صفحة جزء
فإن قيل : كيف هذا وقد ثبت في الشريعة ما يدل على تخصيص تلك [ ص: 228 ] العمومات ، وتقييد تلك المطلقات ، وفرع العلماء منها كثيرا من المسائل ، وأصلوا منها أصولا يحتذى حذوها على وفق ما ثبت نقله ، إذ الظواهر تخرج على مقتضى ظهورها بالاجتهاد ، وبالحري إن كان ما يستنبط بالاجتهاد مقيسا على محل التخصيص ، فلذلك قسم الناس البدع ، ولم يقولوا بذمها على الإطلاق ؟

وحاصل ما ذكروا من ذلك يرجع إلى أوجه :

أحدها : ما في الصحيح :

من قوله صلى الله عليه وسلم : من سن سنة حسنة; كان له أجرها وأجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن سن سنة سيئة; كان عليه وزرها ووزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا .

وخرج الترمذي وصححه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من دل على خير; فله أجر فاعله .

وخرج أيضا عن جرير بن عبد الله ; قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من سن سنة خير ، فاتبع عليها ، فله أجره ومثل أجور من اتبعه غير منقوص من أجورهم شيئا ، ومن سن سنة شر ، فاتبع عليها; كان عليه وزرها ومثل أوزار من اتبعه غير منقوص من أوزارهم شيئا " ; حسن صحيح .

فهذه الأحاديث صريحة في أن من سن سنة خير; فذلك خير .

[ ص: 229 ] ودل على أنه فيمن ابتدع " من سن " ، فنسب الاستنان إلى المكلف دون الشارع ، ولو كان المراد : " من عمل سنة ثابتة في الشرع " ; لما قال : " من سن " .

ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : ما من نفس تقتل ظلما إلا كان على ابن آدم كفل من دمها; لأنه أول من سن القتل ، فـ " سن " هاهنا على حقيقته; لأنه اختراع ما لم يكن قبل معمولا به في الأرض بعد وجود آدم عليه السلام .

فكذلك قوله : من سن سنة حسنة ; أي : من اخترعها من نفسه ، لكن بشرط أن تكون حسنة ، فله من الأجر ما ذكر ، فليس المراد : من عمل سنة ثابتة ، وإنما العبارة عن هذا المعنى أن يقال : من عمل بسنتي أو سنة من سنتي . . . . وما أشبه ذلك; كما خرج الترمذي :

أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبلال بن الحارث : " اعلم " ، قال : أعلم يا رسول الله ، قال : " اعلم يا بلال " ، قال : أعلم يا رسول الله ، قال : " إنه من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي; فإن له من الأجر مثل من عمل بها من غير أن ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، ومن ابتدع بدعة ضلالة لا ترضي الله ورسوله; كان عليه مثل إثم من عمل بها لا ينقص ذلك من آثام الناس شيئا " ; حديث حسن .

وعن أنس رضي الله عنه; قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا بني ! إن قدرت أن تصبح وتمسي ليس في قلبك غش لأحد فافعل " ، ثم قال لي : [ ص: 230 ] " يا بني ! وذلك من سنتي ، ومن أحيا سنتي; فقد أحبني ، ومن أحبني; كان معي في الجنة ; حديث حسن .

فقوله : من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي ; واضح في العمل بما ثبت أنه سنة ، وكذلك قوله : من أحيا سنتي; فقد أحبني ; ظاهر في السنن الثابتة ، بخلاف قوله : " من سن كذا " ; فإنه في الاختراع أولا من غير أن يكون ثابتا في السنة .

وأما قوله لبلال بن الحارث : ومن ابتدع بدعة ضلالة ; فظاهر أن البدعة لا تذم بإطلاق ، بل بشرط أن تكون ضلالة ، وأن تكون لا يرضاها الله ورسوله ، فاقتضى ( هذا كله ) أن البدعة إذا لم تكن كذلك; لم يلحقها ذم ، ولا تبع صاحبها وزر ، فعادت إلى أنها سنة حسنة ، ودخلت تحت الوعد بالأجر .

والثاني : أن السلف الصالح رضي الله عنهم وأعلاهم الصحابة قد عملوا بما لم يأت به كتاب ولا سنة مما رأوه حسنا وأجمعوا عليه ، ولا تجتمع أمة محمد صلى الله عليه وسلم على ضلالة ، وإنما يجتمعون على هدى وما هو حسن .

فقد أجمعوا على جمع القرآن وكتبه في المصاحف ، وعلى جمع الناس على المصاحف العثمانية ، واطراح ما سوى ذلك من القراءات التي كانت مستعملة في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم يكن في ذلك قصر ولا حصر .

[ ص: 231 ] ثم اقتفى الناس أثرهم في ذلك الرأي الحسن ، فجمعوا العلم ودونوه وكتبوه ، ومن سبقهم في ذلك مالك بن أنس ، وقد كان من أشدهم اتباعا وأبعدهم من الابتداع .

هذا ، وإن كان قد نقل عنهم كراهية كتب العلم من الحديث وغيره; فإنما هو محمول إما على الخوف من الاتكال على الكتب استغناء بها عن الحفظ والتحصيل ، وإما على ما كان رأيا دون ما كان نقلا من كتاب أو سنة .

ثم اتفق الناس بعد ذلك على تدوين الجميع لما ضعف الأمر ، وقل المجتهدون في التحصيل ، فخافوا على الدين الدروس جملة .

قال اللخمي لما ذكر كلام مالك وغيره في كراهية بيع كتب العلم والإجارة على تعليمه ، وخرج عليه الإجارة على كتبه ، وحكى الخلاف ; وقال : " لا أرى اليوم أن يختلف في ذلك أنه جائز; لأن حفظ الناس وأفهامهم قد نقصت ، وقد كان كثير ممن تقدم ليست لهم كتب .

قال مالك : ولم يكن للقاسم ولا لسعيد كتب ، وما كنت أقرأ على أحد يكتب في هذه الألواح ، ولقد قلت لابن شهاب : أكنت تكتب العلم ؟ فقال : لا ، فقلت : أكنت تحب أن يقيدوا عليك الحديث ؟ فقال : لا .

فهذا كان شأن الناس ، فلو سار الناس لسيرتهم ، لضاع العلم ، ولم يكن بيننا منه رسمه ، وهكذا الناس اليوم يقرءون كتبهم ، ثم هم في التقصير على ما هم عليه " .

وأيضا; فإنه لا خلاف عندنا في مسائل الفروع : أن القول فيها بالاجتهاد والقياس واجب ، وإذا كان كذلك; كان إهمال كتبها وبيعها يؤدي [ ص: 232 ] إلى التقصير في الاجتهاد ، وأن لا يوضع مواضعه; لأن في معرفة أقوال المتقدمين والترجيح بين أقاويلهم قوة وزيادة في وضع الاجتهاد مواضعه .

انتهى ما قاله اللخمي ، وفيه إجازة العمل بما لم يكن عليه من تقدم ; لأن له وجها صحيحا ، فكذلك نقول : كل ما كان من المحدثات له وجه صحيح; فليس بمذموم ، بل هو محمود ، وصاحبه الذي سنه ممدوح ، فأين ذمها بإطلاق أو على العموم ؟ !

وقد قال عمر بن عبد العزيز : " تحدث للناس أقضية بقدر ما أحدثوا من الفجور " ، فأجاز كما ترى إحداث الأقضية واختراعها على قدر اختراع الفجار للفجور ، وإن لم يكن لتلك المحدثات أصل .

وقتل الجماعة بالواحد ، وهو محكي عن عمر وعلي وابن عباس والمغيرة بن شعبة رضي الله عنهم .

وأخذ مالك وأصحابه بقول الميت : دمي عند فلان ، ولم يأت له في الموطأ بأصل سماعي ، وإنما علل بأمر مصطلحي ، وفي مذهبه من ذلك مسائل كثيرة .

فإن كان ذلك جائزا مع أنه مخترع; فلم لا يجوز مثله وقد اجتمعا في العلة لأن الجميع مصالح معتبرة في الجملة ؟ ! وإن لم يكن شيء من ذلك جائزا; فلم اجتمعوا على جملة منها ، وفرع غيرهم على بعضها ؟ ! ولا يبقى إلا أن يقال : إنهم يتابعون على ما عمل هؤلاء دون غيره ، وإن اجتمعا [ ص: 233 ] في العلة المسوغة للقياس ، وعند ذلك يصير الاقتصار تحكما ، وهو باطل ، فما أدى إليه مثله ، فثبت أن البدع تنقسم .

