صفحة جزء
فصل

ومنها : تحريف الأدلة عن مواضعها :

بأن يرد الدليل على مناط ، فيصرف عن ذلك المناط إلى أمر آخر ؛ موهما أن المناطين واحد ، وهو من خفيات تحريف الكلم عن مواضعه والعياذ بالله .

ويغلب على الظن أن من أقر بالإسلام ، و [ بأنه ] يذم تحريف الكلم عن مواضعه ؛ لا يلجأ إليه صراحا ؛ إلا مع اشتباه يعرض له ، أو جهل يصده عن الحق ، مع هوى يعميه عن أخذ الدليل مأخذه ، فيكون بذلك السبب مبتدعا .

[ ص: 318 ] وبيان ذلك أن الدليل الشرعي إذا اقتضى أمرا في الجملة مما يتعلق بالعبادات مثلا ، فأتى به المكلف في الجملة أيضا ، كذكر الله والدعاء والنوافل المستحبات وما أشبهها مما يعلم من الشارع فيها التوسعة ؛ كان الدليل عاضدا لعلمه من جهتين : من جهة معناه ، ومن جهة عمل السلف الصالح به .

فإن أتى المكلف في ذلك الأمر بكيفية مخصوصة ، أو زمان مخصوص أو مكان مخصوص أو مقارنا لعبادة مخصوصة ، والتزم ذلك بحيث صار متخيلا أن الكيفية ، أو الزمان أو المكان مقصود شرعا من غير أن يدل الدليل عليه ؛ كان الدليل بمعزل عن ذلك المعنى المستدل عليه .

فإذا ندب الشرع مثلا إلى ذكر الله ، فالتزم قوم الاجتماع عليه على لسان واحد وبصوت ، أو في وقت معلوم مخصوص عن سائر الأوقات ؛ لم يكن في ندب الشرع ما يدل على هذا التخصيص الملتزم ، بل فيه ما يدل على خلافه ؛ لأن التزام الأمور غير اللازمة شرعا شأنها أن تفهم التشريع ، وخصوصا مع من يقتدى به في مجامع الناس كالمساجد ؛ فإنها إذا ظهرت هذا الإظهار ووضعت في المساجد كسائر الشعائر التي وضعها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المساجد وما أشبهها كالأذان وصلاة العيدين والاستسقاء والكسوف ـ ؛ فهم منها بلا شك أنها سنن ، إذا لم تفهم منها الفرضية ، فأحرى أن لا يتناولها الدليل المستدل به ، فصارت من هذه الجهة بدعا محدثة بذلك .

( و ) على ذلك ترك التزام السلف لتلك الأشياء أو عدم العمل بها ، وهم كانوا أحق بها وأهلها لو كانت مشروعة على مقتضى [ ص: 319 ] القواعد ؛ لأن الذكر قد ندب إليه الشرع ندبا في مواضع كثيرة ، حتى إنه لم يطلب في تكثير عبادة من العبادات ما طلب من التكثير من الذكر ؛ كقوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا الآية ، وقوله : وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون ؛ بخلاف سائر العبادات .

ومثل هذا الدعاء ؛ فإنه ذكر الله ، ومع ذلك ؛ فلم يلتزموا فيه كيفيات ، ولا قيدوه بأوقات مخصوصة ـ بحيث تشعر باختصاص التعبد بتلك الأوقات ، إلا ما عينه الدليل ؛ كالغداة والعشي . ولا أظهروا منه إلا ما نص الشارع على إظهاره ؛ كالذكر في العيدين وشبهه ، وما سوى ذلك ؛ فكانوا مثابرين على إخفائه وسره ، ولذلك قال لهم [ النبي صلى الله عليه وسلم ] حين رفعوا أصواتهم : أربعوا على أنفسكم ؛ إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، وأشباهه ، ولم يظهروه في الجماعات .

فكل من خالف هذا الأصل ؛ فقد خالف إطلاق الدليل أولا ؛ لأنه قيد فيه بالرأي ، وخالف من كان أعرف منه بالشريعة ـ وهم السلف الصالح رضي الله عنهم ـ ، بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يترك العمل وهو يحب أن يعمل به خوفا أن يعمل به الناس فيفرض عليهم .

[ ص: 320 ] وفي فصل من الموافقات جملة من هذا ، وهو مزلة قدم ، فقد يتوهم أن إطلاق اللفظ يشعر بجواز كل ما يمكن في مدلوله وقوعا ، وليس كذلك ؛ خصوصا في العبادات ؛ فإنها محمولة على التعبد على حسب ما تلقى النبي صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح ؛ كالصلوات حين وضعت بعيدة عن مدارك العقول في أركانها وترتيبها وأزمانها وكيفياتها ومقاديرها ، وسائر ما كان مثلها ـ حسبما يذكر في باب المصالح المرسلة من هذا الكتاب إن شاء الله ـ ، فلا يدخل العبادات الرأي والاستحسان هكذا مطلقا ؛ لأنه كالمنافي لوضعها ، ولأن العقول لا تدرك معانيها على التفصيل .

وكذلك حافظ العلماء على ترك إجراء القياس فيها ؛ كمالك بن أنس رضي الله عنه ؛ فإنه حافظ على طرح الرأي جدا ، ولم يعمل فيها من أنواع القياس إلا قياس نفي الفارق ، حيث اضطر إليه ، وكذلك غيره من العلماء ـ وإن تفاوتوا ـ فهم محافظون جميعا في العبادات على الاتباع لنصوصها ومنقولاتها ؛ بخلاف غيرها ، فبحسبها لا مطلقا ؛ فإن الإنسان قد أمر بذلك في الجملة ـ مثلا ـ .

فالمخصص كالمخالف لمفهوم التوسعة ، وإن لم يفهم من ذلك توسعه ؛ فلا بد من الرجوع إلى أصل الوقف من المنقول ؛ لأنا إن خرجنا عنه ؛ شككنا في كون العبادة على ذلك الوجه مشروعة ؛ أو قطعنا بأنها ليست بمشروعة ، على الطريقتين المنبه عليهما في كتاب الموافقات ، فيتعين الرجوع إلى المنقول وقوفا من غير زيادة ولا نقصان .

[ ص: 321 ] ثم إذا فهمنا التوسعة ؛ فلا بد من اعتبار أمر آخر ، وهو أن يكون العمل بحيث لا يوهم التخصيص زمانا دون غيره ، أو مكانا دون غيره ، أو كيفية دون غيرها ، أو يوهم انتقال الحكم من الاستحباب ـ مثلا ـ إلى السنة أو الفرض ؛ لأنه قد يكون الدوام عليه على كيفية ما ـ في مجامع الناس أو مساجد الجماعات أو نحو ذلك ـ موهما لكونه سنة أو فرضا . . . . بل هو كذلك .

ألا ترى أن كل ما أظهره رسول الله صلى الله عليه وسلم وواظب عليه جماعة ؛ إذا لم يكن فرضا ؛ فهو سنة عند العلماء ؛ كصلاة العيدين والاستسقاء والكسوف ونحو ذلك ؟ بخلاف قيام الليل وسائر النوافل ؛ فإنها مستحبات ، وندب صلى الله عليه وسلم إلى إخفائها ، وإنما يضر إذا كانت تشاع ويعلن بها .

ومن أمثلة هذا الأصل التزام الدعاء بعد الصلوات بالهيئة الاجتماعية معلنا بها في الجماعات ، وسيأتي بسط ذلك في بابه إن شاء الله تعالى .

التالي السابق


الخدمات العلمية