صفحة جزء
فصل

ويمكن أن يدخل في البدع الإضافية كل عمل اشتبه أمره فلم يتبين : أهو بدعة فينهى عنه ؟ أم غير بدعة فيعمل به ؟ فإنا إذا اختبرناه بالأحكام الشرعية ؛ وجدناه من المشتبهات التي قد ندبنا إلى تركها ؛ حذرا من الوقوع في المحظور ، والمحظور هنا هو العمل بالبدعة ، فإذا ؛ العامل به لا يقطع أنه عمل ببدعة ، كما أنه لا يقطع أنه عمل بسنة ، فصار من جهة هذا التردد غير عامل ببدعة حقيقية ، ولا يقال أيضا : إنه خارج عن العمل بها جملة .

وبيان ذلك أن النهي الوارد في المشتبهات إنما هو حماية أن يقع في [ ص: 480 ] ذلك الممنوع الواقع فيه الاشتباه :

فإذا اختلطت الميتة بالذكية ؛ نهيناه عن الإقدام ، فإن أقدم ؛ أمكن عندنا أن يكون آكلا للميتة في الاشتباه ، فالنهي الأخف إذا منصرف نحو الميتة في الاشتباه ؛ كما انصرف إليها النهي الأشد في التحقق .

وكذلك اختلاط الرضيعة بالأجنبية ؛ النهي في الاشتباه منصرف إلى الرضيعة ؛ كما انصرف إليها في التحقق .

وكذلك سائر المشتبهات ؛ إنما ينصرف نهي الإقدام على المشتبه إلى خصوص الممنوع المشتبه .

فإذا ؛ الفعل الدائر بين كونه سنة أو بدعة ؛ إذا نهي عنه في باب الاشتباه ؛ نهي عن البدعة في الجملة ، فمن أقدم عن العمل ، فقد أقدم على منهي عنه في باب البدعة ؛ لأنه محتمل أن يكون بدعة في نفس الأمر ، فصار من هذا الوجه كالعامل بالبدعة المنهي عنها ، وقد مر أن البدعة الإضافية هي الواقعة ذات وجهين ، فلذلك قيل : إن هذا القسم من قبيل البدع الإضافية .

ولهذا النوع أمثلة :

( أحدهما ) : إذا تعارضت الأدلة على المجتهد في أن العمل الفلاني مشروع يتعبد به أو غير مشروع فلا يتعبد به ، ولم يتبين له جمع بين الدليلين ، أو إسقاط أحدهما بنسخ أو ترجيح أو غيرهما ؛ فقد ثبت في الأصول أن فرضه التوقف ، فلو عمل بمقتضى دليل التشريع من غير مرجح ؛ لكان عاملا بمتشابه ؛ لإمكان صحة الدليل بعدم المشروعية ، [ ص: 481 ] فالصواب الوقوف عن الحكم رأسا ، وهو الفرض في حقه .

( والثاني ) : إذا تعارضت الأقوال على المقلد في المسألة بعينها ، فقال بعض العلماء : يكون العمل بدعة ، وقال بعضهم : ليس ببدعة ، ولم يتبين له الأرجح من العالمين بأعلمية أو غيرها ؛ فحقه الوقوف والسؤال عنهما حتى يتبين له الأرجح ، فيميل إلى تقليده دون الآخر ، فإن أقدم على تقليد أحدهما من غير مرجح ؛ كان حكمه حكم المجتهد إذا أقدم على العمل بأحد الدليلين من غير ترجيح ، فالمثالان في المعنى واحد .

( والثالث ) : أنه ثبت في الصحاح عن الصحابة رضي الله عنهم [ كانوا ] يتبركون بأشياء من رسول الله صلى الله عليه وسلم :

ففي البخاري عن أبي جحيفة ( رضي الله عنه ) قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة ، فأتي بوضوء ، فتوضأ ، فجعل الناس يأخذون من فضل وضوئه فيتمسحون به . . . الحديث .

وفيه : " كان إذا توضأ يقتتلون على وضوئه
" .

وعن المسور ( رضي الله عنه ) في حديث الحديبية : وما انتخم النبي صلى الله عليه وسلم نخامة ؛ إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده .

وخرج غيره من ذلك كثيرا في التبرك بشعره وثوبه وغيرهما ، حتى [ ص: 482 ] أنه مس بإصبعه أحدهم بيده ، فلم يحلق ذلك الشعر الذي مسه عليه السلام حتى مات .

وبالغ بعضهم في ذلك ، حتى شرب دم حجامته . . . إلى أشياء كهذا كثيرة .

فالظاهر في مثل هذا النوع أن يكون مشروعا في حق من ثبتت ولايته واتباعه لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن يتبرك بفضل وضوئه ، ويتدلك بنخامته ، ويستشفى بآثاره كلها ، ويرجى نحو مما كان في آثار المتبوع الأعظم صلى الله عليه وسلم .

إلا أنه عارضنا في ذلك أصل مقطوع به في متنه ، مشكل في تنزيله ، وهو أن الصحابة رضي الله عنهم ـ بعد موته عليه السلام ـ لم يقع من أحد منهم شيء من ذلك بالنسبة إلى من خلفه ، إذ لم يترك النبي صلى الله عليه وسلم بعده في الأمة أفضل من أبي بكر الصديق ( رضي الله عنه ) ، فهو كان خليفته ، ولم يفعل به شيء من ذلك ، ولا عمر ( رضي الله عنهما ) ، وهو كان في الأمة بعده ، ثم كذلك عثمان ، ثم علي ، ثم سائر الصحابة الذين لا أحد أفضل منهم في الأمة ، ثم لم يثبت لواحد منهم من طريق صحيح معروف أن متبركا تبرك به على أحد تلك الوجوه أو نحوها ، بل اقتصروا فيهم على الاقتداء بالأفعال والأقوال والسير التي اتبعوا فيها النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو إذا إجماع منهم على ترك تلك الأشياء كلها .

[ ص: 483 ] وبقي النظر في وجه ترك ما تركوا منه ، ويحتمل وجهين :

( أحدهما ) : أن يعتقدوا فيه الاختصاص ، وأن مرتبة النبوة يسع فيها ذلك كله ؛ للقطع بوجود ما التمسوا من البركة والخير ؛ لأنه عليه السلام كان نورا كله في ظاهره وباطنه ، فمن التمس منه نورا ؛ وجده على أي جهة التمسه ؛ بخلاف غيره من الأمة ؛ فإنه ـ وإن حصل له من نور الاقتداء به والاهتداء بهديه ما شاء الله ـ لا يبلغ مبلغه على حال توازيه في مرتبته ، ولا يقاربه فصار هذا النوع مختصا به ؛ كاختصاصه بنكاح ما زاد على الأربع ، وإحلال بضع الواهبة نفسها له ، وعدم وجوب القسم على الزوجات . . . وشبه ذلك .

فعلى هذا المأخذ ؛ لا يصح لمن بعده الاقتداء به في التبرك على أحد تلك الوجوه ونحوها ، ومن اقتدى به كان اقتداؤه بدعة ، كما كان الاقتداء به في الزيادة على أربع نسوة بدعة .

( الثاني ) : أن لا يعتقدوا الاختصاص ، ولكنهم تركوا ذلك من باب الذرائع ؛ خوفا من أن يجعل ذلك سنة ؛ كما تقدم ذكره في اتباع الآثار والنهي عن ذلك ، أو لأن العامة لا تقتصر في ذلك على حد ، بل تتجاوز فيه الحدود ، وتبالغ بجهلها في التماس البركة ، حتى يداخلها للمتبرك به تعظيم يخرج به عن الحد ، فربما اعتقد في المتبرك به ما ليس فيه ، وهذا التبرك هو أصل العبادة ، ولأجله قطع عمر رضي الله عنه الشجرة التي بويع تحتها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل هو كان أصل عبادة الأوثان في الأمم الخالية ـ حسبما ذكره أهل السير ـ ، فخاف عمر ( رضي الله عنه ) أن يتمادى الحال في الصلاة إلى تلك الشجرة حتى تعبد من دون الله ، فكذلك يتفق عند التوغل [ ص: 484 ] في التعظيم .

ولقد حكى الفرغاني مذيل " تاريخ الطبري " عن الحلاج : أن أصحابه بالغوا في التبرك به ، حتى كانوا يتمسحون ببوله ، ويتبخرون بعذرته ، حتى ادعوا فيه الإلهية ، تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا .

ولأن الولاية ؛ وإن ظهر لها في الظاهر آثار ؛ فقد يخفى أمرها ؛ لأنها في الحقيقة راجعة إلى أمر باطن لا يعلمه إلا الله ، فربما ادعيت الولاية لمن ليس بولي ، أو ادعاها هو لنفسه ، أو أظهر خارقة من خوارق العادات هي من باب الشعوذة لا من باب الكرامة ، أو من باب السحر ، أو الخواص أو غير ذلك ، والجمهور لا يعرف الفرق بين الكرامة والسحر ، فيعظمون من ليس بعظيم ، ويقتدون بمن لا قدوة فيه ، وهو الضلال البعيد ، إلى غير ذلك من المفاسد ، فتركوا العمل بما تقدم ـ وإن كان له أصل ـ ؛ لما يلزم عليه من الفساد في الدين .

وقد يظهر بأول وهلة أن هذا الوجه الثاني أرجح ؛ لما ثبت في الأصول العلمية : أن كل مزية أعطيها النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فإن لأمته أنموذجا منها ، ما لم يدل دليل على الاختصاص .

إلا أن الوجه الأول راجح من جهة أخرى ، وهو إطباقهم على الترك ، إذ لو كان اعتقادهم التشريع ؛ لعمل بعضهم بعده ، أو عملوا به ـ ولو في بعض الأحوال : إما وقوفا مع أصل المشروعية ، وإما بناء على اعتقاد انتفاء العلة الموجبة للامتناع .

[ ص: 485 ] وقد خرج ابن وهب في " جامعه " من حديث يونس بن يزيد ، عن ابن شهاب ؛ قال : حدثني رجل من الأنصار : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أو تنخم ؛ ابتدر من حوله من المسلمين وضوءه ونخامته ، فشربوه ، ومسحوا به جلودهم ، فلما رآهم يصنعون ذلك ؛ سألهم : " لم تفعلون هذا ؟ " ، قالوا : نلتمس الطهور والبركة بذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كان منكم يحب الله ورسوله ؛ فليصدق الحديث ، وليؤد الأمانة ، ولا يؤذ جاره .

فإن صح هذا النقل ؛ فهو مشعر بأن الأولى تركه ، وأن يتحرى ما هو الآكد والأحرى من وظائف التكليف ، ولا يلزم الإنسان في خاصة نفسه .

ولم يثبت من ذلك كله إلا ما كان من قبيل الرقية وما يتبعها ، أو دعاء الرجل لغيره على وجه سيأتي بحول الله .

فقد صارت المسألة من أصلها دائرة بين أمرين : أن تكون مشروعة ، وأن تكون بدعة ، فدخلت تحت حكم المتشابه ، والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية