صفحة جزء
فصل

وعند ذلك نقول :

من اتباع المتشابهات الأخذ بالمطلقات قبل النظر في مقيداتها أو في العمومات من غير تأمل ؛ هل لها مخصصات أم لا ؟ وكذلك العكس ؛ بأن يكون النص مقيدا فيطلق ، أو خاصا فيعم بالرأي من غير دليل سواه :

فإن هذا المسلك رمي في عماية ، واتباع للهوى في الدليل ، وذلك أن المطلق المنصوص على تقييده مشتبه إذا لم يقيد ، فإذا قيد ؛ صار واضحا ، كما أن إطلاق المقيد رأي في ذلك المقيد معارض للنص من غير دليل .

[ ص: 313 ] فمثال الأول : أن الشريعة قد ورد طلبها على المكلفين على الإطلاق والعموم ، ولا يرفعها عذر إلا العذر الرافع للخطاب رأسا ، وهو زوال العقل ، فلو بلغ المكلف في مراتب الفضائل الدينية إلى أي رتبة بلغ ؛ بقي التكليف عليه كذلك إلى الموت .

ولا رتبة لأحد يبلغها في الدين كرتبة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم رتبة أصحابه البررة ، ولم يسقط عنهم من التكليف مثقال ذرة ؛ إلا ما كان من تكليف ما لا يطاق بالنسبة إلى الآحاد ؛ كالزمن ؛ لا يطالب بالجهاد ، والمقعد ؛ لا يطالب بالصلاة بالقيام ، والحائض ؛ لا تطالب بالصلاة المخاطب بها في حال حيضها . . . . ولا ما أشبه ذلك .

فمن رأى أن التكليف قد يرفعه البلوغ إلى مرتبة ما من مراتب الدين ـ كما يقوله أهل الإباحة ـ ؛ كان قوله بدعة مخرجة عن الدين .

ومنه دعاوى أهل البدع على الأحاديث الصحيحة ؛ مناقضتها للقرآن ، أو مناقضة بعضها بعضا ، وفساد معانيها ، أو مخالفتها للعقول ؛ كما حكموا بذلك في قوله صلى الله عليه وسلم للمتحاكمين إليه : والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله : مئة الشاة والخادم رد عليك ، وعلى ابنك جلد مئة وتغريب عام ، وعلى امرأة هذه الرجم ، واغد يا أنيس على امرأة هذا ، فإن اعترفت ؛ فارجمها ، فغدا عليها ، فاعترفت ، فرجمها .

قالوا : هذا مخالف لكتاب الله ؛ لأنه قضى بالرجم والتغريب ، وليس للرجم ولا للتغريب في كتاب الله ذكر ، فإن كان الحديث باطلا ؛ فهو ما [ ص: 314 ] أردنا ، وإن كان حقا ؛ فقد ناقض كتاب الله بزيادة الرجم والتغريب .

فهذا اتباع للمتشابه ، لأن الكتاب في كلام العرب وفي الشرع على وجوه ؛ منها : الحكم والفرض ؛ كقوله تعالى : كتاب الله عليكم ، وقال تعالى : كتب عليكم الصيام ، وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال ، فكان المعنى : لأقضين بينكما بكتاب الله ، أي بحكم الله الذي شرع لنا ، كما أن الكتاب يطلق على القرآن ، فتخصيصهم الكتاب بأحد المحامل من غير دليل اتباع لما تشابه من الأدلة .

وفي الحديث : مثل أمتي كمطر ؛ لا يدرى أوله خير أم آخره ؟ ؛ قالوا : فهذا يقتضي أنه لم يثبت لأول هذه الأمة فضل على الخصوص دون آخرها ولا العكس .

ثم نقل : أن الإسلام بدأ غريبا ، وسيعود غريبا كما بدأ فطوبى للغرباء ، فهذا يقتضي تفضيل الأولين والآخرين على الوسط .

ثم نقل : خير القرون قرني ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، فاقتضى أن الأولين أفضل على الإطلاق .

[ ص: 315 ] قالوا : فهذا تناقض !

وكذبوا ؛ ليس ثم تناقض ولا اختلاف ، وذلك أن التعارض إذا ظهر لبادي الرأي في المقولات الشرعية : فإما أن لا يمكن الجمع بينهما أصلا ، وإما أن يمكن :

فإن لم يمكن ؛ فهذا الفرض بين قطعي وظني ، أو بين ظنيين ، فأما بين قطعيين ؛ فلا يقع في الشريعة ، ولا يمكن وقوعه ؛ لأن تعارض القطعيين محال .

فإن وقع بين قطعي وظني ؛ بطل الظني .

وإن وقع بين ظنيين ؛ فهاهنا للعلماء فيه الترجيح ، والعمل بالأرجح متعين .

، وإن أمكن الجمع ؛ فقد اتفق النظار على إعمال وجه الجمع ، وإن كان وجها ضعيفا ، فإن الجمع أولى عندهم ، وإعمال الأدلة أولى من إهمال بعضها .

فهؤلاء المبتدعة لم يرفعوا بهذا الأصل رأسا ؛ إما جهلا به ، أو عنادا .

فإذا ثبت هذا ؛ فقوله : خير القرون قرني ، هو الأصل في الباب ، فلا يبلغ أحدنا ( مبلغ ) الصحابة رضي الله عنهم . وما سواه يحتمل التأويل على حال أو زمان أو في بعض الوجوه .

وأما قوله : فطوبى للغرباء ؛ لا نص فيه على التفضيل المشار إليه ، بل هو دليل على جزاء حسن ، ويبقى النظر في كونهم مثل جزاء الصحابة أو دونه أو فوقه محتمل ، فليس في الحديث عليه دليل ، فلا بد من حمله الأصل ولا إشكال .

[ ص: 316 ] ومن ذلك قولهم بالتناقض في قوله صلى الله عليه وسلم : لا تفضلوني على يونس بن متى " ، و " لا تخيروا بين الأنبياء وبيني ، وقوله : أنا سيد ولد آدم ولا فخر ، ووجه الجمع بينهما ظاهر .

ومنه أنهم قالوا في قوله صلى الله عليه وسلم : إذا استيقظ أحدكم من نومه ؛ فلا يغمس يده في الإناء حتى يغسلها ثلاثا ؛ فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده : إن هذا الحديث يفسد آخره أوله ؛ فإن أوله صحيح لولا [ ص: 317 ] قوله : فإن أحدكم لا يدري كذا . . . . " ، فما منا أحد إلا درى أين باتت يده ، وأشد الأمور أن يكون مس بها فرجه ، ولو أن رجلا فعل ذلك في اليقظة ؛ لما طلب بغسل يده ، فكيف يطلب بالغسل ولا يدري هل مس فرجه أم لا ؟ !

وهذا الاعتراض من النمط ( الذي ) قبله ، إذ النائم قد يمس فرجه فيصيبه شيء من نجاسة في المحل لعدم استنجاء تقدم النوم ، أو يكون استجمر فوق موضع الاستجمار ، وهو لو كان يقظان فمس لعلم بالنجاسة إذا علقت بيده ، فيغسلها في الإناء ؛ لئلا يفسد الماء ، وإذا أمكن هذا ؛ لم يتوجه الاعتراض .

فجميع ما ذكر في هذا الفصل راجع إلى إسقاط الأحاديث بالرأي المذموم الذي تقدم الاستشهاد عليه أنه من البدع المحدثات .

التالي السابق


الخدمات العلمية