صفحة جزء
وأما أنه يخشى عليه الفتنة :

فلما حكى عياض عن سفيان بن عيينة : أنه قال : " سألت مالكا عمن أحرم من المدينة وراء الميقات ؟ فقال : هذا مخالف لله ورسوله ، أخشى عليه الفتنة في الدنيا ، والعذاب الأليم في الآخرة ، أما سمعت قوله تعالى : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) ؟ ! وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يهل من المواقيت " .

وحكى ابن العربي عن الزبير بن بكار ، قال : " سمعت مالك بن أنس ، وأتاه رجل ، فقال : يا أبا عبد الله ! من أين أحرم ؟ قال : من ذي الحليفة ، من حيث أحرم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إني أريد أن أحرم من المسجد . فقال : لا تفعل ، قال : فإني أريد أن أحرم من المسجد من عند القبر ، قال : لا تفعل; فإني أخشى عليك الفتنة ، فقال : وأي فتنة هذه ؟ ! إنما هي أميال أزيدها ، قال : وأي فتنة أعظم من أن ترى أنك سبقت إلى فضيلة قصر عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ ! إني سمعت الله يقول : ( فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب أليم ) .

وهذه الفتنة التي ذكرها مالك رحمه الله تفسير الآية هي شأن أهل البدع وقاعدتهم التي يؤسسون عليها بنيانهم ، فإنهم يرون أن ما ذكره الله في كتابه وما سنه نبيه صلى الله عليه وسلم دون ما اهتدوا إليه بعقولهم .

[ ص: 175 ] وفي مثل ذلك قال ابن مسعود رضي الله عنه فيما روي عن ابن وضاح : " لقد هديتم لما لم يهتد له نبيكم ! وإنكم لتمسكون بذنب ضلالة " ; إذ مر بقوم كان رجل يجمعهم ، يقول : رحم الله من قال كذا وكذا مرة : سبحان الله ، فيقول القوم . ويقول : رحم الله من قال كذا وكذا مرة : الحمد لله فيقول القوم .

ثم إن ما استدل به مالك من الآيات الكريمة نزلت في شأن المنافقين حين أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفر الخندق ، وهم الذين كانوا يتسللون لواذا . وقد تقدم أن النفاق من أصله بدعة ، لأنه وضع بدعة في الشريعة على غير ما وضعها الله تعالى ، ولذلك لما أخبر تعالى عن المنافقين; قال : ( أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى ) ، فمن حيث كانت عامة في المخالفين عن أمره يدخلون أيضا من باب أحرى .

فهذه جملة يستدل بها على ما بقي ، إذ ما تقدم من الآيات والأحاديث فيها مما يتعلق بهذا المعنى كثير ، وبسط معانيها طويل ، فلنقتصر على ما ذكرنا وبالله التوفيق .

التالي السابق


الخدمات العلمية