صفحة جزء
[ ص: 61 ] لا خفاء أن البدع من حيث تصورها يعلم العاقل ذمها ، لأن اتباعها خروج عن الصراط المستقيم ورمي في عماية .

وبيان ذلك : من جهة النظر ، والنقل الشرعي العام .

أما النظر فمن وجوه :

أحدهما : أنه قد علم بالتجارب والخبرة السارية في العالم من أول الدنيا إلى اليوم أن العقول غير مستقلة بمصالحها ، استجلابا لها ، أو مفاسدها ، استدفاعا لها . لأنها إما دنيوية أو أخروية .

فأما الدنيوية; فلا يستقل باستدراكها على التفصيل ألبتة ، لا في ابتداء وضعها أولا ، ولا في استدراك ما عسى أن يعرض في طريقها ، إما في السوابق ، وإما في اللواحق ، لأن وضعها أولا لم يكن إلا بتعليم الله تعالى; لأن آدم عليه السلام لما أنزل إلى الأرض علم كيف يستجلب مصالح دنياه ، إذ لم يكن ذلك من معلومه أولا ، إلا على قول من قال : إن ذلك داخل تحت مقتضى قول الله تعالى : ( وعلم آدم الأسماء كلها ) ، وعند ذلك يكون تعليما غير عقلي ، ثم توارثته ذريته كذلك في الجملة ، لكن [ ص: 62 ] فرعت العقول من أصولها تفريعا تتوهم استقلالها به ، ودخل في الأصول الدواخل حسبما أظهرت ذلك أزمنة الفترات ، إذ لم تجر مصالح الفترات على استقامة; لوجود الفتن والهرج ، وظهور أوجه الفساد .

فلولا أن من الله على الخلق ببعثة الأنبياء ، لم تستقم لهم حياة ، ولا جرت أحوالهم على كمال مصالحهم ، وهذا معلوم بالنظر في أخبار الأولين والآخرين .

وأما المصالح الأخروية ، فأبعد عن مصالح المعقول من جهة وضع أسبابها ، وهي العبادات مثلا; فإن العقل لا يشعر بها على الجملة ، فضلا عن العلم بها على التفصيل .

ومن جهة تصور الدار الأخرى وكونها آتية ، فلا بد وأنها دار جزاء على الأعمال; فإن الذي يدرك العقل من ذلك مجرد الإمكان أن يشعر بها .

ولا يغترن ذو الحجى بأحوال الفلاسفة المدعين لإدراك الأحوال الأخروية بمجرد العقل قبل النظر في الشرع ، فإن دعواهم بألسنتهم في المسألة بخلاف ما عليه الأمر في نفسه ، لأن الشرائع لم تزل واردة على بني آدم من جهة الرسل ، والأنبياء أيضا لم يزالوا موجودين في العالم وهم أكثر ، وكل ذلك من لدن آدم عليه السلام إلى أن انتهت بهذه الشريعة المحمدية .

غير أن الشريعة كانت إذا أخذت في الدروس; بعث الله نبيا من أنبيائه يبين للناس ما خلقوا لأجله ، وهو التعبد لله ، فلا بد أن يبقى من الشريعة المفروضة ، ما بين زمان أخذها في الاندراس وبين إنزال الشريعة [ ص: 63 ] بعدها بعض الأصول المعلومة .

فأتى الفلاسفة إلى تلك الأصول ، فتلقفوها أو تلقفوا منها ، فأرادوا أن يخرجوه على مقتضى عقولهم ، وجعلوا ذلك عقليا لا شرعيا .

وليس الأمر كما زعموا ، فالعقل غير مستقل ألبتة ، ولا ينبني على غير أصل ، وإنما ينبني على أصل متقدم مسلم على الإطلاق ، ولا يمكن في أحوال الآخرة قبلهم أصل مسلم إلا من طريق الوحي ، ولهذا المعنى بسط سيأتي إن شاء الله .

فعلى الجملة : العقول لا تستقل بإدراك مصالحها دون الوحي ، فالابتداع مضاد لهذا الأصل ، لأنه ليس له مستند شرعي بالفرض ، فلا يبقى إلا ما ادعوه من العقل .

فالمبتدع ليس على ثقة من بدعته أن ينال بسبب العمل بها ما رام تحصيله من جهتها ، فصارت كالعبث .

هذا إن قلنا : إن الشرائع جاءت لمصالح العباد .

وأما على القول الآخر; فأحرى أن لا يكون صاحب البدعة على ثقة منها; لأنها إذ ذاك مجرد تعبد وإلزام من جهة الآمر للمأمور ، والعقل بمعزل عن هذه الخطة حسبما تبين في علم الأصول .

وناهيك من نحلة ينتحلها صاحبها في أرفع مطالبة لا ثقة بها ، ويلقي من يده ما هو على ثقة منه .

والثاني : أن الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان :

[ ص: 64 ] لأن الله تعالى قال فيها : ( اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ) .

وفي حديث العرباض بن سارية : وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها الأعين ووجلت منها القلوب ، فقلنا : يا رسول الله ! إن هذه موعظة مودع ، فما تعهد إلينا ؟

قال : تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها ، ولا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ، ومن يعش منكم فسيرى اختلافا كثيرا ، فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الراشدين من بعدي
الحديث .

وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أتى ببيان جميع ما يحتاج إليه في أمر الدين والدنيا ، وهذا لا مخالف عليه من أهل السنة .

فإذا كان كذلك ، فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله : إن الشريعة لم تتم ، وأنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها; لأنه لو كان معتقدا لكمالها وتمامها من كل وجه; لم يبتدع ، ولا استدرك عليها ، وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم .

قال ابن الماجشون : سمعت مالكا يقول : " من ابتدع في الإسلام [ ص: 65 ] بدعة يراها حسنة ، زعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم خان الرسالة ، لأن الله يقول : ( اليوم أكملت لكم دينكم ) ، فما لم يكن يومئذ دينا ، فلا يكون اليوم دينا .

والثالث : أن المبتدع معاند للشرع ، ومشاق له; لأن الشارع قد عين لمطالب العبد طرقا خاصة على وجوه خاصة ، وقصر الخلق عليها بالأمر والنهي والوعد والوعيد ، وأخبر أن الخير فيها ، وأن الشر في تعديها إلى غير ذلك ، لأن الله يعلم ونحن لا نعلم ، وأنه إنما أرسل الرسول صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين . فالمبتدع راد لهذا كله ، فإنه يزعم أن ثم طرقا أخر ، ليس ما حصره الشارع بمحصور ، ولا ما عينه بمتعين ، كأن الشارع يعلم ونحن أيضا نعلم ، بل ربما يفهم من استدراكه الطرق على الشارع ، أنه علم ما لم يعلمه الشارع ، وهذا إن كان مقصودا للمبتدع; فهو كفر بالشريعة والشارع ، وإن كان غير مقصود; فهو ضلال مبين .

وإلى هذا المعنى أشار عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه ، إذ كتب له عدي بن أرطأة يستشيره في بعض القدرية ؟ فكتب إليه :

أما بعد; فإني أوصيك بتقوى الله والاقتصاد في أمره ، واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وترك ما أحدث المحدثون فيما قد جرت سنته وكفوا مؤنته .

فعليك بلزوم السنة ; فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها من الخطأ والزلل والحمق والتعمق .

فارض لنفسك بما رضي به القوم لأنفسهم; فإنهم على علم وقفوا ، [ ص: 66 ] وببصر نافذ قد كفوا وهم كانوا على كشف الأمور أقوى ، وبفضل كانوا فيه أحرى . فلئن قلتم : أمر حدث بعدهم ، ما أحدثه بعدهم إلا من اتبع غير سننهم ، ورغب بنفسه عنهم ، إنهم لهم السابقون ، فقد تكلموا منه بما يكفي ، ووصفوا منه ما يشفي ، فما دونهم مقصر ، وما فوقهم محسر ، لقد قصر عنهم آخرون [ فجفوا ، وطمح عنهم ] فغلوا وأنهم بين ذلك لعلى هدى مستقيم .

ثم ختم الكتاب بحكم مسألته .

فقوله : " فإن السنة إنما سنها من قد عرف ما في خلافها " ; فهو مقصود الاستشهاد .

والرابع : أن المبتدع قد نزل نفسه منزلة المضاهي للشارع ; لأن الشارع وضع الشرائع ، وألزم الخلق الجري على سننها ، وصار هو المنفرد بذلك ، لأنه حكم بين الخلق فيما كانوا فيه يختلفون ، وإلا فلو كان التشريع من مدركات الخلق لم تنزل الشرائع ، ولم يبق الخلاف بين الناس ، ولا احتيج إلى بعث الرسل عليهم السلام .

[ فـ ] هذا الذي ابتدع في دين الله قد صير نفسه نظيرا ومضاهيا للشارع ، حيث شرع مع الشارع ، وفتح للاختلاف بابا ، ورد قصد الشارع في الانفراد بالتشريع ، وكفى بذلك .

[ ص: 67 ] والخامس : أنه اتباع للهوى; لأن العقل إذا لم يكن متبعا للشرع ، لم يبق له إلا الهوى والشهوة ، وأنت تعلم ما في اتباع الهوى وأنه ضلال مبين .

ألا ترى قول الله تعالى : ( ياداود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب ) .

فحصر الحكم في أمرين لا ثالث لهما عنده ، وهو الحق والهوى ، وعزل العقل مجردا إذ لا يمكن في العادة إلا ذلك .

وقال : ( ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه ) ، فجعل الأمر محصورا بين أمرين : اتباع الذكر ، واتباع الهوى .

وقال : ( ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله ) . وهي مثل ما قبلها .

وتأملوا هذه الآية; فإنها صريحة في أن من لم يتبع هدى الله في هوى نفسه ، فلا أحد أضل منه . وهذا شأن المبتدع ، فإنه اتبع هواه بغير هدى من الله . وهدى الله هو القرآن .

وما بينته الشريعة وبينته الآية أن اتباع الهوى على ضربين :

أحدهما : أن يكون تابعا للأمر والنهي ، فليس بمذموم ولا صاحبه [ ص: 68 ] بضال ، كيف وقد قدم الهدى فاستنار به في طريق هواه ؟ وهو شأن المؤمن التقي .

والآخر : أن يكون هواه هو المقدم بالقصد الأول ، كان الأمر والنهي تابعين بالسنة إليه أو غير تابعين وهو المذموم .

والمبتدع قدم هوى نفسه على هدى ربه ، فكان أضل الناس ، وهو يظن أنه على هدى .

وقد انجر هنا معنى يتأكد التنبيه عليه ، وهو أن الآية المذكورة عينت للاتباع في الأحكام الشرعية طريقين :

أحدهما : الشريعة ، ولا مرية في أنها علم وحق وهدى .

والآخر : الهوى ، وهو المذموم; لأنه لم يذكر في القرآن إلا في مساق الذم .

ولم يجعل ثم طريقا ثالثا ، ومن تتبع الآيات; ألفى ذلك كذلك .

ثم العلم الذي أحيل عليه والحق الذي حمد إنما هو القرآن وما نزل من عند الله :

كقوله تعالى : ( قل آلذكرين حرم أم الأنثيين أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين نبئوني بعلم إن كنتم صادقين ) .

وقال بعد ذلك : ( أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم ) [ ص: 69 ] وقال : ( قد خسر الذين قتلوا أولادهم سفها بغير علم وحرموا ما رزقهم الله افتراء على الله قد ضلوا وما كانوا مهتدين ) . وهذا كله لاتباع أهوائهم في التشريع بغير هدى من الله .

وقال : ( ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة ولا وصيلة ولا حام ولكن الذين كفروا يفترون على الله الكذب ) ، وهو اتباع الهوى في التشريع ، إذ حقيقته افتراء على الله . وقال : ( أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله ) أي لا يهديه دون الله شيء . وذلك بالشرع لا بغيره ، وهو الهدى .

وإذا ثبت هذا ، وأن الأمر دائر بين الشرع والهوى ، تزلزلت قاعدة حكم العقل المجرد ، فكأنه ليس للعقل في هذا الميدان مجال إلا من تحت نظر الهوى ، فهو إذا اتباع الهوى بعينه في تشريع الأحكام .

ودع النظر العقلي في المعقولات المحضة ، فلا كلام فيه هنا ، وإن كان أهله قد زلوا أيضا بالابتداع; فإنما زلوا من حيث ورود الخطاب ومن حيث التشريع .

ولذلك عذر الجميع قبل إرسال الرسل ، أعني : في خطئهم في التشريعات والعقليات ، حتى جاءت الرسل ، فلم يبق لأحد حجة يستقيم [ ص: 70 ] إليها ( رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ) ( فلله الحجة البالغة )

فهذه قاعدة ينبغي أن تكون من بال الناظر في هذا المقام ، وإن كانت أصولية ، فهذه نكتتها مستنبطة من كتاب الله ، انتهى .

التالي السابق


الخدمات العلمية