائل ما لا يتجه لغة ولا معنى . وأقرب قول لقصد هذا المسكين أن يراد به ذو الوجه كما تقول : فعلت هذا لوجه فلان : أي لفلان ، فكان معنى الآية : كل شيء هالك إلا هو . وقوله تعالى : إنما نطعمكم لوجه الله ومثله قوله تعالى : كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام .

والخامس : قول من زعم أن لله سبحانه وتعالى جنبا ، مستدلا بقوله : أن تقول نفس ياحسرتا على ما فرطت في جنب الله وهذا لا معنى للجنب فيه لا حقيقة ولا مجازا ، لأن العرب تقول : هذا الأمر يصغر في جنب هذا ، أي يصغر بالإضافة إلى آخر ، فكذلك الآية معناها : يا حسرتا على ما فرطت في جنب الله أي فيما بيني وبين الله ، إذ أضفت تفريطي إلى أمره ونهيه إياي .

والسادس : قول من قال في قول النبي صلى الله عليه وسلم : لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر إن هذا الذي في الحديث هو مذهب الدهرية ، ولم [ ص: 815 ] يعرف أن المعنى : لا تسبوا الدهر إذا أصابتكم المصائب ، ولا تنسبوها إليه ، فإن الله هو الذي أصابكم بذلك لا الدهر ، فإنكم إذا سببتم الدهر وقع السب على الفاعل لا على الدهر ، لأن العرب كان من عادتها في الجاهلية أن تنسب الأفعال إلى الدهر فتقول : أصابه الدهر في ماله ، ونابته قوارع الدهر ومصائبه . فينسبون إلى كل شيء تجري به أقدار الله تعالى عليهم إلى الدهر ، فيقولون : لعن الله الدهر ، ومحا الله الدهر . وأشباه ذلك وإنما يسبونه لأجل الفعال المنسوبة إليه ، فكأنهم إنما سبوا الفاعل ، والفاعل هو الله وحده ، فكأنهم يسبونه سبحانه وتعالى .

فقد ظهر بهذه الأمثلة كيف يقع الخطأ في العربية في كلام الله سبحانه وتعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وأن ذلك يؤدي إلى تحريف الكلم عن مواضعه ، والصحابة رضوان الله عليهم برآء من ذلك . لأنهم عرب لم يحتاجوا في فهم كلام الله تعالى إلى أدوات ولا تعلم ، ثم من جاء بعدهم ممن ليس بعربي اللسان تكلف ذلك حتى علمه ، وحينئذ داخل القوم في فهم الشريعة وتنزيلها على ما ينبغي فيها كسلمان الفارسي وغيره ، فكل من اقتدى بهم في تنزيل الكتاب والسنة على العربية - إن أراد أن يكون من [ ص: 816 ] أهل الاجتهاد فهو - إن شاء الله - داخل في سوادهم الأعظم ، كائن على ما كانوا عليه ، فانتظم في سلك الناجية .

التالي السابق


الخدمات العلمية