صفحة جزء
النوع الرابع :

إن الشريعة موضوعة لإخراج المكلف عن داعية هواه ، حتى يكون عبدا لله . وهذا أصل قد تقرر في قسم المقاصد من كتاب الموافقات . لكن على وجه كلي يليق بالأصول . فمن أراد الإطلاع عليه فليطالعه من هنالك .

[ ص: 853 ] ولما كانت طرق الحق متشعبة لم يمكن أن يؤتى عليها بالاستيفاء . فلنذكر منها شعبة واحدة تكون كالطريق لمعرفة ما سواها .

فاعلموا أن الله تعالى وضع هذه الشريعة حجة على الخلق كبيرهم وصغيرهم مطيعهم وعاصيهم . برهم وفاجرهم . لم يختص بها أحدا دون أحد، وكذلك سائر الشرائع إنما وضعت لتكون حجة على جميع الأمم التي تنزل فيهم تلك الشريعة . حتى إن المرسلين بها صلوات الله عليهم داخلون تحت أحكامها .

فأنت ترى أن نبينا محمدا صلى الله عليه وسلم مخاطب بها في جميع أحواله وتقلباته . مما اختص به دون أمته . أو كان عاما له ولأمته كقوله تعالى : ياأيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك إلى قوله تعالى : خالصة لك من دون المؤمنين إلى قوله تعالى : لا يحل لك النساء من بعد ولا أن تبدل بهن من أزواج وقوله تعالى : ياأيها النبي لم تحرم ما أحل الله لك تبتغي مرضاة أزواجك والله غفور رحيم وقوله تعالى : ياأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن إلى سائر التكاليف التي وردت على كل مكلف والنبي فيهم . فالشريعة هي الحاكمة على الإطلاق والعموم عليه وعلى جميع [ ص: 854 ] المكلفين . وهي الطريق الموصل والهادي الأعظم .

ألا ترى إلى قوله تعالى : وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا فهو عليه الصلاة والسلام أول من هداه الله بالكتاب والإيمان . ثم من اتبعه فيه . والكتاب هو الهادي . والوحي المنزل عليه مرشد ومبين لذلك الهدي، والخلق مهتدون بالجميع .

ولما استنار قلبه وجوارحه - عليه الصلاة والسلام - وباطنه وظاهره بنور الحق علما وعملا ، صار هو الهادي الأول لهذه الأمة والمرشد الأعظم ، حيث خصه الله دون الخلق بإنزال ذلك النور عليه ، واصطفاه من جملة من كان مثله في الخلقة البشرية اصطفاء أوليا ، لا من جهة كونه بشرا عاقلا - مثلا - لاشتراكه مع غيره في هذه الأوصاف ، ولا لكونه من قريش - مثلا - دون غيرهم ، وإلا لزم ذلك في كل قرشي ، ولا لكونه من بني عبد المطلب ، ولا لكونه عربيا ، ولا لغير ذلك ، بل من جهة اختصاصه بالوحي الذي استنار به قلبه وجوارحه فصار خلقه القرآن ، حتى نزل فيه : وإنك لعلى خلق عظيم وإنما كان خلقه القرآن لأنه حكم الوحي على نفسه . حتى صار في علمه وعمله على وفقه . فكان الوحي حاكما وافقا قائلا، وكان هو عليه الصلاة والسلام مذعنا ملبيا نداءه واقفا عند حكمه، وهذه الخاصية كانت من أعظم الأدلة على صدقه فيما جاء به . إذ قد جاء بالأمر وهو مؤتمر . وبالنهي وهو منته . وبالوعظ وهو متعظ [ ص: 855 ] وبالتخويف وهو أول الخائفين . وبالترجية وهو سائق دابة الراجين .

وحقيقة ذلك كله جعله الشريعة المنزلة عليه حجة حاكمة عليه ودلالة له على الصراط المستقيم الذي سار عليه السلام . ولذلك صار عبد الله حقا . وهو أشرف اسم تسمى به العباد . فقال الله تعالى : سبحان الذي أسرى بعبده ليلا تبارك الذي نزل الفرقان على عبده وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا وما أشبه ذلك من الآيات التي وقع مدحه فيها بصحة عبوديته .

وإذا كان كذلك فسائر الخلق حريون بأن تكون الشريعة حجة حاكمة عليهم ومنارا يهتدون بها إلى الحق ، وشرفهم إنما يثبت بحسب ما اتصفوا به من الدخول تحت أحكامها والعمل بها قولا واعتقادا وعملا ، لا بحسب عقولهم فقط ، ولا بحسب شرفهم في قومهم فقط ، لأن الله تعالى إنما أثبت الشرف لا غيره لقوله تعالى : إن أكرمكم عند الله أتقاكم فمن كان أشد محافظة على اتباع الشريعة فهو أولى بالشرف والكرم ، ومن كان دون ذلك لم يمكن أن يبلغ في الشرف مبلغ الأعلى في اتباعها ، فالشرف إذا إنما هو بحسب المبالغة في تحكيم الشريعة . تفضيل علوم الشريعة على سائر العلوم

ثم نقول بعد هذا : إن الله سبحانه شرف أهل العلم ورفع [ ص: 856 ] أقدارهم ، وعظم مقدارهم ، ودل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع ، بل قد اتفق العقلاء على فضيلة العلم وأهله ، وأنهم المستحقون شرف المنازل ، وهو مما لا ينازع فيه عاقل .

واتفق أهل الشرائع على أن علوم الشريعة أفضل العلوم وأعظمها أجرا عند الله يوم القيامة ، ولا علينا أسامحنا بعض الفرق في تعيين العلوم - أعني العلوم التي نبه الشارع على مزيتها وفضيلتها - أم لم نسامحهم ، بعد الاتفاق على الأفضلية ، وإثبات الحرية ؟ .

وأيضا ، فإن علوم الشريعة منها ما يجري مجرى الوسائل بالنسبة إلى السعادة الأخروية ، ومنها ما يجري مجرى المقاصد ، والذي يجري منها مجرى المقاصد أعلى مما ليس كذلك - بلا نزاع بين العقلاء أيضا - كعلم العربية بالنسبة إلى علم الفقه ، فإنه كالوسيلة ، فعلم الفقه أعلى .

وإذا ثبت هذا فأهل العلم أشرف الناس وأعظم منزلة بلا إشكال ولا نزاع وإنما وقع الثناء في الشريعة على أهل العلم من حيث اتصافهم بالعلم لا من جهة أخرى ، ودل على ذلك وقوع الثناء عليهم مقيدا بالاتصاف به ، فهو إذا العلة في الثناء ، ولولا ذلك الاتصاف لم يكن لهم مزية على غيرهم ، [ ص: 857 ] ومن أجل ذلك صار العلماء حكاما على الخلائق أجمعين قضاء أو فتيا أو إرشادا ، لأنهم اتصفوا بالعلم الشرعي الذي هو حاكم بإطلاق ، فليسوا بحكام من جهة ما اتصفوا بوصف يشتركون فيه مع غيرهم كالقدرة والإرادة والعقل وغير ذلك ، إذ لا مزية في ذلك من حيث القدر المشترك ، لاشتراك الجميع فيها ، وإنما صاروا حكاما على الخلق مرجوعا إليهم بسبب حملهم للعلم الحاكم ، فلزم من ذلك أنهم لا يكونون حكاما على الخلق إلا من ذلك ، كما أنهم ممدوحون من ذلك الوجه أيضا ، فلا يمكن أن يتصفوا بوصف الحكم مع فرض خروجهم عن صوت العلم الحاكم ، إذ ليسوا حجة إلا من جهته ، فإذا خرجوا عن جهته فكيف يتصور أن يكونوا حكاما ؟ هذا محال .

وكما أنه لا يقال في العالم بالعربية : مهندس ، ولا في العالم بالهندسة : عربي ، فكذلك لا يقال في الزائغ عن الحكم الشرعي : حاكم بالشرع ، بل يطلق عليه أنه حاكم بعقله أو برأيه أو نحو ذلك ، فلا يصح أن يجعل حجة في العلم الحاكم ، لأن العلم الحاكم يكذبه ويرد عليه ، وهذا المعنى أيضا في الجملة متفق عليه لا يخالف فيه أحد من العقلاء .

ثم نصير من هذا إلى معنى آخر مرتب عليه ، وهو أن العالم بالشريعة إذا اتبع في قوله ، وانقاد إليه الناس في حكمه ، فإنما اتبع من حيث هو عالم وحاكم بها وحاكم بمقتضاها ، لا من جهة أخرى ، فهو في الحقيقة مبلغ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، المبلغ عن الله عز وجل ، فيتلقى منه ما بلغ على العلم بأنه بلغ ، أو على غلبة الظن بأنه بلغ لا من جهة كونه منتصب للحكم مطلقا ، إذ لا يثبت ذلك لأحد على الحقيقة . وإنما هو [ ص: 858 ] ثابت للشريعة المنزلة على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وثبت ذلك له عليه الصلاة والسلام وحده دون الخلق من جهة دليل العصمة . والبرهان أن جميع ما يقوله أو يفعله حق . فإن الرسالة المقترنة بالمعجزة على ذلك دلت . فغيره لم يثبت له عصمة بالمعجزة بحيث يحكم بمقتضاها حتى يساوي النبي صلى الله عليه وسلم في الانتصاب للحكم بإطلاق ، بل إنما يكون منتصبا على شرط الحكم بمقتضى الشريعة . بحيث إذا وجد الحكم في الشرع بخلاف ما حكم لم يكن حاكما . إذ كان - بالفرض - خارجا عن مقتضى الشريعة الحاكمة ، وهو أمر متفق عليه بين العلماء ، ولذلك إذا وقع النزاع في مسألة شرعية وجب ردها إلى الشريعة حيث يثبت الحق فيها لقوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية .

فإذا ؛ المكلف بأحكامها لا يخلو من أحد أمور ثلاثة :

أحدها : أن يكون مجتهدا فيها ، فحكمه ما أداه إليه اجتهاده فيها ، لأن اجتهاده في الأمور التي ليست دلالتها واضحة إنما يقع موقعه على فرض أن يكون ما ظهر له هو الأقرب إلى قصد الشارع والأولى بأدلة الشريعة ؛ دون ما ظهر لغيره من المجتهدين . فيجب عليه اتباع ما هو الأقرب . بدليل أنه لا يسعه فيما اتضح فيه الدليل إلا اتباع الدليل ، دون ما [ ص: 859 ] أداه إليه اجتهاده . ويعد ما ظهر له لغوا كالعدم ؛ لأنه على غير صوب الشريعة الحاكمة . فإذا ؛ ليس قوله بشيء يعتد به في الحكم .

والثاني : أن يكون مقلدا صرفا خليا من العلم الحاكم جملة . فلابد له من قائد يقوده . وحاكم يحكم عليه . وعالم يقتدي به . ومعلوم أنه لا يقتدى به إلا من حيث هو عالم بالعلم الحاكم . والدليل على ذلك أنه لو علم أو غلب على ظنه أنه ليس من أهل ذلك العلم لم يحل له اتباعه ولا الانقياد لحكمه . بل لا يصح أن يخطر بخاطر العامي ولا غيره تقليد الغير في أمر مع علمه بأنه ليس من أهل ذلك الأمر . كما أنه لا يمكن أن يسلم المريض نفسه إلى أحد يعلم أنه ليس بطبيب إلا أن يكون فاقد العقل . وإذا كان كذلك فإنما ينقاد إلى المفتي من جهة ما هو عالم بالعلم الذي يجب الانقياد إليه . لا من جهة كونه فلانا أيضا . وهذه الجملة أيضا لا يسع الخلاف فيها عقلا ولا شرعا .

والثالث : أن يكون غير بالغ مبلغ المجتهدين . لكنه يفهم الدليل وموقعه . ويصلح فهمه للترجيح بالمرجحات المعتبرة في تحقيق المناط ونحوه . فلا يخلو : إما أن يعتبر ترجيحه أو نظره ، أو لا فإن اعتبرناه صار مثل المجتهد في ذلك الوجه . والمجتهد إنما هو تابع للعلم الحاكم ناظر نحوه . متوجه شطره : فالذي يشبهه كذلك وإن لم نعتبره فلابد من رجوعه إلى درجة العامي . والعامي إنما اتبع المجتهد من جهة توجهه إلى صوب العلم الحاكم . فكذلك من نزل منزلته .

[ ص: 860 ] ثم نقول : إن هذا مذهب الصحابة : أما النبي صلى الله عليه وسلم فاتباعه للوحي أشهر من أن يذكر . وأما أصحابه فاتباعهم له في ذلك من غير اعتبار بمؤالف أو مخالف شهير عنهم، فلا نطيل الاستدلال عليه .

فعلى كل تقدير لا يتبع أحد من العلماء إلا من حيث هو متوجه نحو الشريعة، قائم بحجتها ، حاكم بأحكامها جملة وتفصيلا ، وأنه من وجد متوجها غير تلك الوجهة في جزئية من الجزئيات أو فرع من الفروع لم يكن حاكما ولا استقام أن يكون مقتدى به فيما حاد فيه عن صوب الشريعة ألبتة .

فيجب إذا على الناظر في هذا الموضع أمران إذا كان غير مجتهد :

أحدهما : أن لا يتبع العالم إلا من جهة ما هو عالم بالعلم المحتاج إليه ، ومن حيث هو طريق إلى استفادة ذلك العلم ، إذ ليس لصاحبه منه إلا كونه مودعا له ، ومأخوذا بأداء تلك الأمانة ، حتى إذا علم أو غلب على الظن أنه مخطئ فيما يلقي ، أو تارك لإلقاء تلك الوديعة على ما هي عليه ، أو منحرف عن صوبها بوجه من وجوه الانحراف ، توقف ولم يصر على الاتباع إلا بعد التبيين ، إذ ليس كل ما يلقيه العالم يكون حقا على الإطلاق ، لإمكان الزلل والخطإ وغلبة الظن في بعض الأمور ، وما أشبه ذلك .

أما إذا كان هذا المتبع ناظرا في العلم ومتبصرا فيما يلقي إليه كأهل العلم في زماننا ، فإن توصله إلى الحق سهل ، لأن المنقولات في الكتب إما تحت حفظه ، وإما معدة لأن يحققها بالمطالعة أو المذاكرة . اجتهاد العامي في اختيار من يقلد

وأما إن كان عاميا صرفا فيظهر له الإشكال عندما يرى الاختلاف [ ص: 861 ] بين الناقلين للشريعة ، فلابد له هاهنا من الرجوع آخرا إلى تقليد بعضهم ، إذ لا يمكن في المسألة الواحدة تقليد مختلفين في زمان واحد ، لأنه محال وخرق للإجماع ، فلا يخلو أن يمكنه الجمع بينهما في العمل أو لا يمكنه ، فإن لم يمكنه بهما كان عمله بهما معا محالا ، وإن أمكنه صار عمله ليس على قول واحد منهما . بل هو قول ثالث لا قائل به . ويعضد ذلك أنه لا نجد صورة ذلك العمل معمولا بها في المتقدمين من السلف الصالح فهو مخالف للإجماع .

وإذا ثبت أنه لا يقلد إلا واحدا ، فكل واحد منهما يدعي أنه أقرب إلى الحق من صاحبه ، ولذلك خالفه ، وإلا لم يخالفه ، والعامي جاهل بمواقع الاجتهاد ، فلابد له ممن يرشده إلى من هو أقرب منهما . وذلك إنما يثبت للعامي بطريق إجمالي ، وهو ترجيح أحدهما على الآخر بالأعلمية والأفضلية . ويظهر ذلك من جمهور العلماء ، والطالبون لا يخفى عليهم مثل ذلك ، لأن الأعلمية تغلب على ظن العامي أن صاحبها أقرب إلى صوب العلم الحاكم لا من جهة أخرى ، فإذا ؛ لا يقلد إلا باعتبار كونه حاكما بالعلم الحاكم .

والأمر الثاني : أن لا يصمم على تقليد من تبين له في تقليده الخطأ شرعا وذلك أن العامي ومن جرى مجراه قد يكون متبعا لبعض العلماء ، إما لكونه أرجح من غيره ، أو عند أهل قطره ، وإما لأنه هو الذي اعتمده أهل قطره في التفقه في مذهبه دون مذهب غيره .

وعلى كل تقدير فإذا تبين له في بعض مسائل متنوعة الخطأ والخروج عن صوب العلم الحاكم فلا يتعصب لمتبوعه بالتمادي على [ ص: 862 ] اتباعه فيما ظهر فيه خطؤه ، لأن تعصبه يؤدي إلى مخالفة الشرع أولا ، ثم إلى مخالفة متبوعه ، أما خلافه للشرع فبالعرض ، وأما خلافه لمتبوعه فلخروجه عن شرط الاتباع ، لأن كل عالم يصرح أو يعرض بأن اتباعه إنما يكون على شرط أنه حاكم بالشريعة لا بغيرها ، فإذا ظهر أنه حاكم بخلاف الشريعة خرج عن شرط متبوعه بالتصميم على تقليده . ومن معنى كلام مالك رحمه الله : ما كان من كلامي موافقا للكتاب والسنة فخذوا به ، وما لم يوافق فاتركوه . هذا معنى كلامه دون لفظه .

ومن كلام الشافعي رحمه الله : الحديث مذهبي فما خالفه فاضربوا به الحائط أو كما قال ، قال العلماء : وهذا لسان حال الجميع . ومعناه أن كل ما تتكلمون به على تحر أنه طابق الشريعة الحاكمة ، فإن كان كذلك فبها ونعمت ، وما لا فليس بمنسوب إلى الشريعة ولا هم أيضا ممن يرضى أن تنسب إليهم مخالفتها .

لكن يتصور في هذا المقام وجهان : أن يكون المتبوع مجتهدا ، فالرجوع في التخطئة والتصويب إلى ما اجتهد فيه ، وهو الشريعة ، وأن يكون مقلدا لبعض العلماء ، كالمتأخرين الذين من شأنهم تقليد المتقدمين بالنقل من كتبهم والتفقه في مذاهبهم ، فالرجوع في التخطئة [ ص: 863 ] والتصويب إلى صحة النقل عمن نقلوا عنه وموافقتهم لمن قلدوا ، أو خلاف ذلك ، لأن هذا القسم مقلدون بالعرض ، فلا يسعهم الاجتهاد في استنباط الأحكام ، إذ لم يبلغوا درجته ، فلا يصح تعرضهم للاجتهاد في الشريعة مع قصورهم عن درجته . فإن فرض انتصابه للاجتهاد فهو مخطئ آثم، أصاب أم لم يصب ؛ لأنه أتى الأمر من غير بابه ، وانتهك حرمة الدرجة وقفا ما ليس له به علم، فإصابته - إن أصاب - من حيث لا يدري ، وخطؤه هو المعتاد ، فلا يصح اتباعه كسائر العوام إذا راموا الاجتهاد في أحكام الله ، ولا خلاف في أن مثل هذا الاجتهاد غير معتبر ، وأن مخالفة العامي كالعدم ، وأنه في مخالفته لأهل العلم آثم مخطئ ، فكيف يصح - مع هذا التقرير - تقليد غير مجتهد في مسألة أتى فيها باجتهاده ؟

ولقد زل - بسبب الإعراض عن الدليل والاعتماد على الرجال - أقوام خرجوا بسبب ذلك عن جادة الصحابة والتابعين واتبعوا أهواءهم بغير علم فضلوا عن سواء السبيل .

ولنذكر عشرة أمثلة :

أحدها : وهو أشدها ، قول من جعل اتباع الآباء في أصل الدين هو المرجوع إليه دون غيره ، حتى ردوا بذلك براهين الرسالة ، وحجة القرآن ودليل العقل فقالوا : إنا وجدنا آباءنا على أمة . فحين نبهوا على وجه الحجة بقوله تعالى : قال أولو جئتكم بأهدى مما وجدتم عليه آباءكم [ ص: 864 ] لم يكن لهم جواب إلا الإنكار ، اعتمادا على اتباع الآباء واطراحا لما سواه ، ولم يزل مثل هذا مذموما في الشرائع ، كما حكى الله عن قوم نوح عليه السلام بقوله : ولو شاء الله لأنزل ملائكة ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين وعن قوم إبراهيم عليه الصلاة والسلام بقوله تعالى : قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون إلى آخر ذلك مما في معناه ، فكان الجميع مذمومين حين اعتبروا واعتقدوا أن الحق تابع لهم ولم يلتفتوا إلى أن الحق هو المقدم .

والثاني : رأي الإمامية في اتباع الإمام المعصوم - في زعمهم - وإن خالف ما جاء به النبي المعصوم حقا ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم ، فحكموا الرجال على الشريعة ولم يحكموا الشريعة على الرجال ، وإنما أنزل الكتاب ليكون حكما على الخلق على الإطلاق والعموم .

والثالث : لاحق بالثاني ، وهو مذهب الفرقة المهدوية التي جعلت أفعال مهديهم حجة ، وافقت حكم الشريعة أو خالفت ، بل جعلوا أكثر ذلك أنفحة في عقد إيمانهم من خالفها كفروه وجعلوا حكمه حكم الكافر الأصلي ، وقد تقدم من ذلك أمثلة .

والرابع : رأي المقلدة لمذهب إمام يزعمون أن إمامهم هو [ ص: 865 ] الشريعة ، بحيث يأنفون أن تنسب إلى أحد من العلماء فضيلة دون إمامهم ، حتى إذا جاءهم من بلغ درجة الاجتهاد وتكلم في المسائل ولم يرتبط إلى إمامهم رموه بالنكير ، وفوقوا إليه سهام النقد ، وعدوه من الخارجين عن الجادة ، والمفارقين للجماعة من غير استدلال منهم بدليل ، بل بمجرد الاعتياد العامي .

ولقد لقي الإمام بقي بن مخلد حين دخل الأندلس آتيا من المشرق من هذا الصنف الأمرين ، حتى أصاروه مهجور الفناء ، مهتضم الجانب ، لأنه من العلم بما لا يدي لهم به ، إذ لقي بالمشرق الإمام أحمد بن حنبل وأخذ عنه مصنفه وتفقه عليه ، ولقي أيضا غيره ، حتى صنف المسند المصنف الذي لم يصنف في الإسلام مثله ، وكان هؤلاء المقلدة قد صمموا على مذهب مالك ، بحيث أنكروا ما عداه ، وهذا تحكيم الرجال على الحق ، والغلو في محبة المذهب ، وعين الإنصاف ترى أن الجميع أئمة فضلاء ، فمن كان متبعا لمذهب مجتهد لكونه لم يبلغ درجة الاجتهاد فلا يضره مخالفة غير إمامه لإمامه ، لأن الجميع سالك على الطريق المكلف به ، فقد يؤدي التغالي في التقليد إلى إنكار لما أجمع الناس على ترك إنكاره .

والخامس : رأي نابتة متأخرة الزمان ممن يدعي التخلق بخلق أهل التصوف المتقدمين ، أو يروم الدخول فيهم ، يعمدون إلى ما نقل عنهم في الكتب من الأحوال الجارية عليهم أو الأقوال الصادرة عنهم ، فيتخذونها دينا وشريعة لأهل الطريقة ، وإن كانت مخالفة للنصوص الشرعية من الكتاب والسنة ، أو مخالفة لما جاء عن السلف الصالح ، لا يلتفتون إلى فتيا [ ص: 866 ] مفت ولا نظر عالم ، بل يقولون : إن صاحب هذا الكلام ثبتت ولايته ، فكل ما يفعله أو يقوله حق ، وإن كان مخالفا فهو أيضا ممن يقتدى به ، والفقه للعموم ، وهذه طريقة الخصوص !

فتراهم يحسنون الظن بتلك الأقوال والأفعال ولا يحسنون الظن بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو عين اتباع الرجال وترك الحق ، مع أن أولئك المتصوفة الذين ينقل عنهم لم يثبت أن ما نقل عنهم كان في النهاية دون البداية ، ولا علم أنهم كانوا مقرين بصحة ما صدر عنهم أم لا ، وأيضا فقد يكون من أئمة التصوف وغيرهم من زل زلة يجب سترها عليه ، فينقلها عنه من لا يعلم حاله ممن لم يتأدب بطريق القوم كل التأدب .

وقد حذر السلف الصالح من زلة العالم ، وجعلوها من الأمور التي تهدم الدين ، فإنه ربما ظهرت فتطير في الناس كل مطار ، فيعدونها دينا ، وهي ضد الدين ، فتكون الزلة حجة في الدين .

فكذلك أهل التصوف لابد في الاقتداء بالصوفي من عرض أقواله وأفعاله على حاكم يحكم عليها : هل هي من جملة ما يتخذ دينا أم لا ؟ والحاكم هو الشرع وأقوال العالم تعرض على الشرع أيضا ، وأقل ذلك في الصوفي أن نسأله عن تلك الأعمال إن كان عالما بالفقه ، كالجنيد وغيره رحمهم الله .

ولكن هؤلاء الرجال النابتة لا يفعلون ذلك ، فصاروا متبعين الرجال من حيث هم رجال لا من حيث هم راجحون بالحاكم الحق ، وهو خلاف ما عليه السلف الصالح وما عليه المتصوفة أيضا ، إذ قال إمامهم سهل بن عبد الله التستري : مذهبنا مبني على ثلاثة أصول : الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم في [ ص: 867 ] الأخلاق والأفعال ، والأكل من الحلال ، وإخلاص النية في جميع الأعمال . ولم يثبت في طريقهم اتباع الرجال على انحراف ، وحاشاهم من ذلك ، بل اتباع الرجال ، شأن أهل الضلال .

والسادس : رأي نابتة في هذه الأزمنة أعرضوا عن النظر في العلم الذي هم أرادوا الكلام فيه والعمل بحسبه . ثم رجعوا إلى تقليد بعض الشيوخ الذين أخذوا عنهم في زمان الصبا الذي هو مظنة لعدم التثبت من الآخذ أو التغافل من المأخوذ عنه . ثم جعلوا أولئك الشيوخ في أعلى درجات الكمال، ونسبوا إليهم ما نسبوا به من خطإ ، أو فهموا عنهم على غير تثبت ولا سؤال عن تحقيق المسألة المروية ، وردوا جميع ما نقل عن الأولين مما هو الحق والصواب ، كمسألة " الباء " الواقعة في هذه الأزمنة ؛ فإن طائفة ممن تظاهر بالانتصاب للإقراء زعم أنها الرخوة التي اتفق القراء - وهم أهل صناعة الأداء ، والنحويون أيضا - وهم الناقلون عن العرب - على أنها لم تأت إلا في لغة مرذولة لا يؤخذ بها ولا يقرأ بها القرآن ، ولا نقلت القراءة بها عن أحد من العلماء بذلك الشأن ، وإنما الباء التي يقرأ بها - وهي الموجودة في كل لغة فصيحة - الباء الشديدة ، فأبى هؤلاء من القراءة والإقراء بها ، بناء على أن التي قرؤوا بها على الشيوخ الذين لقوهم هي تلك لا هذه ، محتجين بأنهم كانوا علماء وفضلاء ، فلو كانت خطأ لردوها علينا . وأسقطوا النظر والبحث عن أقوال المتقدمين فيها رأسا ؛ تحسين ظن بالرجال ، وتهمة للعلم ، فصارت بدعة جارية - أعني القراءة بالباء الرخوة - مصرحا بأنها الحق الصريح ، فنعوذ بالله من المخالفة .

[ ص: 868 ] ولقد لج بعضهم حين وجهوا بالنصيحة فلم يرجعوا ، فكان القرشي المقرئ أقرب مراما منهم .

حكي عن يوسف بن عبد الله بن مغيث أنه قال : أدركت بقرطبة مقرئا يعرف بالقرشي ، وكان لا يحسن النحو فقرأ عليه قارئ يوما : وجاءت سكرة الموت بالحق ذلك ما كنت منه تحيد فرد عليه القرشي " تحيد " بالتنوين ، فراجعه القارئ - وكان يحسن النحو - فلج عليه المقرئ وثبت على التنوين . فانتشر الخبر إلى أن بلغ يحيى بن مجاهد الألبيري الزاهد - وكان صديقا لهذا المقرئ - فنهض إليه ، فلما سلم عليه وسأله عن حاله قال له ابن مجاهد : أنه بعد عهدي بقراءة القرآن على مقرئ فأردت تجديد ذلك عليك فأجابه إليه ، فقال : أريد أن أبتدئ بالمفصل فهو الذي يتردد في الصلوات ، فقال المقرئ : ما شئت . فقرأ عليه من أول المفصل فلما بلغ الآية المذكورة ردها عليه المقرئ بالتنوين ، فقال له ابن مجاهد : لا تفعل ، ما هي إلا غير منونة بلا شك . فلج المقرئ ، فلما رأى ابن مجاهد تصميمه قال له : يا أخي إني لم يحملني على القراءة عليك إلا لتراجع الحق في لطف ، وهذه عظيمة أوقعك فيها قلة علمك بالنحو ، فإن الأفعال لا يدخلها التنوين ، فتحير المقرئ ، إلا أنه لم يقنع بهذا ، فقال له ابن مجاهد : بيني وبينك المصحف . فأحضر منه جملة فوجدوها مشكولة بغير تنوين ، فرجع [ ص: 869 ] المقرئ إلى الحق . انتهت الحكاية . ويا ليت مسألتنا مثل هذه . ولكنهم عفا الله عنهم أبوا الانقياد إلى الصواب .

والسابع : رأي نابتة أيضا يرون أن عمل الجمهور اليوم - من التزام الدعاء بهيئة الاجتماع بإثر الصلوات ، والتزام المؤذنين التثويب بعد الآذان - صحيح بإطلاق ، من غير اعتبار بمخالفة الشريعة أو موافقتها ، وأن من خالفهم بدليل شرعي اجتهادي أو تقليدي خارج عن سنة المسلمين ، بناء منهم على أمور تخبطوا فيها من غير دليل معتبر . فمنهم من يميل إلى أن هذا العمل المعمول به في الجمهور ثابت عن فضلاء وصالحين علماء .

فلو كان خطأ لم يعملوا به .

وهذا مما نحن فيه اليوم ، تتهم الأدلة وأقوال العلماء المتقدمين ، ويحسن الظن بمن تأخر ، وربما نوزع بأقوال من تقدم ، فيرميها الرامي بالظنون واحتمال الخطإ ، ولا يرمي بذلك المتأخرين ، الذين هم أولى به بإجماع المسلمين . وإذا سئل عن أصل هذا العمل المتأخر : هل عليه دليل من الشريعة ؟ لم يأت بشيء أو يأتي بأدلة محتملة لا علم له بتفصيلها ، كقوله هذا خير أو حسن ، وقد قال تعالى : الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أو يقول : هذا بر ، وقال تعالى : وتعاونوا على البر والتقوى فإذا سئل عن أصل كونه خيرا أو برا وقف ، وميله إلى أنه ظهر له بعقله أنه خير وبر ، فجعل التحسين عقليا ، وهو مذهب أهل الزيغ ، وثابت عند أهل السنة أنه من البدع المحدثات .

[ ص: 870 ] ومنهم من طالع كلام القرافي و ابن عبد السلام في أن البدع خمسة أقسام . فنقول : هذا من المحدث المستحسن . وربما رشح ذلك بما جاء في الحديث :

ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله حسن وقد مر ما فيه . وأما الحديث فإنما معناه عند العلماء أن علماء الإسلام إذا نظروا في مسألة مجتهد فيها فما رأوه فيها حسنا فهو عند الله حسن ، لأنه جار على أصول الشريعة . والدليل على ذلك الاتفاق . على أن العوام لو نظروا فأداهم اجتهادهم إلى استحسان حكم شرعي لم يكن عند الله حسنا حتى يوافق الشريعة . والذين نتكلم معهم في هذه المسألة ليسوا من المجتهدين باتفاق منا ومنهم ، فلا اعتبار بالاحتجاج بالحديث على استحسان شيء واستقباحه بغير دليل شرعي .

ومنهم من ترقى في الدعوى حتى يدعي فيها الإجماع من أهل الأقطار ، وهو لم يبرح من قطره ، ولا بحث عن علماء أهل الأقطار ، ولا عن تبيانهم فيما عليه الجمهور ، ولا عرف من أخبار الأقطار خبرا ، فهو ممن يسأل عن ذلك يوم القيامة .

وهذا الاضطراب كله منشؤه تحسين الظن بأعمال المتأخرين - وإن جاءت الشريعة بخلاف ذلك - والوقوف مع الرجال دون التحري للحق .

والثامن : رأي قوم ممن تقدم زماننا هذا - فضلا عن زماننا - اتخذوا الرجال ذريعة لأهوائهم وأهواء من داناهم ، ومن رغب إليهم في ذلك ، فإذا [ ص: 871 ] عرفوا غرض بعض هؤلاء في حكم حاكم أو فتيا تعبد وغير ذلك ، بحثوا عن أقوال العلماء في المسألة المسؤول عنها حتى يجدوا القول الموافق للسائل فأفتوا به ، زاعمين أن الحجة في ذلك لهم قول من قال : اختلاف العلماء رحمة . ثم ما زال هذا الشر يستطير في الأتباع وأتباعهم ، حتى لقد حكى الخطابي عن بعضهم أنه يقول : كل مسألة ثبت لأحد من العلماء فيها القول بالجواز - شذ عن الجماعة أو لا - فالمسألة جائزة ، وقد تقررت هذه المسألة على وجهها في كتاب الموافقات ، والحمد لله .

والتاسع : ما حكى الله عن الأحبار والرهبان قوله : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله فخرج الترمذي عن عدي بن حاتم قال : أتيت النبي صلى الله عليه وسلم - وفي عنقي صليب من ذهب - فقال : يا عدي ، اطرح عنك هذا الوثن ، وسمعته يقرأ في سورة براءة : ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم قال : أما إنهم لم يكونوا يعبدونهم ، ولكن إذا أحلوا لهم شيئا استحلوه ، وإذا حرموا عليهم شيئا حرموهحديث غريب .

وفي تفسير سعيد بن منصور قيل لحذيفة ، أرأيت قول الله تعالى : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله ؟ قال حذيفة : أما إنهم لم يصلوا لهم ، ولكنهم كانوا ما أحلوا لهم من حرام استحلوه ، وما حرموا عليهم من حلال حرموه ، فتلك ربوبيتهم .

[ ص: 872 ] وحكى عنه الطبري عن عدي مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قول ابن عباس أيضا وأبي العالية .

فتأملوا يا أولي الألباب ! كيف حال الاعتقاد في الفتوى على الرجال من غير تحر للدليل الشرعي ، بل لمجرد العرض العاجل ، عافانا الله من ذلك بفضله .

والعاشر : رأي أهل التحسين والتقبيح العقليين ، فإن محصول مذهبهم تحكيم عقول الرجال دون الشرع ، وهو أصل من الأصول التي بنى عليها أهل الابتداع في الدين ، بحيث إن الشرع إن وافق آراءهم قبلوه ، وإلا ردوه .

فالحاصل مما تقدم أن تحكيم الرجال من غير التفات إلى كونهم وسائل للحكم الشرعي المطلوب شرعا ضلال ، وما توفيقي إلا بالله ، وإن الحجة القاطعة والحاكم الأعلى هو الشرع لا غير .

ثم نقول : إن هذا مذهب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومن رأى سيرهم والنقل عنهم وطالع أحوالهم علم ذلك علما يقينا . ألا ترى أصحاب السقيفة لما تنازعوا في الإمارة ، حتى قال بعض الأنصار منا أمير ومنكم أمير، فأتى الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن الأئمة من قريش أذعنوا لطاعة الله ورسوله ولم يعبؤوا برأي من رأى غير ذلك ، لعلمهم بأن الحق هو المقدم على آراء الرجال .

[ ص: 873 ] ولما أراد أبو بكر - رضي الله عنه - قتال مانعي الزكاة احتجوا عليه بالحديث المشهور ، فرد عليهم ما استدلوا به بغير ما استدلوا به وذلك قوله : إلا بحقها فقال : الزكاة حق المال ، ثم قال : والله لو منعوني عقالا أو عناقا كانوا يؤدونه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه

فتأملوا هذا المعنى فإن فيه نكتتين مما نحن فيه :

إحداهما : أنه لم يجعل لأحد سبيلا إلى جريان الأمر في زمانه على غير ما كان يجري في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كان بتأويل ، لأن من لم يرتد من المانعين إنما منع تأويلا ، وفي هذا القسم وقع النزاع بين الصحابة لا فيمن ارتد رأسا، ولكن أبا بكر لم يعذر بالتأويل والجهل ، ونظر إلى حقيقة ما كان الأمر عليه فطلبه إلى أقصاه حتى قال : والله لو منعوني عقالا . . . إلى آخره، مع أن الذين أشاروا عليه بترك قتالهم إنما أشاروا عليه بأمر مصلحي ظاهر تعضده مسائل شرعية ، وقواعد أصولية ، لكن الدليل الشرعي الصريح كان عنده ظاهرا ، فلم تقو عنده آراء الرجال أن تعارض الدليل الظاهر ، فالتزمه ، ثم رجع المشيرون عليه بالترك إلى صحة دليله تقديما للحاكم الحق ، وهو الشرع .

والثانية : أن أبا بكر - رضي الله عنه - لم يلتفت إلى ما يلقى هو والمسلمون في طريق طلب الزكاة من مانعيها من المشقة إذ لما امتنعوا صار مظنة للقتال وهلاك من شاء من الفرقتين ، ودخول المشقة على المسلمين في الأنفس والأموال والأولاد، ولكنه - رضي الله عنه - لم يعتبر إلا [ ص: 874 ] إقامة الملة على حسب ما كانت قبل ، فكان ذلك أصلا في أنه لا يعتبر العوارض الطارئة في إقامة الدين وشعائر الإسلام ، نظير ما قال الله تعالى : إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله فإن الله لم يعذرهم في ترك منع المشركين خوف العيلة ، فكذلك لم يعد أبو بكر ما يلقى المسلمون من المشقة عذرا يترك به المطالبة بإقامة شعائر الدين حسبما كانت في زمان النبي صلى الله عليه وسلم .

وجاء في القصة أن الصحابة أشاروا عليه برد البعث الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أسامة بن زيد - ولم يكونوا بعد مضوا لوجهتهم - ليكونوا معه عونا على قتال أهل الردة فأبى من ذلك ، وقال : ما كنت لأرد بعثا أنفذه رسول الله صلى الله عليه وسلم . فوقف مع شرع الله ولم يحكم غيره .

وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : إني أخاف على أمتي من بعدي من أعمال ثلاثة، قالوا : وما هي يا رسول الله ؟ قال : أخاف عليكم من زلة العالم ، ومن حكم جائر ، ومن هوى متبع .

وإنما زلة العالم بأن يخرج عن طريق الشرع ، فإذا كان ممن يخرج عنه فكيف يجعل حجة على الشرع ؟ هذا مضاد لذلك .

[ ص: 875 ] ولقد كان كافيا من ذلك خطاب الله لنبيه وأصحابه : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول الآية ، مع أنه قال تعالى : أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم وقوله تعالى : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله أمرا أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ، ولذلك قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : ثلاث يهدمن الدين : زلة العالم ، وجدال منافق بالقرآن ، وأئمة مضلون .

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه كان يقول : اغد عالما أو متعلما ، ولا تغد إمعة فيما بين ذلك . قال ابن وهب : فسألت سفيان عن الإمعة فقال : الإمعة في الجاهلية الذي يدعى إلى الطعام فيذهب معه بغيره، وهو فيكم اليوم المحقب دينه الرجال .

وعن كميل بن زياد أن عليا - رضي الله عنه - قال : يا كميل : إن هذه القلوب أوعية فخيرها أوعاها للخير ، والناس ثلاثة : فعالم رباني ، ومتعلم على سبيل نجاة ، وهمج رعاع ، أتباع كل ناعق ، لم يستضيئوا بنور العلم ، ولم يلجؤوا إلى ركن وثيق . . . . . . . الحديث .

إلى أن قال فيه : أف لحامل حق لا بصيرة له ، ينقدح الشك في قلبه بأول عارض من شبهة لا يدري أين الحق ، إن قال أخطأ ، وإن أخطأ لم [ ص: 876 ] يدر ، مشغوف بما لا يدري حقيقته ، فهو فتنة لمن فتن به ، وإن من الخير كله من عرف الله دينه ، وكفى بالمرء جهلا أن لا يعرف دينه .

وعن علي رضي الله عنه قال إياكم والاستنان بالرجال ؛ فإن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة، ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل النار، فينقلب لعلم الله، فيموت وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار ، ثم ينقلب لعلم الله فيه فيعمل بعمل أهل الجنة ، فينقلب لعلم الله، فيموت وهو من أهل الجنة، فإن كنتم لا بد فاعلين فبالأموات لا بالأحياء . وأشار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه الكرام، وهو جائز في كل زمان يعدم فيه المجتهدون .

وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - : ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلا ، إن آمن آمن ، وإن كفر كفر ، فإنه لا أسوة في الشر . وهذا الكلام من ابن مسعود بين مراد ما تقدم ذكره من كلام السلف ، وهو النهي عن اتباع السلف من غير التفات إلى غير ذلك .

وفي الصحيح عن أبي وائل قال : جلست إلى شيبة في هذا المسجد قال : جلس إلي عمر في مجلسك هذا قال : هممت أن لا أدع فيها صفراء ولا بيضاء إلا قسمتها بين المسلمين ، قلت : ما أنت بفاعل . قال : لم ؟ قلت : لم يفعله صاحباك . قال : هما المرءان أهتدي بهما . يعني النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر - رضي الله عنه - .

[ ص: 877 ] وعن ابن عباس - رضي الله عنهما - في حديث عيينة بن حصن حين استؤذن له على عمر ، قال فيه : فلما دخل قال : يابن الخطاب ! والله ما تعطينا الجزل ، وما تحكم بيننا بالعدل . فغضب عمر حتى هم بأن يقع فيه ، فقال الحر بن قيس : يا أمير المؤمنين : إن الله قال لنبيه عليه الصلاة والسلام : خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين فوالله ما جاوز عمر حين تلاها عليه ، وكان وقافا عند كتاب الله .

وحديث فتنة القبور حيث قال عليه الصلاة والسلام : فأما المؤمن - أو المسلم - فيقول : محمد جاءنا بالبينات فأجبناه وآمنا ، فيقال : نم صالحا قد علمنا أنك موقن . وأما المنافق أو المرتاب فيقول : لا أدري ، سمعت الناس يقولون شيئا فقلته .

وحديث مخاصمة علي والعباس عمر في ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقوله لرهط الحاضرين : هل تعلمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لا نورث، ما تركناه صدقة فأقروا بذلك - إلى أن قال لعلي والعباس : أفتلتمسان مني قضاء غير ذلك ؟ فوالله الذي بإذنه تقوم السماء والأرض لا أقضي فيها قضاء غير ذلك حتى تقوم الساعة - إلى آخر الحديث،

وترجم البخاري في هذا المعنى ترجمة تقتضي أن حكم الشارع [ ص: 878 ] إذا وقع وظهر فلا خيرة للرجال ولا اعتبار بهم ، وأن المشاورة إنما تكون قبل التبيين . فقال : باب قول الله تعالى : وأمرهم شورى بينهم وشاورهم في الأمر وأن المشاورة قبل العزم والتبيين لقوله تعالى : فإذا عزمت فتوكل على الله فإذا عزم الرسول لم يكن لبشر التقدم على الله ورسوله . وشاور النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم أحد في المقام والخروج ، فرأوا له الخروج ، فلما لبس لأمته قالوا أقم ، فلم يمل إليهم بعد العزم ، وقال : لا ينبغي لنبي يلبس لأمته فيضعها حتى يحكم الله . وشاور عليا وأسامة فيما رمى به أهل الإفك عائشة - رضي الله عنها - ، ( فسمع منهما ) حتى نزل القرآن فجلد الرامين ولم يلتفت إلى تنازعهم ، ولكن حكم بما أمره الله .

وكانت الأئمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم يستشيرون الأمناء من أهل العلم في [ ص: 879 ] الأمور المباحة ليأخذوا بأسهلها ، فإذا وقع في الكتاب والسنة ، لم يتعدوه إلى غيره ، اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم . ورأى أبو بكر قتال من منع الزكاة فقال عمر : كيف تقاتل وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوا : ( لا إله إلا الله ) عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله ؟ فقال أبو بكر : والله لأقاتلن من فرق بين ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم تابعه بعد عمر . فلم يلتفت أبو بكر إلى مشورة ، إذ كان عنده حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثابتا في الذين فرقوا بين الصلاة والزكاة وأرادوا تبديل الدين وأحكامه وقال النبي صلى الله عليه وسلم : من بدل دينه فاقتلوه وكان القراء أصحاب مشورة عمر كهولا كانوا أو شبانا ، وكان وقافا عند كتاب الله .

هذا جملة ما قال في جملة تلك الترجمة مما يليق بهذا الموضع ، مما يدل على أن الصحابة لم يأخذوا أقوال الرجال في طريق الحق إلا من حيث هم وسائل للتوصل إلى شرع الله ، لا من حيث هم أصحاب رتب أو كذا أو كذا أو كذا وهو ما تقدم .

وذكر ابن مزين عن عيسى بن دينار ، عن ابن القاسم ، عن مالك أنه [ ص: 880 ] قال : ليس كل ما قال رجل قولا - وإن كان له فضل - يتبع عليه ؛ لقول الله عز وجل : الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية