صفحة جزء
فصل

لكن يبقى النظر في تعليل النهي ، وأنه يقتضي انتفاءه عند العلة .

وما ذكروه فيه صحيح في الجملة ، وفيه في التفصيل نظر ، وذلك أن العلة راجعة إلى أمرين :

أحدهما : الخوف من الانقطاع والترك إذا التزم فيما يشق فيه الدوام .

والآخر : الخوف من التقصير فيما هو الآكد من حق الله وحقوق الخلق .

أما الأول ؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أصل فيه أصلا راجعا إلى قاعدة معلومة لا مظنونة ، وهي بيان أن العمل المورث للحرج عند الدوام منفي عن الشريعة ؛ كما أن أصل الحرج منفي عنها ، لأنه عليه السلام بعث بالحنيفية السمحة ، ولا سماح مع دخول الحرج ؛ فكل من ألزم نفسه ما يلقى فيه الحرج ؛ فقد يخرج عن الاعتدال في حق نفسه ، وصار إدخاله للحرج على نفسه من تلقاء نفسه لا من الشارع ؛ فإن دخل في العمل على شرط الوفاء ؛ فإن وفى ؛ فحسن بعد الوقوع ، إذ قد ظهر أن ذلك العمل : إما غير شاق ؛ [ ص: 406 ] لأنه قد أتى به بشرطه ، وإما شاق صبر عليه فلم يوف النفس حقها من الرفق ، وسيأتي ، وإن لم يوف ؛ فكأنه نقض عهد الله ، وهو شديد ، فلو بقي على أصل براءة الذمة من الالتزام ؛ لم يدخل عليه ما يتقي منه .

لكن لقائل أن يقول : إن النهي هاهنا معلق بالرفق الراجع إلى العامل ؛ كما قالت عائشة رضي الله عنها : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم ، فكأنه قد اعتبر حظ النفس في التعبد ، فقيل له : افعل واترك ؛ أي : لا تتكلف ما يشق عليك ، كما لا تتكلف في الفرائض ما يشق عليك ؛ لأن الله إنما وضع الفرائض على العباد على وجه من التيسير مشترك للقوي والضعيف ، والصغير والكبير ، والحر والعبد ، والرجل والمرأة ، حتى إذا كان بعض الفرائض يدخل الحرج على المكلف ؛ يسقط عنه جملة ، أو عوض عنه ما لا حرج فيه ، كذلك النوافل المتكلم فيها .

وإذا روعي حظ النفس ؛ فقد صار الأمر في الإيغال إلى العامل ، فله أن لا يمكنها من حظها ، وأن يستعملها فيما قد يشق عليها بالدوام ؛ بناء على القاعدة المؤصلة في أصول الموافقات في إسقاط الحظوظ ، فلا يكون إذا منهيا ـ على ذلك التقدير ـ ، فكما يجب على الإنسان حق لغيره ما دام طالبا له ، وله الخيرة في ترك الطلب به ، فيرتفع الوجوب ؛ كذلك جاء النهي حفظا على حظوظ النفس ، فإذا أسقطها صاحبها ؛ زال النهي ، ورجع العمل إلى أصل الندب .

والجواب : أن حظوظ النفوس بالنسبة إلى الطلب بها قد يقال : إنه من حقوق الله على العباد ، وقد يقال : إنه من حقوق العباد ، فلا ينهض [ ص: 407 ] ما قلتم ، إذ ليس للمكلف خيرة فيه .

فكما أنه متعبد بالرفق بغيره ؛ كذلك هو مكلف بالرفق بنفسه :

ودل على ذلك قوله عليه السلام : إن لنفسك عليك حقا . . . إلى آخر الحديث ، فقرن حق النفس بحق الغير في الطلب في قوله : فأعط كل ذي حق حقه ، ثم جعل ذلك حقا من الحقوق ، ولا يطلق هذا اللفظ إلا على ما كان لازما .

ويدل عليه أنه لا يحل للإنسان أن يبيح لنفسه ولا لغيره دمه ، ولا قطع طرف من أطرافه ، ولا إيلامه بشيء من الآلام ، ومن فعل ذلك ؛ أثم واستحق العقاب ، وهو ظاهر .

وإن قلنا : إنه من حق العبد ، وراجع إلى خيرته ؛ فليس ذلك على الإطلاق ، إذ قد تبين في الأصول أن حقوق العباد ليست مجردة من حق الله .

والدليل على ذلك ـ فيما نحن فيه ـ أنه لو كان إلى خيرتنا بإطلاق ؛ لم يقع النهي فيه علينا ، بل كنا نخير فيه ابتداء ، وإلى ذلك [ يشير قوله صلى الله عليه وسلم : من نذر أن يطيع الله ؛ فليطعه ] ؛ فإنه لو كان بخيرة المكلف محضا ؛ لجاز للناذر العبادة أن يتركها متى شاء ، ويفعلها متى شاء ، وقد اتفق الأئمة على وجوب الوفاء بالنذر ، فيجري ما أشبه مجراه .

وأيضا ؛ فقد فهمنا من الشرع أنه حبب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ، [ ص: 408 ] ومن جملة التزيين تشريعه على وجه يستحسن الدخول فيه ، ولا يكون هذا مع شرعية المشقات ، وإذا كان الإيغال في الأعمال من شأنه في العادة أن يورث الكلل والكراهية والانقطاع ـ الذي هو كالضد لتحبيب الإيمان وتزيينه ـ في القلوب ؛ كان مكروها ؛ لأنه على خلاف وضع الشريعة ، فلم ينبغ أن يدخل فيه على ذلك الوجه .

وأما الثاني : فإن الحقوق المتعلقة بالمكلف على أصناف كثيرة ، وأحكامها تختلف حسبما تعطيه أصول الأدلة .

ومن المعلوم أنه إذا تعارض على المكلف حقان ، ولم يمكن الجمع بينهما ؛ فلا بد من تقديم ما هو آكد في مقتضى الدليل ، فلو تعارض على المكلف واجب ومندوب ؛ لقدم الواجب على المندوب ، وصار المندوب في ذلك الوقت غير مندوب ، بل صار واجب الترك عقلا أو شرعا ، من " باب ما لا يتم الواجب إلا به " ، وإذا صار واجب الترك ؛ فكيف يصير العامل به إذ ذاك متعبدا لله به ؟ ! بل هو متعبد بما هو مطلوب في أصول الأدلة ؛ لأن دليل الندب عتيد ، ولكنه مع ذلك بالنسبة إلى هذا التعبد مانع من العمل به ، وهو حضور الواجب ، فإن عمل بالواجب ؛ فلا حرج في ترك المندوب على الجملة ، إلا أنه غير مخلص من جهة ذلك الالتزام المتقدم ، وقد مر ما فيه ، وإن عمل بالمندوب ؛ عصى بترك الواجب .

وبقي النظر في المندوب : هل وقع موقعه في الندب أم لا ؟ فإن قلنا : إن ترك المندوب هنا واجب عقلا ؛ فقد ينهض المندوب سببا للثواب مع ما فيه من كونه مانعا من أداء الواجب ، وإن قلنا : إنه واجب شرعا ؛ بعد من انتهاضه سببا للثواب ؛ إلا على وجه ما ، وفيه أيضا ما فيه .

[ ص: 409 ] فأنت ترى ما في التزام النوافل على كل تقدير [ من الإخلال بالأمور الواجبة ، ومن هنا يصبح تركه ] فرضا إذا كان مؤديا للحرج ، وهذا كله إذا كان الالتزام صادا عن الوفاء بالواجبات مباشرة ، قصدا أو غير قصد .

ويدخل فيه ما في حديث سلمان مع أبي الدرداء رضي الله عنهما ، إذ كان التزام قيام الليل مانعا له من أداء حقوق الزوجة من الاستمتاع الواجب عليه في الجملة وكذلك التزام صيام النهار .

ومثله لو كان التزام صلاة الضحى أو غيرها من النوافل مخلا بقيامه على مريضه المشرف والقيام على إغاثة أهله بالقوت أو ما أشبه ذلك .

ويجري مجراه ـ وإن لم يكن في رتبته ـ أن لو كان ذلك الالتزام يفضي به إلى ضعف بدنه ، أو نهك قواه ، حتى لا يقدر على الاكتساب لأهله ، أو أداء فرائضه على وجهها ، أو الجهاد ، أو طلب العلم ؛ كما نبه عليه حديث داود عليه السلام : أنه : " كان يصوم يوما ، ويفطر ( يوما ) ، ولا يفر إذا لاقى .

وقد جاء في مفروض الصيام في السفر من التخيير ما جاء ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال عام الفتح : إنكم قد دنوتم من عدوكم ، والفطر أقوى لكم .

قال أبو سعيد الخدري رضي الله عنه : " فأصبحنا منا الصائم ومنا المفطر " .

قال : ثم سرنا ، فنزلنا منزلا ، فقال : إنكم تصبحون عدوكم ، والفطر أقوى لكم ، فأفطروا
.

[ ص: 410 ] قال : فكانت عزيمة من رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وهذه إشارة إلى أن الصيام ربما أضعف عن ملاقاة العدو وعمل الجهاد ، فصيام النفل أولى بهذا الحكم .

وعن جابر : أن النبي صلى الله عليه وسلم رأى رجلا يظلل عليه والزحام عليه ، فقال : ليس من البر الصيام في السفر ؛ يعني : أن الصيام في السفر وإن كان واجبا ـ ليس برا في السفر إذا بلغ به الإنسان ذلك الحد ، مع وجود الرخصة ، فالرخصة إذا مطلوبة في مثله ، بحيث تصير به آكد من أداء الواجب ، فما ليس بواجب في أصله أولى .

فالحاصل أن كل من ألزم نفسه شيئا يشق عليه ؛ فلم يأت طريق البر على حده .

التالي السابق


الخدمات العلمية