فالجواب ، وبالله التوفيق ، أن نقول :

أما الوجه الأول; فإن قوله صلى الله عليه وسلم : من سن سنة حسنة ، الحديث . فليس المراد به الاختراع ألبتة ، وإلا لزم من ذلك التعارض بين الأدلة القطعية ، إن زعم مورد السؤال أن ما ذكره من الدليل مقطوع به ، فإن زعم أنه مظنون; فما تقدم من الدليل على ذم البدع مقطوع به ، فيلزم التعارض بين القطعي والظني ، والاتفاق من المحققين على تقديم القطعي .

ولكن فيه النظر من وجهين :

أحدهما : أنه يقال : إنه من قبيل المتعارضين ، إذ تقدم أولا أن أدلة الذم تكرر عمومها في أحاديث كثيرة من غير تخصيص ، وإذا تعاضدت أدلة العموم من [ غير ] تخصيص; لم يقبل بعد ذلك التخصيص .

والثاني : على التنزل لفقد التعارض ، فليس المراد بالحديث الاستنان بمعنى الاختراع ، وإنما المراد به العمل بما ثبت من السنة النبوية ، وذلك لوجهين :

أحدهما : أن السبب الذي جاء لأجله الحديث هو الصدقة المشروعة; بدليل ما في الصحيح من حديث جرير بن عبد الله رضي الله عنهما :

[ ص: 234 ] قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار ، فجاءه قوم حفاة عراة مجتابي النمار أو العباء متقلدي السيوف ، عامتهم مضر بل كلهم من مضر .

فقمص وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رآهم من الفاقة ، فدخل ، ثم خرج فأمر بلالا ، فأذن وأقام ، فصلى ، ثم خطب ، فقال :
ياأيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ) . . . . . والآية التي في سورة الحشر : اتقوا الله ولتنظر نفس ما قدمت لغد )
.

" وبعد : تصدق رجل; من ديناره ، من درهمه ، من ثوبه ، من صاع بره ، من صاع تمره " حتى قال : " ولو بشق تمرة " .

قال : فجاءه رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها ، بل قد عجزت . قال : ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب ، حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل كأنه مذهبة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

من سن في الإسلام سنة حسنة; فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سن سنة سيئة; كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء
.

فتأملوا أين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من سن سنة حسنة " ، و " من سن سنة سيئة " ، تجدوا ذلك فيمن عمل بمقتضى المذكور على أبلغ ما يقدر عليه ، حتى بتلك الصرة ، فانفتح بسببه باب الصدقة على الوجه الأبلغ ، [ ص: 235 ] فسر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال : من سن في الإسلام سنة حسنة . . . . . الحديث ، فدل على أن السنة هاهنا مثل ما فعل ذلك الصحابي ، وهو العمل بما ثبت كونه سنة ، وأن الحديث مطابق لقوله في الحديث الآخر : من أحيا سنة من سنتي قد أميتت بعدي الحديث إلى قوله ومن ابتدع بدعة ضلالة ، فجعل مقابل تلك السنة الابتداع ، فظهر أن السنة الحسنة ليست بمبتدعة ، وكذلك قوله : ومن أحيا سنتي فقد أحبني .

ووجه ذلك في الحديث الأول ظاهر; لأنه صلى الله عليه وسلم لما مضى على الصدقة أولا ثم جاء ذلك الأنصاري بما جاء به فانثال بعده العطاء إلى الكفاية ، فكأنها كانت سنة أيقظها رضي الله تعالى عنه بفعله ، فليس معناه : من اخترع سنة وابتدعها ولم تكن ثابتة .

ونحو ( هذا ) الحديث في " رقائق ابن المبارك " مما يوضح معناه عن حذيفة :

قال : قام سائل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأل ، فسكت القوم ، ثم إن رجلا أعطاه ، فأعطاه القوم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من استن خيرا فاستن به; فله أجره ومثل أجور من تبعه غير منتقص من أجورهم شيئا ، ومن استن شرا فاستن به; فعليه وزره ومثل أوزار من تبعه غير منتقص من أوزارهم شيئا .

[ ص: 236 ] فإذا; قوله : من سن سنة ; معناه : من عمل بسنة ، لا من اخترع سنة .

والوجه الثاني من وجهي الجواب :

أن قوله : من سن سنة حسنة ، ومن سن سنة سيئة ; لا يمكن حمله على الاختراع من أصل; لأن كونها حسنة أو سيئة لا يعرف إلا من جهة الشرع; لأن التحسين والتقبيح مختص بالشرع لا مدخل للعقل فيه ، وهو مذهب جماعة أهل السنة ، وإنما يقول به المبتدعة أعني : التحسين والتقبيح بالعقل فلزم أن تكون السنة في الحديث إما حسنة في الشرع وإما قبيحة بالشرع ، فلا يصدق إلا على مثل الصدقة المذكورة وما أشبهها من السنن المشروعة ، وتبقى السنة السيئة منزلة على المعاصي التي ثبت بالشرع كونها معاصي; كالقتل المنبه عليه في حديث ابن آدم ، حيث قال عليه السلام : لأنه أول من سن القتل ، وعلى البدع; لأنه قد ثبت ذمها والنهي عنها بالشرع; كما تقدم .

وأما قوله : من ابتدع بدعة ضلالة ، فهو على ظاهره; لأن سبب الحديث لم يقيده بشيء ، فلا بد من حمله على ظاهر اللفظ; كالعمومات المبتدأة التي لم تثبت لها أسباب .

ويصح أن يحمل على نحو ذلك قوله : ومن سن سنة سيئة ; أي : من اخترعها ، وشمل ما كان منها مخترعا ابتداء من المعاصي; كالقتل من أحد ابني آدم ، وما كان مخترعا بحكم الحال ، إذ كانت قبل مهملة متناساة ، فأثارها عمل هذا العامل .

[ ص: 237 ] فقد عاد الحديث والحمد لله حجة على أهل البدع من جهة لفظه ، وشرح الأحاديث الأخر له .

وإنما يبقى النظر في قوله : ومن ابتدع بدعة ضلالة ، وأن تقييد البدعة بالضلالة يفيد مفهوما ، والأمر فيه قريب; لأن الإضافة فيه لم تفد مفهوما; وإن قلنا بالمفهوم على رأي طائفة من أهل الأصول; فإن الدليل دل على تعطيله في هذا الموضع; كما دل دليل تحريم الربا قليله وكثيره على تعطيل المفهوم في قول الله تعالى : لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة ) ، ولأن الضلالة لازمة للبدعة بإطلاق ، بالأدلة المتقدمة ، فلا مفهوم أيضا .

والجواب عن الإشكال الثاني : أن جميع ما ذكر فيه من قبيل المصالح المرسلة ، لا من قبيل البدعة المحدثة ، والمصالح المرسلة قد عمل بمقتضاها السلف الصالح من الصحابة ومن بعدهم ، فهي من الأصول الفقهية الثابتة عند أهل الأصول ، وإن كان فيها خلاف بينهم ، ولكن لا يعد ذلك قدحا على ما نحن فيه .

أما جمع المصحف وقصر الناس عليه ; فهو على الحقيقة من هذا الباب ، إذ أنزل القرآن على سبعة أحرف ، كلها شاف كاف; تسهيلا على العرب المختلفات اللغات ، فكانت المصلحة في ذلك ظاهرة .

إلا أنه عرض في إباحة ذلك بعد زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم فتح لباب الاختلاف في القرآن ، حيث اختلفوا في القراءة حسبما يأتي بحول الله [ ص: 238 ] تعالى ، فخاف الصحابة رضوان الله تعالى عليهم اختلاف الأمة في ينبوع الملة ، فقصروا الناس على ما ثبت منها في مصاحف عثمان رضي الله عنه ، واطرحوا ما سوى ذلك ، علما بأن ما اطرحوه مضمن فيما أثبتوه ، لأنه من قبيل القراءات التي يؤدى بها القرآن .

