صفحة جزء
ثم نقول بعد هذا :

إن الحقيقية لما كانت أكثر وأعم وأشهر في الناس ذكرا ، وافترقت الفرق ، وكان الناس شيعا ، وجرى من أمثلتها ما فيه الكفاية ، وهي أسبق في فهم العلماء ؛ تركنا الكلام فيما يتعلق بها من الأحكام .

ومع ذلك ؛ فقلما تختص بحكم دون الإضافية ، بل هما معا يشتركان في أكثر الأحكام التي هي مقصود هذا الكتاب أن تشرح فيه ؛ بخلاف الإضافية ، فإن لها أحكاما خاصة وشرحا خاصا ـ وهو المقصود في هذا الباب ؛ إلا أن الإضافية أولا على ضربين :

أحدهما : يقرب من الحقيقية ، حتى تكاد البدعة تعد حقيقية .

والآخر : يبعد منها حتى ( يكاد ) يعد سنة محضة .

ولما انقسمت هذا الانقسام ؛ صار من الأكيد على كل قسم [ ص: 369 ] على حدته ، فلنعقد في كل واحد منهما فصولا بحسب ما يقتضيه ، وبالله التوفيق .

فصل

قال الله سبحانه في شأن عيسى عليه السلام ومن اتبعه : وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون .

فخرج عبد بن حميد وإسماعيل بن إسحاق القاضي وغيرهما عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه ؛ قال :

قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " هل تدري أي الناس أعلم ؟ " .

قلت : الله ورسوله أعلم .

قال : " أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس ، وإن كان مقصرا في العمل ، وإن كان يزحف على أليتيه واختلف من كان قبلنا على اثنتين وسبعين فرقة ، نجا منها ثلاث ، وهلك سائرها : فرقة آزت الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى ابن مريم حتى قتلوا ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بمؤازاة الملوك ، فأقاموا على دين الله بين ظهراني قومهم ، فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم ، فأخذتهم الملوك ، فقتلتهم وقطعتهم بالمناشير ، وفرقة لم تكن لهم طاقة بمؤازاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهراني قومهم فيدعوهم إلى دين الله [ ص: 370 ] ودين عيسى ابن مريم ، فساحوا في الجبال ، وترهبوا فيها ، هم الذين قال الله عز وجل ( فيهم ) : ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون .

فالمؤمنون الذين آمنوا بي وصدقوا بي والفاسقون الذين كذبوا وحجدوا
.

وهذا الحديث من أحاديث الكوفيين .

والرهبانية فيه بمعنى اعتزال الخلق في السياحة ، واطراح الدنيا ولذاتها من النساء وغير ذلك ، ومنه لزوم الصوامع والديارات ـ على ما كان عليه النصارى قبل الإسلام ـ مع التزام العبادة ، وعلى هذا التفسير جماعة من المفسرين .

ويحتمل أن يكون الاستثناء في قوله ( تعالى ) : إلا ابتغاء رضوان الله ، متصلا ومنفصلا :

فإذا بنينا على الاتصال ، فكأنه يقول : ما كتبناها عليهم إلا على هذا الوجه الذي هو العمل بها ابتغاء رضوان الله ، فالمعنى أنها مما كتبت عليهم ـ أي : مما شرعت لهم ـ لكن بشرط قصد الرضوان .

فما رعوها حق رعايتها ؛ يريد أنهم تركوا رعايتها حين لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو قول طائفة من المفسرين ؛ لأن قصد الرضوان إذا كان [ ص: 371 ] شرطا في العمل بما شرع لهم ؛ فمن حقهم أن يتبعوا ذلك القصد ، فإلى أين سار بهم ؛ ساروا ، وإنما شرع لهم على شرط أنه إذا نسخ بغيره ؛ رجعوا إلى ما أحكم وتركوا ما نسخ ، وهو معنى ابتغاء الرضوان على الحقيقة ، فإذا لم يفعلوا وأصروا على الأول ؛ كان ذلك اتباعا للهوى ، لا اتباعا للمشروع ، واتباع المشروع هو الذي يحصل له الرضوان ، وقصد الرضوان بذلك .

قال تعالى : فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم وكثير منهم فاسقون ، فالذين آمنوا هم الذين اتبعوا الرهبانية ابتغاء رضوان الله ، والفاسقون هم الخارجون عن الدخول فيها بشرطها ، إذ لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم .

إلا أن هذا التقرير يقتضي أن المشروع لهم يسمى ابتداعا ، وهو خلاف ما دل عليه حد البدعة .

والجواب : أنه يسمى بدعة من حيث أخلوا بشرط المشروع ، إذ شرط عليهم فلم يقوموا به ، وإذا كانت العبادة مشروطة بشرط ، فيعمل بها دون شرطها ؛ لم تكن عبادة على وجهها ، وصارت بدعة ؛ كالمخل قصدا بشرط من شروط الصلاة ؛ مثل استقبال القبلة أو الطهارة أو غيرها ، فحيث عرف بذلك وعلمه ؛ فلم يلتزمه ، ودأب على الصلاة دون شرطها ؛ فذلك العمل من قبيل البدع ، فيكون ترهب النصارى صحيحا قبل بعث محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما بعث ؛ وجب الرجوع عن ذلك كله إلى ملته ، فالبقاء عليه مع نسخه بقاء على ما هو باطل بالشرع ، وهو عين البدعة .

[ ص: 372 ] وإذا بنينا على أن الاستثناء منقطع وهو قول فريق من المفسرين ؛ فالمعنى : ما كتبناها عليهم أصلا ، ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله ، فلم يعملوا بها بشرطها ، وهو الإيمان برسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ بعث إلى الناس كافة .

وإنما سميت بدعة على هذا الوجه لأمرين :

أحدهما : يرجع إلى أنها بدعة حقيقية ـ كما تقدم ـ لأنها داخلة تحت حد البدعة .

والثاني : يرجع إلى أنها بدعة إضافية ؛ لأن ظاهر القرآن دل على أنها لم تكن مذمومة في حقهم بإطلاق ، بل لأنهم أخلوا بشرطها ، فمن لم يخل منهم بشرطها ، وعمل بها قبل بعث النبي صلى الله عليه وسلم ، حصل له فيها أجر ؛ حسبما دل عليه قوله : فآتينا الذين آمنوا منهم أجرهم ؛ أي : أن من عمل بها في وقتها ثم آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم بعد بعثه ؛ وفيناه أجره .

وإنما قلنا : إنها في هذا الوجه إضافية ؛ لأنها لو كانت حقيقية ؛ لخالفوا بها شرعهم الذي كانوا عليه ؛ لأن هذا حقيقة البدعة ، فلم يكن لهم بها أجر ، بل كانوا يستحقون العقاب ؛ لمخالفتهم لأوامر الله ونواهيه ، فدل على أنهم فعلوا ما كان جائزا لهم فعله ، فلا تكون بدعتهم حقيقية ، لكنه ينظر على أي معنى أطلق عليها لفظ البدعة ، وسيأتي بعد بحول الله .

وعلى كل تقدير ؛ فهذا القول لا يتعلق بهذه الأمة منه حكم ؛ لأنه [ ص: 373 ] نسخ في شريعتنا ، فلا رهبانية في الإسلام ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : من رغب عن سنتي فليس مني .

على أن ابن العربي نقل في الآية أربعة أقوال :

الأول : ما تقدم .

والثاني : أن الرهبانية رفض النساء ، وهو المنسوخ في شرعنا .

والثالث : أنها اتخاذ الصوامع للعزلة .

والرابع : السياحة .

قال : " وهو مندوب إليه في ديننا عند فساد الزمان " .

وظاهره يقتضي أنها بدعة ؛ لأن الذين ترهبوا قبل الإسلام إنما فعلوا ذلك فرارا منهم بدينهم ، وسميت بدعة ، والندب إليها يقتضي أن لا ابتداع فيها ، فكيف يجتمعان ؟ !

