صفحة جزء
وأما أن صاحبها ملعون على لسان الشريعة :

فلقوله عليه الصلاة والسلام : من أحدث حدثا أو آوى محدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين .

وعد من الإحداث : الاستنان بسنة سوء لم تكن .

وهذه اللعنة قد اشترك فيها صاحب البدعة مع من كفر بعد إيمانه وقد [ ص: 154 ] شهد أن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم حق لا شك فيها ، وجاءه الهدى من الله والبيان الشافي ، وذلك قول الله تعالى : ( كيف يهدي الله قوما كفروا بعد إيمانهم وشهدوا أن الرسول حق ) إلى قوله : ( أولئك جزاؤهم أن عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ) إلى آخرها .

واشترك أيضا مع من كتم ما أنزل الله وبينه في كتابه ، وذلك قوله تعالى : ( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون ) إلى آخرها .

فتأملوا المعنى الذي اشترك المبتدع فيه مع هاتين الفرقتين ، وذلك مضادة الشارع فيما شرع; لأن الله تعالى أنزل الكتاب وشرع الشرائع ، وبين الطريق للسالكين على غاية ما يمكن من البيان ، فضادها الكافر بأن جحدها جحدا ، وضادها كاتمها بنفس الكتمان ، لأن الشارع يبين ويظهر وهذا يكتم ويخفي ، وضادها المبتدع بأن وضع الوسيلة لترك ما بين وإخفاء ما أظهر ، لأن من شأنه أن يدخل الإشكال في الواضحات ، من أجل اتباع المتشابهات ، لأن الواضحات تهدم له ما بنى عليه من المتشابهات ، فهو آخذ في إدخال الإشكال على الواضح ، حتى يرتكب ما جاءت اللعنة في الابتداع به من الله والملائكة والناس أجمعين .

قال أبو مصعب صاحب مالك : " قدم علينا ابن مهدي يعني : المدينة فصلى ووضع رداءه بين يدي الصف ، فلما سلم الإمام; رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكا ، وكان قد صلى خلف الإمام ، فلما سلم; [ ص: 155 ] قال : من هاهنا من الحرس ؟ فجاءه نفسان ، فقال : خذا صاحب هذا الثوب ، فاحبساه ، فحبس ، فقيل له : إنه ابن مهدي; فوجه إليه ، وقال له : أما خفت الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف ، وشغلت المصلين بالنظر إليه ، وأحدثت في مسجدنا شيئا ما كنا نعرفه ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : من أحدث في مسجدنا حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ؟ ! فبكى ابن مهدي ، وآلى على نفسه أن لا يفعل ذلك أبدا في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ولا في غيره " .

وهذا غاية في التوقي والتحفظ في ترك إحداث ما لم يكن; خوفا من تلك اللعنة ، فما ظنك بما سوى وضع الثوب ؟ !

وتقدم حديث الطحاوي : " ستة ألعنهم ، لعنهم الله " ، فذكر فيهم التارك لسنته عليه الصلاة والسلام أخذا بالبدعة .

التالي السابق


الخدمات العلمية