ثم ضبطوا ذلك بالرواية حين فسدت الألسنة ، ودخل في الإسلام أهل العجمة; خوفا من فتح باب آخر من الفساد ، وهو أن يدخل أهل الإلحاد في القرآن أو في القراءات ما ليس منها ، فيستعينوا بذلك في بث إلحادهم ، ألا ترى أنه لما لم يمكنهم الدخول من هذا الباب; دخلوا من جهة التأويل والدعوى في معاني القرآن حسبما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى ؟

فحق ما فعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأن له أصلا يشهد له في الجملة ، وهو الأمر بتبليغ الشريعة ، وذلك لا خلاف فيه; لقوله تعالى : ياأيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) ، وأمته مثله ، وفي الحديث :

ليبلغ الشاهد منكم الغائب ، وأشباهه .

والتبليغ كما لا يتقيد بكيفية معلومة; لأنه من قبيل المعقول المعنى ، فيصح بأي شيء أمكن من الحفظ والتلقين والكتابة وغيرها ، وكذلك لا يتقيد حفظه عن التحريف والزيغ بكيفية دون أخرى ، إذا لم يعد على الأصل [ بـ ] الإبطال; كمسألة المصحف ، ولذلك أجمع عليه السلف الصالح .

[ ص: 239 ] وأما ما سوى المصحف; فالأمر فيه أسهل ، فقد ثبت في السنة كتابة العلم :

ففي الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم : اكتبوا لأبي شاه .

وعن أبي هريرة رضي الله عنه : أنه قال : " ليس أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر حديثا مني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا عبد الله بن عمرو; فإنه كان يكتب وكنت لا أكتب " .

وذكر أهل السير أنه كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم كتاب يكتبون له الوحي وغيره; منهم : عثمان ، وعلي ، ومعاوية ، والمغيرة بن شعبة ، وأبي بن كعب ، وزيد بن ثابت ، وغيرهم .

وأيضا; فإن الكتابة من قبيل ما لا يتم الواجب إلا به إذا تعين لضعف الحفظ وخوف اندراس العلم ، كما خيف دروسه حينئذ ، وهو الذي نبه عليه اللخمي فيما تقدم .

وإنما كره المتقدمون كتب العلم لأمر آخر لا لكونه بدعة ، فكل من سمى كتب العلم بدعة; فإما متجوز ، وإما غير عارف بموضع لفظ البدعة ، فلا يصح الاستدلال بهذه الأشياء على صحة العمل بالبدع .

وإن تعلق [ وا ] بما ورد من الخلاف في المصالح المرسلة ، وأن البناء عليها ( غير ) صحيح عند جماعة من الأصوليين; فالحجة عليهم إجماع الصحابة على المصحف والرجوع إليه ، وإذا ثبت اعتبارها في صورة; ثبت [ ص: 240 ] اعتبارها مطلقا ، ولا يبقى بين المختلفين نزاع إلا في الفروع .

وفي الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم : فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين; تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور .

فأعطى الحديث كما ترى أن ما سنه الخلفاء الراشدون لاحق بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم; لأن ما سنوه لا يعدو أحد أمرين : إما أن يكون مقصودا بدليل شرعي; فذلك سنة لا بدعة ، وإما بغير دليل ومعاذ الله من ذلك ولكن هذا الحديث دليل على إثباته سنة ، إذ قد أثبته كذلك صاحب الشريعة ، فدليلهم من الشرع ثابت ، فليس ببدعة ، ولذلك أردف اتباعهم بالنهي عن البدع بإطلاق ، ولو كان عملهم ذلك بدعة; لوقع في الحديث التدافع .

وبذلك يجاب عن مسألة قتل الجماعة بالواحد; لأنه منقول عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وهو أحد الخلفاء الراشدين .

( وتضمين الصناع ) ، وهو منقول عن الخلفاء الأربعة رضي الله عنهم .

وأما ما يروى عن عمر بن عبد العزيز ; فلم أره ثابتا من طريق صحيح ، وإن سلم; فراجع إما لأصل المصالح المرسلة إن لم نقل : إن أصله قصة البقرة وإن ثبت أن المصالح المرسلة مقول بها عند السلف مع أن القائلين بها يذمون البدع وأهلها ويتبرؤن منهم; دل على أن البدع [ ص: 241 ] مباينة لها ، وليست منها في شيء ، ولهذه المسألة باب تذكر فيه بعد إن شاء الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية