صفحة جزء
[ ص: 294 ] فصل

ومنها ضد هذا ، وهو ردهم للأحاديث التي جرت غير موافقة لأغراضهم ومذاهبهم ، ويدعون أنها مخالفة للمعقول ، وغير جارية على مقتضى الدليل ، فيجب ردها :

كالمنكرين لعذاب القبر ، والصراط ، والميزان ، ورؤية الله عز وجل في الآخرة ، وكذلك حديث الذباب وقتله ، وأن في أحد جناحيه داء وفي الآخر دواء ، وأنه يقدم الذي فيه الداء ، وحديث الذي أخذ أخاه بطنه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بسقيه العسل . . . . وما أشبه ذلك من الأحاديث الصحيحة المنقولة نقل العدول .

[ و ] ربما قدحوا في الرواة من الصحابة والتابعين رضي الله تعالى عنهم ومن اتفق الأئمة من المحدثين على عدالتهم وإمامتهم ؛ كل ذلك ليردوا به على من خالفهم في المذهب .

وربما ردوا فتاويهم وقبحوها في أسماع العامة ؛ لينفروا الأمة عن أتباع السنة وأهلها ؛ كما روي عن ( أبي ) بكر بن حمدان : قال : قال : " عمرو بن عبيد : لا يعفى عن اللص دون السلطان " .

قال : " فحدثته بحديث صفوان بن أمية عن النبي صلى الله عليه وسلم ، حيث قال : فهلا قبل أن تأتيني به ، قال : أتحلف بالله أن النبي صلى الله عليه وسلم قاله ؟ قلت : أفتحلف بالله أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقله ؟ فحدثت به ابن عون ـ قال ـ فلما عظمت الحلقة قال : يا أبا بكر حدث " .

[ ص: 295 ] وقد جعلوا القول بإثبات الصراط والميزان والحوض قولا بما لا يعقل .

وقد سئل بعضهم : هل يكفر من قال برؤية الباري في الآخرة ؟ فقال : " لا يكفر لأنه قال ما لا يعقل ، ومن قال ما لا يعقل ؛ فليس بكافر " ! .

وذهبت طائفة إلى نفي أخبار الآحاد جملة ، والاقتصار على ما استحسنته عقولهم في فهم القرآن ، حتى أباحوا الخمر بقوله : ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا الآية .

ففي هؤلاء وأمثالهم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا ألفين أحدكم متكئا على أريكته يأتيه الأمر من أمري مما أمرت به أو نهيت عنه ، فيقول : لا أدري ، ما وجدنا في كتاب الله اتبعناه ، وهذا وعيد شديد تضمنه النهي لاحق بمن ارتكب رد السنة .

ولما ردوها بتحكم العقول ؛ كان الكلام معهم راجعا إلى أصل التحسين والتقبيح ، وهو مذكور في الأصول ، وسيأتي له بيان إن شاء الله .

وقال عمر بن النضر : " سئل عمرو بن عبيد يوما عن شيء ـ وأنا عنده ـ فأجاب فيه ، فقلت له : ليس هكذا يقول أصحابنا ، قال : ومن أصحابك لا أبا لك ؟ قلت :أيوب ، ويونس ، وابن عون ، والتميمي ، قال : أولئك أنجاس أرجاس ، أموات غير أحياء " .

[ ص: 296 ] وقال ابن علية : حدثني اليسع ؛ قال : تكلم واصل ( يعني : ابن عطاء ) يوما ، قال : فقال عمرو بن عبيد : ألا تسمعون ؟ ما كلام الحسن وابن سيرين عندما تسمعون إلا خرقة حيضة ملقاة .

كان واصل بن عطاء أول من تكلم في الاعتزال ، فدخل معه في ذلك عمرو بن عبيد ، فأعجب به ، فزوجه أخته ، وقال ( لها ) : زوجتك برجل ما يصلح إلا أن يكون خليفة ، ثم تجاوزوا الحد حتى ردوا القرآن بالتلويح والتصريح لرأيهم السوء .

فحكى عمرو بن علي أنه سمع ممن يثق به : أنه قال : كنت عند عمرو بن عبيد ـ وهو جالس على دكان عثمان الطويل ـ فأتاه رجل ، فقال : يا أبا عثمان ! ما سمعت من الحسن يقول في قول الله عز وجل : قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم ؟ قال : تريد أن أخبرك برأي حسن . قال : لا أريد إلا ما سمعت من الحسن . قال : سمعت الحسن يقول : كتب الله على قوم القتل فلا يموتون إلا قتلا ، وكتب على قوم الهدم فلا يموتون إلا هدما ، وكتب على قوم الغرق فلا يموتون إلا غرقا ، وكتب على قوم الحريق فلا يموتون إلا حرقا ، فقال له عثمان الطويل : يا أبا عثمان ! ليس هذا قولنا ، قال عمرو : قد قلت أريد أن أخبرك برأي الحسن ، فأنا أكذب على الحسن .

وعن الأثرم عن أحمد بن حنبل ؛ قال : حدثنا معاذ ؛ قال : كنت عند عمرو بن عبيد ، فجاءه عثمان بن فلان ، فقال : يا أبا عثمان ! سمعت ـ والله ـ بالكفر . قال : ما هو ؟ لا تعجل بالكفر . قال : هاشم الأوقص ، زعم [ ص: 297 ] أن تبت يدا أبي لهب وقول الله عز وجل : ذرني ومن خلقت وحيدا ؛ لم يكن هذا في أم الكتاب ، والله تعالى يقول : حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ، فما الكفر إلا هذا ؟ فسكت ساعة ، ثم تكلم فقال : والله لو كان الأمر كما تقول ؛ ما كان على أبي لهب من لوم ، ولا كان على الوحيد من لوم . قال عثمان ـ في مجلسه ـ : هذا والله الدين ، قال معاذ : ثم قال في آخره : فذكرته لوكيع ، فقال : يستتاب قائلها فإن تاب ، وإلا ضربت عنقه .

ومثل هذا محكي ، لكن ( عن ) بعض المرموقين من أئمة الحديث .

فروي عن علي ابن المديني ، عن المؤمل ، عن الحسن بن وهب الجمحي ؛ قال : " الذي كان بيني وبين فلان خاص ، فانطلق بأهله إلى بئر ميمون ، فأرسل إلي : أن ائتني ، فأتيته عشية ، فبت عنده " ، قال : فهو في فسطاط وأنا في فسطاط آخر ، فجعلت أسمع صوته الليل كله كأنه دوي النحل ، قال : " فلما أصبحنا ؛ جاء بغدائه ، فتغدينا " ، قال : " ثم ذكر ما بيني وبينه من الإخاء والحق " . قال : فقال لي : أدعوك إلى رأي الحسن . قال : وفتح لي شيئا من القدر . قال : فقمت من عنده فما كلمته بكلمة حتى لقي الله . قال : " فأنا يوما خارج من الطريق في الطواف وهو داخل ، أو أنا داخل وهو خارج ، فأخذ بيدي ، فقال : يا أبا عمر ! حتى متى ؟ حتى [ ص: 298 ] متى ؟ قال : " فلم أكلمه " ، فقال : " ما لي ؟ أرأيت لو أن رجلا قال : " إن تبت يدا أبي لهب " ليست من القرآن ؛ ما كنت تقول له ؟ " ، قال : " فنزعت يدي من يده " .

قال علي : " قال مؤمل : فحدثت به سفيان بن عيينة ، فقال لي : ما كنت أرى أنه بلغ هذا كله " .

قال علي : " وسمعته أنا وأحمد بن .

قال : حدثت أنا سفيان بن عيينة عن معلى الطحان ببعض حديثه ، فقال : ما أحوج صاحب هذا الرأي إلى أن يقتل ! .

فانظروا إلى تجاسرهم على كتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ! كل ذلك ترجيح لمذاهبهم على محض الحق ، وأقربهم إلى هيبة الشريعة من يتطلب بها المخرج ، فيتأول لها الواضحات ، ويتبع المتشابهات ، وسيأتي ، والجميع داخلون تحت ذمها .

وربما احتج طائفة من نابتة المبتدعة على رد الأحاديث بأنها إنما تفيد الظن ، وقد ذم الظن في القرآن ؛ كقوله تعالى : إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ، وقال : إن يتبعون إلا الظن وإن الظن لا يغني من الحق شيئا ، . . . . . وما جاء في معناه ، حتى أحلوا أشياء مما حرمها الله [ ص: 299 ] تعالى على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، وليس تحريمها في القرآن نصا ، وإنما قصدوا من ذلك أن يثبت لهم من أنظار عقولهم ما استحسنوا .

والظن المراد في الآية وفي الحديث أيضا غير ما زعموا ، وقد وجدنا له محالا ثلاثة :

أحدها : الظن في أصول الدين ؛ فإنه لا يغني عند العلماء ؛ لاحتماله النقيض عند الظان ؛ بخلاف الظن في الفروع ؛ فإنه معمول به عند أهل الشريعة ؛ للدليل الدال على عمله ، فكان الظن مذموما إلا ما تعلق بالفروع منه ، وهذا صحيح ذكره العلماء في هذا الموضع .

والثاني : أن الظن هنا هو ترجيح أحد النقيضين على الآخر من غير دليل مرجح ، ولا شك أنه مذموم هنا ؛ لأنه من التحكم ، ولذلك أتبع في الآية بهوى النفس في قوله : إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس فكأنهم مالوا إلى أمر بمجرد الغرض والهوى ، لا باتباع الهدى المنبه عليه بقوله : ولقد جاءهم من ربهم الهدى ، ولذلك أثبت ذمه ؛ بخلاف الظن الذي أثاره دليل ، فإنه غير مذموم في الجملة ؛ لأنه خارج عن اتباع الهوى ، ولذلك أثبت وعمل بمقتضاه حيث يليق العمل بمثله ؛ كالفروع .

والثالث : أن الظن على ضربين :

ظن يستند إلى أصل قطعي ، وهذه هي الظنون المعمول بها في الشريعة أينما وقعت ؛ لأنها استندت إلى أصل معلوم ، فهي من قبيل المعلوم جنسه .

[ ص: 300 ] وظن لا يستند إلى قطعي ، بل إما مستند إلى غير شيء أصلا ، وهو مذموم ـ كما تقدم ـ ، وإما مستند إلى ظن مثله ، فلذلك الظن إن استند أيضا إلى قطعي ؛ فكالأول ، أو إلى ظني ، رجعنا إليه ، فلا بد أن يستند إلى قطعي ، وهو محمود ، أو إلى غير شيء ، وهو مذموم .

فعلى كل تقدير ؛ كل خبر واحد صح سنده ، فلا بد من استناده إلى أصل في الشريعة قطعي ، فيجب قبوله ، ومن هنا قبلناه مطلقا ، كما أن ظنون الكفار غير مستندة إلى شيء ، فلا بد من ردها وعدم اعتبارها ، وهذا الجواب الأخير مستمد من أصل وقع بسطه في كتاب الموافقات والحمد لله .

ولقد بالغ بعض الضالين في رد الأحاديث ، ورد قول من اعتمد على ما فيها ، حتى عدوا القول به مخالفا للعقل ، والقائل به معدودا في المجانين .

فحكى أبو بكر بن العربي عن بعض من لقي بالمشرق من المنكرين للرؤية : أنه قيل له : هل يكفر من يقول بإثبات رؤية الباري أم لا ؟ فقال : " لا ! لأنه قال بما لا يعقل ، ومن قال بما لا يعقل ؛ لا يكفر " !

قال ابن العربي : " فهذه منزلتنا عندهم ، فليعتبر الموفق بما يؤدي إليه اتباع الهوى ، أعاذنا الله من ذلك بفضله " .

وزل بعض المرموقين في زماننا في هذه المسألة ، فزعم أن خبر الواحد كله زعم ، وهو ما حكي في الأثر : بئس مطية الرجل زعموا ، [ ص: 301 ] والأثر الآخر : إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث ، وهذه من كلام هذا المتأخر وهلة ، عفا الله عنه .

التالي السابق


الخدمات العلمية