ولكن للمسألة فقه يذكر بحول الله .

وقيل : إن معنى قوله تعالى : ورهبانية ابتدعوها ؛ أنهم تركوا الحق ، وأكلوا لحوم الخنازير ، وشربوا الخمر ، ولم يغتسلوا من جنابة ، وتركوا الختان ، فما رعوها ؛ يعني : الطاعة والملة حق رعايتها ، فالهاء راجعة إلى غير مذكور ، وهو الملة المفهوم معناها من قوله : وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة ؛ لأنه يفهم منه أن ثم ملة [ ص: 374 ] متبعة ، كما دل قوله : إذ عرض عليه بالعشي على الشمس حتى عاد عليها الضمير في قوله : توارت بالحجاب ، وكان المعنى على هذا القول : ما كتبناها عليهم على هذا الوجه الذي فعلوه ، وإنما أمرناهم بالحق ، فالبدعة فيه إذا حقيقية لا إضافية .

وعلى كل تقدير ؛ فهذا الوجه هو الذي قال به أكثر العلماء ، فلا نظر فيه بالنسبة إلى هذه الأمة .

وخرج سعيد بن منصور وإسماعيل القاضي عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه أنه قال : " أحدثتم قيام شهر رمضان ولم يكتب عليكم ، إنما كتب عليكم الصيام ، فدوموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه ؛ فإن أناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله ، فلم يرعوها حق رعايتها ، فعاتبهم الله بتركها ، فقال : ورهبانية ابتدعوها ، الآية .

وفي رواية : " فإن ناسا من بني إسرائيل ابتدعوا بدعة ابتغاء رضوان الله ، فلم يرعوها حق رعايتها ، فعاتبهم الله بتركها ، فتلا هذه الآية : ورهبانية ابتدعوها ، إلى آخر الآية .

وهذا القول يقرب من قول بعض المفسرين في قوله : فما رعوها حق رعايتها ؛ يريد أنهم قصروا فيها ولم يدوموا عليها .

قال بعض نقلة التفسير : " وفي هذا التأويل لزوم الإتمام لكل من بدأ بتطوع ونفل ، وأن يرعوه حق رعيه .

[ ص: 375 ] قال ابن العربي : " وقد زاغ عن منهج الصواب من يظن أنها رهبانية كتبت عليهم بعد أن التزموها " .

قال : وليس يخرج هذا عن مضمون الكلام ، ولا يعطيه أسلوبه ولا معناه ، ولا يكتب على أحد شيء إلا بشرع أو نذر . قال : وليس في هذا اختلاف بين أهل الملل ، والله أعلم .

وهذا القول محتاج إلى النظر والتأمل إذا بنينا العمل على وفقه ، إذ أكثر العلماء على القول الأول ؛ فإن هذه الملة لا بدعة فيها ، ولا تحتمل القول بجواز الابتداع بحال ؛ للقطع بالدليل أن كل بدعة ضلالة ـ حسبما تقدم ـ ، فالأصل أن يتبع الدليل ، ولا عمل على خلافه .

ومع ذلك ؛ فلا نخلي ـ بحول الله ـ قول أبي أمامة رضي الله عنه من نظر صحيح على وفق الدليل الشرعي ، وإن كان فيه بعد بالنسبة إلى ظاهر الأمر ، وذلك أنه عد عمل عمر رضي الله عنه في جمع الناس في المسجد على قارئ واحد في رمضان بدعة لقوله حين دخل المسجد وهم يصلون : " نعمت البدعة هذه ، والتي ينامون عنها أفضل " .

وقد مر أنه إنما سماها باعتبار ما ، وأن قيام الإمام بالناس في المسجد في رمضان سنة عمل بها صاحب السنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإنما تركها خوفا من الافتراض ، فلما انقضى زمن الوحي ؛ زالت العلة فعاد العمل بها إلى نصابه ؛ إلا أن ذلك لم يتأت لأبي بكر رضي الله عنه زمان خلافته ؛ لمعارضة ما هو أولى بالنظر فيه ، وكذلك صدر خلافة عمر رضي الله عنه ، حتى تأتى النظر ، فوقع منه ، لكنه صار في ظاهر الأمر كأنه أمر لم [ ص: 376 ] يجر به عمل من تقدمه دائما ، فسماه بذلك الاسم ، لا أنه أمر على خلاف ما ثبت من السنة .

فكأن أبا أمامة اعتبر فيه نظر ذلك العمل به ، فسماه إحداثا ؛ موافقة لتسمية عمر رضي الله عنه ، ثم أمر بالمداومة عليه بناء على ما فهم من هذه الآية من أن ترك الرعاية هو ترك دوامهم على التزام عمل ليس بمكتوب بل هو مندوب ، فلم يوفوا بمقتضى ما التزموه ؛ لأن الأخذ في التطوعات غير اللازمة ، ولا السنن الراتبة يقع على وجهين :

أحدهما : أن تؤخذ على أصلها فيما استطاع الإنسان ، فتارة ينشط لها وتارة لا ينشط ، أو يمكنه تارة بحسب العادة ولا يمكنه أخرى لمزاحمة أشغال ونحوها . . . . وما أشبه ذلك ؛ كالرجل يكون له اليوم ما يتصدق به فيتصدق ، ولا يكون له ذلك غدا ، أو يكون له إلا أنه لا ينشط للعطاء ، أو يرى إمساكه أصلح في عادته الجارية له ، أو غير ذلك من الأمور الطارئة للإنسان .

فهذا الوجه لا حرج على أحد ترك التطوعات كلها ، ولا لوم عليه ، إذ لو كان ثم لوم أو عتب ؛ لم يكن تطوعا ، وهو خلاف الفرض .

والثاني : أن تأخذ مأخذ الملتزمات ؛ كالرجل يتخذ لنفسه وظيفة راتبة من عمل صالح في وقت من الأوقات ، كالتزام قيام حظ من الليل مثلا ، وصيام يوم بعينه لفضل ثبت فيه على الخصوص ؛ كعاشوراء وعرفة ، أو يتخذ وظيفة من ذكر الله بالغداة والعشي . . . . وما أشبه ذلك .

فهذا الوجه أخذت فيه التطوعات مأخذ الواجبات من وجه ؛ أنه لما [ ص: 377 ] نوى الدؤب عليها في الاستطاعة ؛ أشبهت الواجبات والسنن الراتبة ؛ كما أنه لو كان ذلك الإيجاب غير لازم بالشرع ؛ لم يصر واجبا ؛ إذ تركه أصلا لا حرج فيه في الجملة ؛ أعني : ترك الالتزام ، ونظيره عندنا النوافل الراتبة بعد الصلوات ؛ فإنها مستحبة في الأصل ، ومن حيث صارت رواتب ؛ أشبهت السنن والواجبات .

وهذا المعنى هو المفهوم من قوله صلى الله عليه وسلم في الركعتين بعد العصر حين صلاهما فسئل عنهما فقال : يا ابنة أبي أمية ! سألت عن الركعتين بعد العصر ؟ أتى ناس من عبد القيس بالإسلام من قومهم ، فشغلوني عن الركعتين اللتين بعد الظهر ، فهما هاتان ؛ لأنه سئل عن صلاته لهما بعد ما نهى عنهما ، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يصليهما بعد الظهر كالنوافل الراتبة ، فإما فاتتاه ؛ صلاهما بعد وقتهما كالقضاء لهما حسبما يقضي الواجب .

فصار حينئذ لهذا النوع حالة من التطوع بين حالتين ؛ إلا أنه راجع إلى خيرة المكلف بحسب ما فهمنا من الشرع .

وإذا كان كذلك ؛ فقد فهمنا من مقصود الشرع أيضا الأخذ بالرفق والتيسير ، وأن لا يلزم المكلف ما لعله يعجز عنه ، أو يحرج بالتزامه ، فإن الالتزام ؛ إن لم يبلغ مبلغ القدر الذي يكره ابتداء ؛ فهو يقرب من العهد الذي يجعله الإنسان بينه وبين ربه ، ( والوفاء بالعهد مطلوب في الجملة ، فصار الإخلال به مكروها ) .

[ ص: 378 ] والدليل على صحة الأخذ بالرفق ، وأنه الأولى والأحرى ـ وإن كان الدوام على العمل أيضا مطلوبا عتيدا ـ في الكتاب والسنة : واعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم ، على قول طائفة من المفسرين : أن الكثير من الأمر واقع في التكاليف الإسلامية ، ومعنى لعنتم لحرجتم ، ولدخلت عليكم المشقة ، ودين الله لا حرج فيه ، ولكن الله حبب إليكم الإيمان ؛ بالتسهيل والتيسير ، وزينه في قلوبكم الآية .

وإنما بعث النبي صلى الله عليه وسلم بالحنيفية السمحة ، ووضع الإصر والأغلال التي كانت على غيرهم .

وقال الله تعالى في صفة نبيه عليه السلام : عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم .

وقال تعالى : يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر .

وقال : يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا .

وسمى الله تعالى الأخذ بالتشديد على النفس اعتداء ، فقال تعالى : ياأيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا .

ومن الأحاديث كثير .

؛ كمسألة الوصال ، ففي الحديث عن عائشة [ ص: 379 ] رضي الله عنها أنها قالت : نهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم ، قالوا : إنك تواصل ، قال : " إني لست كهيئتكم ، إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني .

وعن
أنس ؛ رضي الله عنه قال : واصل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر شهر رمضان ، فواصل ناس من المسلمين ، فبلغه ذلك ، فقال : " لو مد لنا شهر لواصلنا وصالا حتى يدع المتعمقون تعمقهم ، وهذا إنكار .

وعن أبي هريرة ؛ قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال ، فقال رجل من المسلمين : فإنك يا رسول الله تواصل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وأيكم مثلي ؟ ! إني أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني ، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال ؛ بهم يوما ، ثم يوما ، ثم رأوا الهلال ، فقال : " لو تأخر الشهر لزدتكم " ؛ كالمنكل ، حين أبوا أن ينتهوا .

ومن ذلك مسألة قيام النبي صلى الله عليه وسلم بهم في رمضان ؛ فإنه تركه مخافة أن يفرض عليهم فيعجزوا عنه فيقعوا في الإثم والحرج ، فكان ذلك رفقا منه بهم .

قال القاضي أبو الطيب : " يحتمل أن يكون الله تعالى أوحى إليه أنه إن واصل هذه الصلاة معهم ؛ فرضت عليهم " .

وقالت عائشة رضي الله تعالى عنها : " إن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليدع [ ص: 380 ] العمل وهو يحب أن يعمل به خشية أن يعمل به الناس فيفرض عليهم .

وقد قيل هذا المعنى في قوله صلى الله عليه وسلم : لا تخصوا يوم الجمعة بصيام .

قال المهلب : " وجهه : خشيت أن يستمر عليه فيفرض " .

وبهذا المعنى يجتمع النهي مع قول مالك رضي الله عنه في الموطأ ، ولا يكون فيه إشكال .

ومن ذلك حديث الحولاء بنت تويت ؛ قالت عائشة رضي الله عنها : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي امرأة ، فقال : " من هذه ؟ " ، فقلت : امرأة لا تنام تصلي ، فقال صلى الله عليه وسلم : " لا تنام الليل ! خذوا من العمل ما تطيقون ، فوالله لا يسأم الله حتى تسأموا .

فأعاد لفظ " لا تنام " منكرا عليها
ـ والله أعلم ـ ، غير راض فعلها ؛ لما خافه عليها من الكلل والسآمة أو تعطيل حق آكد .

ونحوه حديث أنس رضي الله عنه ؛ قال : دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد ـ وحبل ممدود بين ساريتين ـ ، فقال : ما هذا ؟ " ، قالوا : حبل لزينب تصلي ، فإذا كسلت أو فترت ؛ أمسكت به ، فقال : " حلوه ، ليصل أحدكم نشاطه ، فإذا كسل أو فتر ؛ قعد .

وفي رواية : لا ، حلوه
.

[ ص: 381 ] وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ؛ قال : بلغ النبي صلى الله عليه وسلم أني أصوم أسرد ، وأصلي الليل ، فإما أرسل إلي وإما لقيته ، فقال : " ألم أخبر أنك تصوم لا تفطر وتصلي الليل ؟ ! فلا تفعل ؛ فإن لعينك حظا ، ولنفسك حظا ، ولأهلك حظا ، فصم وأفطر ، وصل ونم . . . ، الحديث .

وفي رواية عن أبي سلمة ؛ قال : حدثني عبد الله بن عمرو بن العاص ؛ قال : كنت أصوم الدهر ، وأقرأ القرآن كل ليلة ، فإما ذكرت للنبي صلى الله عليه وسلم ، وإما أرسل إلي فأتيته ، فقال : " ألم أخبر أنك تصوم الدهر ، وتقرأ القرآن كل ليلة ؟ ! ، فقلت : بلى يا رسول الله ، ولم أر في ذلك إلا الخير ، قال : " فإن كان كذلك ، أو قال : كذلك ) ؛ فحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام " ، قلت : يا نبي الله ! إني أطيق أفضل من ذلك ، قال : " فإن لزوجك عليك حقا ، ولزوارك عليك حقا ، ولجسدك عليك حقا " ، قال : فصم صوم داود نبي الله ؛ فإنه كان أعبد الناس " ، قال : فقلت يا نبي الله ـ وما صوم داود ؟ قال : " كان يصوم يوما ويفطر يوما " ، قال : " واقرأ القرآن في كل شهر " ، قال : فقلت يا نبي الله ! إني أطيق أفضل من ذلك . قال : فاقرأه في كل عشرين ، قال : قلت : يا نبي الله ! إني أطيق أفضل من ذلك ، قال : " فاقرأه في سبع ، ولا تزد على ذلك ؛ فإن لزوجك عليك حقا ، ولزوارك عليك حقا ، ولجسدك عليك حقا ، قال : فشددت فشدد ( الله ) علي ، قال : وقال لي النبي صلى الله عليه وسلم : " إنك لا تدري لعلك يطول بك عمر " ، قال : فصرت إلى الذي قال لي النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما كبرت ؛ وددت أني كنت [ ص: 382 ] قبلت رخصة نبي الله صلى الله عليه وسلم .

وفي رواية قال : صم يوما وأفطر يوما ، وذلك صيام داود ، وهو أعدل الصيام ، قال : قلت : إني أطيق أفضل من ذلك ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا أفضل من ذلك ، قال عبد الله بن عمرو : لأن أكون قبلت الثلاثة الأيام التي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إلي من أهلي ومالي

وفي الترمذي عن جابر رضي الله عنه ؛ قال : ذكر رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بعبادة واجتهاد ، وذكر عنده آخر برعة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : لا يعدل بالرعة ، والرعة : المراد بها هنا الرفق والتيسير .

قال فيه الترمذي : حسن غريب .

وعن أنس رضي الله عنه ؛ قال : جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أخبروا ؛ كأنهم تقالوها ، فقالوا : وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ؟ وقد غفر ( الله ) له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ؟ ! فقال أحدهم : أما أنا ؛ فإني أصلي الليل أبدا ، وقال الآخر : إني أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال الآخر : إني أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ ! أما والله إني لأخشاكم لله ، وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني .

[ ص: 383 ] والأحاديث في هذا المعنى كثيرة ، وهي بجملتها تدل على الأخذ في التسهيل والتيسير ، وإنما يتصور ذلك على الوجه الأول من عدم الالتزام ، وإن تصور مع الالتزام ؛ فعلى جهة ما لا يشق الدوام فيه حسبما نفسره الآن .

التالي السابق


الخدمات العلمية