صفحة جزء
وأما النقل; فمن وجوه :

أحدهما : ما جاء في القرآن الكريم مما يدل على ذم من ابتدع في دين الله في الجملة :

فمن ذلك قول الله تعالى : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله ) .

فهذه الآية أعظم الشواهد ، وقد جاء في الحديث تفسيرها :

فصح من حديث عائشة رضي الله عنها أنها قالت : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : ( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ) ؟ قال : فإذا رأيتهم فاعرفيهم .

وصح عنها أنها قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب ) إلى آخر الآية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 71 ] إذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمى الله; فاحذروهم .

وهذا التفسير مبهم .

ولكنه جاء في رواية عن عائشة أيضا ، قالت : تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات ) الآية قال : فإذا رأيتم الذين يجادلون فيه ، فهم الذين عنى الله ، فاحذروهم .

وهذا أبين ، لأنه جعل علامة الزيغ الجدال في القرآن ، وهذا الجدال مقيد باتباع المتشابه .

فإذا ، الذم إنما لحق من جادل فيه بترك المحكم - وهو أم الكتاب ومعظمه ، والتمسك بمتشابهه .

ولكنه بعد مفتقر إلى تفسير أظهر .

فجاء عن أبي غالب واسمه حزور قال : كنت بالشام ، فبعث المهلب سبعين رأسا من الخوارج ، فنصبوا على درج دمشق ، فكنت على ظهر بيت لي فمر أبو أمامة فنزلت فاتبعته ، فلما وقف عليهم دمعت عيناه وقال : سبحان الله ! ما يصنع السلطان ببني آدم ! قالها ثلاثا كلاب جهنم ، كلاب جهنم ، شر قتلى تحت ظل السماء ثلاث مرات ، [ ص: 72 ] خير قتلى من قتلوه ، طوبى لمن قتلهم أو قتلوه .

ثم التفت إلي ، فقال : أبا غالب ! إنك بأرض هم بها كثير ، فأعاذك الله منهم .

قلت : رأيتك بكيت حين رأيتهم .

قال : بكيت رحمة حين رأيتهم كانوا من أهل الإسلام ، هل تقرأ سورة آل عمران ؟ قلت : نعم .

فقرأ : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب ) حتى بلغ : ( وما يعلم تأويله إلا الله ) وإن هؤلاء كان في قلوبهم زيغ ، فزيغ بهم .

ثم قرأ : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ) إلى قوله ( ففي رحمة الله هم فيها خالدون ) .

قلت : هم هؤلاء يا أبا أمامة ؟

قال : نعم .

قلت : من قبلك تقول أو شيء سمعت من النبي صلى الله عليه وسلم ؟

قال : إني إذا لجريء ، بل سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا مرة ، ولا مرتين حتى عد سبعا .

[ ص: 73 ] ثم قال : إن بني إسرائيل تفرقوا على إحدى وسبعين فرقة ، وإن هذه الأمة تزيد عليها فرقة ، كلها في النار; إلا السواد الأعظم .

قلت : يا أبا أمامة ! ألا ترى ما فعلوا ؟

قال : ( عليه ما حمل وعليكم ما حملتم ) الآية
.

خرجه إسماعيل القاضي وغيره .

وفي رواية; قال : قال : ألا ترى ما فيه السواد الأعظم وذلك في أول خلافة عبد الملك والقتل يومئذ ظاهر ؟ قال : ( عليه ما حمل وعليكم ما حملتم ) .

وخرجه الترمذي مختصرا ، وقال فيه : " حديث حسن " .

وخرجه الطحاوي أيضا باختلاف في بعض الألفاظ وفيه : " فقيل له : يا أبا أمامة ! تقول لهم هذا القول ثم تبكي يعني قوله : شر قتلى إلى آخره ؟ ! قال : رحمة لهم; إنهم كانوا من أهل الإسلام ، فخرجوا منه ، ثم تلا : ( هو الذي أنزل عليك الكتاب ) حتى ختمها ، ثم قال : هم هؤلاء ، ثم تلا هذه الآية : ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ) حتى ختمها . ثم قال : هم هؤلاء .

وذكر الآجري عن طاوس ; قال : " ذكر لابن عباس الخوارج وما [ ص: 74 ] يصيبهم عند قراءة القرآن ، فقال : يؤمنون بمحكمه ، ويضلون عند متشابهه . وقرأ : ( وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ) .

فقد ظهر بهذا التفسير أنهم أهل البدع; لأن أبا أمامة رضي الله عنه جعل الخوارج داخلين في عموم الآية ، وأنها تتنزل عليهم ، وهم من أهل البدع عند العلماء : إما على أنهم خرجوا ببدعتهم عن أهل الإسلام ، وإما على أنهم من أهل الإسلام لم يخرجوا عنهم; على اختلاف العلماء فيهم . وجعل هذه الطائفة ممن في قلوبهم زيغ فزيغ بهم ، وهذا الوصف موجود في أهل البدع كلهم .

مع أن لفظ الآية عام فيهم وفي غيرهم ممن كان على صفاتهم ، ألا ترى أن صدر هذه السورة إنما نزل في نصارى نجران ومناظرتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم في اعتقادهم في عيسى عليه السلام ، حيث تأولوا عليه أنه الإله أو أنه ابن الله أو أنه ثالث ثلاثة ، بأوجه متشابهة ، وتركوا ما هو الواضح في عبوديته حسبما نقله أهل السير ؟ !

ثم تأوله العلماء من السلف الصالح على قضايا دخل أصحابها تحت حكم اللفظ; كالخوارج فهي ظاهرة في العموم .

ثم تلا أبو أمامة الآية الأخرى ، وهي قوله سبحانه : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ) إلى قوله : ( ففي رحمة الله هم فيها خالدون ) ، وفسرها بمعنى ما فسر به الآية الأخرى ، [ ص: 75 ] فهي الوعيد والتهديد لمن تلك صفته ، ونهى المؤمنين أن يكونوا مثلهم .

ونقل عبيد عن حميد بن مهران قال : سألت الحسن كيف يصنع أهل هذه الأهواء الخبيثة بهذه الآية في آل عمران : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ) قال : نبذوها ورب الكعبة وراء ظهورهم .

وعن أبي أمامة أيضا قال : هم الحرورية .

وقال ابن وهب : سمعت مالكا يقول : ما آية في كتاب الله أشد على أهل الاختلاف من أهل الأهواء من هذه الآية : ( يوم تبيض وجوه ) إلى قوله : ( بما كنتم تكفرون ) قال مالك : فأي كلام أبين من هذا ؟ ! فرأيته يتأولها لأهل الأهواء .

ورواه ابن القاسم ، وزاد : قال لي مالك : إنما هذه الآية لأهل القبلة .

وما ذكره في الآية قد نقل عن غير واحد; كالذي تقدم للحسن .

وعن قتادة في قوله تعالى : ( كالذين تفرقوا واختلفوا ) يعني أهل البدع .

وعن ابن عباس في قوله : ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ) قال : " تبيض وجوه أهل السنة ، وتسود وجوه أهل البدعة .

ومن الآيات قوله تعالى : [ ص: 76 ] ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ) .

فالصراط المستقيم هو سبيل الله الذي دعا إليه ، وهو السنة ، والسبل هي سبل الاختلاف الحائدين عن الصراط المستقيم ، وهم أهل البدع ، وليس المراد سبل المعاصي; لأن المعاصي من حيث هي معاص لم يضعها أحد طريقا تسلك دائما على مضاهاة التشريع ، وإنما هذا الوصف خاص بالبدع المحدثات .

ويدل على هذا ما روى إسماعيل عن سليمان بن حرب ، قال : حدثنا حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله قال :

" خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطا طويلا ، وخط لنا سليمان خطا طويلا ، وخط عن يمينه وعن يساره ، فقال : هذا سبيل الله ثم خط لنا خطوطا عن يمينه ويساره وقال : هذه سبل وعلى كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ثم تلا هذه الآية : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل ) يعني الخطوط ( فتفرق بكم عن سبيله ) .

قال بكر بن العلاء : " أحسبه أراد شيطانا من الإنس ، وهي البدع ، والله أعلم " .

وعن عمر بن سلمة الهمداني ; قال : " كنا جلوسا في حلقة [ ص: 77 ] ابن مسعود في المسجد وهو بطحاء قبل أن يحصب ، فقال له عبيد الله بن عمر بن الخطاب ، وكان أتى غازيا : ما الصراط المستقيم يا أبا عبد الرحمن ؟ قال : هو ورب الكعبة الذي ثبت عليه أبوك حتى دخل الجنة .

ثم حلف على ذلك ثلاث أيمان ولاء ، ثم خط في البطحاء خطا بيده ، وخط بجنبيه خطوطا ، وقال : ترككم نبيكم صلى الله عليه وسلم على طرفه ، وطرفه الآخر في الجنة ، فمن ثبت عليه ، دخل الجنة ، ومن أخذ في هذه الخطوط هلك .

وفي رواية : " يا أبا عبد الرحمن ! ما الصراط المستقيم ؟ قال : تركنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في أدناه ، وطرفه في الجنة ، وعن يمينه جواد وعن يساره جواد ، وعليها رجال يدعون من مر بهم : هلم لك ! هلم لك ! فمن أخذ منهم في تلك الطرق; انتهت به إلى النار ، ومن استقام إلى الطريق الأعظم; انتهى به إلى الجنة ، ثم تلا ابن مسعود : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ) الآية كلها .

وعن مجاهد في قوله : ( ولا تتبعوا السبل ) ، قال : البدع والشبهات .

وعن عبد الرحمن بن مهدي : " قد سئل مالك بن أنس عن السنة ؟ قال : هي ما لا اسم له غير السنة ، وتلا : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ) .

قال بكر بن العلاء : يريد إن شاء الله حديث ابن مسعود أن النبي [ ص: 78 ] صلى الله عليه وسلم خط له خطا ، وذكر الحديث .

فهذا التفسير يدل على شمول الآية لجميع طرق البدع ، لا تختص ببدعة دون أخرى .

ومن الآيات قول الله تعالى : ( وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين ) .

فالسبيل القصد هو طريق الحق ، وما سواه جائر عن الحق; أي : عادل عنه ، وهي طرق البدع والضلالات ، أعاذنا الله من سلوكها بفضله ، وكفى بالجائر أن يحذر منه ، فالمساق يدل على التحذير والنهي .

وذكر ابن وضاح ; قال : " سئل عاصم بن بهدلة ، وقيل له : أبا بكر ! ، هل رأيت قول الله تعالى : ( وعلى الله قصد السبيل ومنها جائر ولو شاء لهداكم أجمعين ) ؟ قال : حدثنا أبو وائل عن عبد الله بن مسعود ; قال : خط عبد الله خطا مستقيما ، و خط خطوطا عن يمينه وخطوطا عن شماله ، فقال : خط رسول الله صلى الله عليه وسلم هكذا ، فقال للخط المستقيم : هذا سبيل الله ، وللخطوط التي عن يمينه وشماله : هذه سبل متفرقة ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه ; والسبيل مشتركة; قال الله تعالى : ( وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ) إلى آخرها .

عن التستري : ( قصد السبيل ) : طريق السنة ، ( ومنها جائر ) ;يعني : إلى النار ، وذلك الملل والبدع " .

وعن مجاهد : ( قصد السبيل ) ; أي المقتصد منها بين الغلو [ ص: 79 ] والتقصير ، وذلك يفيد أن الجائر هو الغالي أو المقصر ، وكلاهما من أوصاف البدع .

وعن علي رضي الله عنه أنه كان يقرؤها : " فمنكم جائر " ; قالوا : يعني هذه الأمة ، فكأن هذه الآية مع الآية قبلها يتواردان على معنى واحد .

ومنها قوله تعالى : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء إنما أمرهم إلى الله ثم ينبئهم بما كانوا يفعلون ) .

هذه الآية قد جاء تفسيرها في الحديث من طريق عائشة رضي الله عنها ، قالت :

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا عائشة ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ) من هم ؟

قلت : الله ورسوله أعلم .

قال : " هم أصحاب الأهواء ، وأصحاب البدع ، وأصحاب الضلالة; من هذه الأمة ، يا عائشة إن لكل ذنب توبة ، ما خلا أصحاب الأهواء والبدع ، ليس لهم توبة ، وأنا بريء منهم وهم مني برآء .
؟ .

قال ابن عطية : " هذه الآية تعم أهل الأهواء والبدع والشذوذ في [ ص: 80 ] الفروع وغير ذلك من أهل التعمق في الجدال والخوض في الكلام ، هذه كلها عرضة للزلل ومظنة لسوء المعتقد .

ويريد والله أعلم بأهل التعمق في الفروع ما ذكره أبو عمر بن عبد البر في فصل ذم الرأي من " كتاب العلم " له ، وسيأتي ذكره بحول الله .

وحكى ابن بطال في شرح البخاري عن أبي حنيفة أنه قال : لقيت عطاء بن أبي رباح بمكة ، فسألته عن شيء ؟ فقال : من أين أنت ؟ قلت : من أهل الكوفة ، قال : أنت من أهل القرية الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ؟ قلت : نعم ، قال : من أي الأصناف أنت ؟ ، قلت : ممن لا يسب السلف ، ويؤمن بالقدر ولا يكفر أحدا بذنب ، فقال عطاء : عرفت فالزم .

وعن الحسن ، قال : خرج علينا عثمان بن عفان رضي الله عنه يوما يخطبنا ، فقطعوا عليه كلامه ، فتراموا بالبطحاء ، حتى جعلت ما أبصر أديم السماء .

قال : وسمعنا صوتا من بعض حجر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فقيل : هذا صوت أم المؤمنين !

قال : فسمعتها وهي تقول : ألا إن نبيكم قد برئ ممن فرق دينه واحتزب ، وتلت : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا لست منهم في شيء )
.

قال القاضي إسماعيل : " أحسبه يعني بقوله : أم المؤمنين : أم سلمة ، وأن ذلك قد ذكر في بعض الحديث ، وقد كانت عائشة في ذلك [ ص: 81 ] الوقت حاجة .

وعن أبي هريرة أنها نزلت في هذه الأمة .

وعن أبي أمامة : هم الخوارج .

قال القاضي : " ظاهر القرآن يدل على أن كل من ابتدع في الدين بدعة من الخوارج وغيرهم; فهو داخل في هذه الآية; لأنهم إذا ابتدعوا تجادلوا وتخاصموا وتفرقوا وكانوا شيعا .

ومنها قوله تعالى : ( ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون ) . قرئ : " فارقوا دينهم " .

وفسر عن أبي هريرة أنهم الخوارج . ورواه أبو أمامة مرفوعا .

وقيل : هم أصحاب الأهواء والبدع .

قالوا : روته عائشة رضي الله عنها مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم .

وذلك لأن هذا شأن من ابتدع; حسبما قاله إسماعيل القاضي ، وكما تقدم في الآي الأخر .

ومنها قوله تعالى : ( قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض ) .

[ ص: 82 ] فعن ابن عباس أن لبسكم شيعا هو الأهواء المختلفة .

ويكون على هذا قوله : ( ويذيق بعضكم بأس بعض ) : تكفير البعض للبعض حتى يتقاتلوا ، كما جرى للخوارج حين خرجوا على أهل السنة والجماعة .

وقيل : معنى ( أو يلبسكم شيعا ) : ما فيه إلباس من الاختلاف .

وقال مجاهد وأبو العالية : " إن الآية لأمة محمد صلى الله عليه وسلم " .

قال أبو العالية : " هن أربع ، ظهر اثنتان بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بخمس وعشرين سنة : فألبسوا شيعا ، وأذيق بعضكم بأس بعض ، وبقيت اثنتان ، فهما ولا بد واقعتان ، الخسف من تحت أرجلكم ، والمسخ من فوقكم " .

وهذا كله صريح في أن اختلاف الأهواء مكروه غير محبوب ، ومذموم غير محمود .

وفيما نقل عن مجاهد في قول الله : ( ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) :

قال في المختلفين : إنهم أهل الباطل .

( إلا من رحم ربك ) ; قال : " فإن أهل الحق ليس فيهم اختلاف " .

وروي عن مطرف بن الشخير : أنه قال : " لو كانت الأهواء كلها [ ص: 83 ] واحدا; لقال القائل : لعل الحق فيه ! فلما تشعبت وتفرقت; عرف كل ذي عقل أن الحق لا يتفرق .

وعن عكرمة ( ولا يزالون مختلفين ) يعني في الأهواء ( إلا من رحم ربك ) هم أهل السنة .

ونقل أبو بكر ثابت الخطيب عن منصور بن عبد الله بن عبد الرحمن ; قال : كنت جالسا عند الحسن ورجل خلفي قاعد ، فجعل يأمرني أن أسأله عن قول الله : ( ولا يزالون مختلفين ) قال : نعم ( لا يزالون مختلفين ) على أديان شتى ( إلا من رحم ربك ) ، فمن رحم غير مختلف .

وروى ابن وهب عن عمر بن عبد العزيز ، ومالك بن أنس : أن أهل الرحمة لا يختلفون .

ولهذه الآية بسط يأتي بعد إن شاء الله .

وفي البخاري عن عمرو عن مصعب ; قال : " سألت أبي عن قوله تعالى : ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ) ; هم الحرورية ؟ قال : لا ; هم اليهود والنصارى ، أما اليهود ; فكذبوا محمدا صلى الله عليه وسلم ، وأما النصارى فكذبوا بالجنة ، وقالوا : لا طعام فيها ولا شراب . والحرورية ( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ) .

[ ص: 84 ] وكان شعبة يسميهم الفاسقين .

وفي تفسير سعيد بن منصور ، عن مصعب بن سعد ، قال : قلت لأبي : ( الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ) ; أهم الحرورية ؟ قال : لا ! أولئك أصحاب الصوامع ، ولكن الحرورية الذين قال الله فيهم : ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) .

وخرج عبد بن حميد في ( تفسيره ) هذا المعنى بلفظ آخر عن مصعب بن سعد ، فأتى على هذه الآية : ( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا ) إلى قوله : ( يحسنون صنعا ) ، قلت : أهم الحرورية ؟ قال : لا ; هم اليهود والنصارى ، أما اليهود فكفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وأما النصارى ; فكفروا بالجنة ، وقالوا : ليس فيها طعام ولا شراب ، ولكن الحرورية : ( الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض )

فالأول : لأنهم خرجوا عن طريق الحق بشهادة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لأنهم تأولوا التأويلات الفاسدة ، وكذا فعل المبتدعة وهو بابهم الذي دخلوا فيه .

والثاني : لأنهم تصرفوا في أحكام القرآن والسنة هذا التصرف .

فأهل حروراء وغيرهم من الخوارج قطعوا قوله تعالى : ( إن الحكم إلا لله ) [ ص: 85 ] عن قوله : ( يحكم به ذوا عدل ) وغيرهما ، وكذا فعل سائر المبتدعة حسبما يأتيك بحول الله .

ومنه [ ما ] روى عمرو بن مهاجر ; قال : " بلغ عمر بن عبد العزيز رحمه الله أن غيلان القدري يقول في القدر ، فبعث إليه ، فحجبه أياما ، ثم أدخله عليه فقال : يا غيلان ! ما هذا الذي بلغني عنك ؟ " .

قال عمرو بن مهاجر : " فأشرت إليه ألا يقول شيئا " .

قال : " فقال : نعم يا أمير المؤمنين : إن الله عز وجل يقول : ( هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعا بصيرا إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا ) .

قال عمر : اقرأ إلى آخر السورة : ( وما تشاءون إلا أن يشاء الله إن الله كان عليما حكيما يدخل من يشاء في رحمته والظالمين أعد لهم عذابا أليما ) .

ثم قال : ما تقول يا غيلان ؟

قال أقول : قد كنت أعمى فبصرتني ، وأصم فأسمعتني ، وضالا فهديتني .

[ ص: 86 ] فقال عمر : اللهم إن كان عبدك غيلان صادقا ، وإلا فاصلبه " .

قال فأمسك عن الكلام في القدر ، فولاه عمر بن عبد العزيز دار الضرب بدمشق ، فلما مات عمر بن عبد العزيز وأفضت الخلافة إلى هشام ; تكلم في القدر ، فبعث إليه هشام ، فقطع يده ، فمر به رجل والذباب على يده ، فقال : يا غيلان ! هذا قضاء وقدر . قال : كذبت - لعمر الله - ما هذا قضاء ولا قدر; فبعث إليه هشام فصلبه " .

والثالث : لأن الحرورية جردوا السيوف على عباد الله ، وهو غاية الفساد في الأرض ، وذلك كثير من أهل البدع شائع ، وسائرهم يفسدون بوجوه من إيقاع العداوة والبغضاء بين أهل الإسلام .

وهذه الأوصاف الثلاثة تقتضيها الفرقة التي نبه عليها الكتاب والسنة :

كقوله تعالى : ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا ) وقوله تعالى : ( إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا ) .

وأشباه ذلك .

وفي الحديث : " إن الأمة تتفرق على بضع وسبعين فرقة " .

وهذا التفسير في الرواية الأولى لمصعب بن سعد أيضا ، فقد وافق أباه على المعنى المذكور .

ثم فسر سعد بن أبي وقاص في رواية سعيد بن منصور : أن ذلك بسبب [ ص: 87 ] الزيغ الحاصل فيهم ، وذلك قوله تعالى : ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) ، وهو راجع إلى آية آل عمران في قوله : ( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ) . الآية; فإنه رضي الله عنه أدخل الحرورية في الآيتين بالمعنى ، وهو الزيغ في إحداهما ، والأوصاف المذكورة في الأخرى; لأنها فيهم موجودة .

فآية الرعد تشمل [ الحرورية ] بلفظها; لأن اللفظ فيها يقتضي العموم لغة ، وإن حملناها على الكفار خصوصا; فهي تعطي أيضا فيهم حكما من جهة ترتيب الجزاء على الأوصاف المذكورة حسبما هو مبين في الأصول .

وكذلك آية الصف; لأنها خاصة بقوم موسى عليه السلام ، ومن هنا كان شعبة يسميهم الفاسقين أعني : الحرورية لأن معنى الآية واقع عليهم ، وقد جاء فيها : ( والله لا يهدي القوم الفاسقين ) ، والزيغ أيضا كان موجودا فيهم ، فدخلوا في معنى قوله : ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) ، ومن هنا يفهم أنها لا تختص من أهل البدعة بالحرورية ، بل تعم كل من اتصف بتلك الأوصاف التي أصلها الزيغ ، وهو الميل عن الحق اتباعا للهوى .

وإنما فسرها سعد رضي الله عنه بالحرورية ; لأنه إنما سئل عنهم على الخصوص ، والله أعلم; لأنهم أول من ابتدع في دين الله ، فلا يقتضي ذلك تخصيصا .

[ ص: 88 ] وأما المسئول عنها أولا وهي آية الكهف فإن سعدا نفى أن تشمل الحرورية .

وقد جاء عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه فسر ( الأخسرين أعمالا ) بالحرورية أيضا .

فروى عبد بن حميد عن أبي الطفيل ; قال : " قام ابن الكواء إلى علي ، فقال : يا أمير المؤمنين ! من الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا ؟

قال : منهم أهل حروراء " .

وهو أيضا منقول في " تفسير سفيان الثوري " .

وفي " جامع ابن وهب " : " أنه سأله عن الآية ؟ فقال له : ارق إلي أخبرك وكان على المنبر فرقي إليه درجتين ، فتناوله بعصا كانت في يده ، فجعل يضربه بها ، ثم قال له علي : أنت وأصحابك " .

وخرج عبد بن حميد أيضا عن محمد بن جبير بن مطعم ; قال : أخبرني رجل من بني أود : " أن عليا خطب الناس بالعراق وهو يسمع ، فصاح به ابن الكواء من أقصى المسجد ، فقال : يا أمير المؤمنين ! من ( الأخسرين أعمالا ) ؟ قال : أنت ، فقتل ابن الكواء يوم الخوارج " .

ونقل بعض أهل التفسير : " أن ابن الكواء سأله ؟ فقال : أنتم أهل حروراء ، وأهل الرياء ، والذين يحبطون الصنيعة بالمنة " .

فالرواية الأولى تدل على أن أهل حروراء بعض من شملته الآية .

[ ص: 89 ] ولما قال سبحانه في وصفهم : ( الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا ) ; وصفهم بالضلال مع ظن الاهتداء ، دل على أنهم المبتدعون في أعمالهم عموما ، كانوا من أهل الكتاب أولا ، من حيث قال النبي : كل بدعة ضلالة وسيأتي شرح ذلك بعون الله .

فقد يجتمع التفسيران في الآية ، تفسير سعد بأنهم اليهود والنصارى ، وتفسير علي بأنهم أهل البدعة; لأنهم قد اتفقوا على الابتداع ، ولذلك فسر كفر النصارى بأنهم تأولوا في الجنة غير ما هي عليه ، وهو التأويل بالرأي .

فاجتمعت الآيات الثلاث على ذم البدعة وأهلها ، وأشعر كلام سعد بن أبي وقاص بأن كل آية اقتضت وصفا من أوصاف المبتدعة ، فهم مقصدون بما فيها من الذم والخزي وسوء الجزاء ، إما بعموم اللفظ ، وإما بمعنى الوصف .

وروى ابن وهب أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى بكتاب في كتف فقال : " كفى بقوم حمقا أو قال : ضلالا أن يرغبوا عما جاءهم به نبيهم إلى غير نبيهم ، أو كتاب إلى غير كتابهم " فنزلت : ( أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم ) .

وخرج عبد الحميد عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من [ ص: 90 ] رغب عن سنتي فليس مني " ، ثم تلا هذه الآية : ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) إلى آخر الآية .

وخرج هو وغيره عن عبد الله بن عباس رضي الله عنه في قول الله : ( علمت نفس ما قدمت وأخرت ) ; قال : " ما قدمت من عمل خير أو شر ، وما أخرت من سنة يعمل بها من بعده " .

وهذا التفسير قد يحتاج إلى تفسير ، فروي عن عبد الله ; قال : " ما قدمت من خير ، وما أخرت من سنة صالحة يعمل بها من بعدها ، فإن له مثل أجر من عمل بها لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا ، وما أخرت من سنة سيئة ، كان عليه مثل وزر من عمل بها لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا " .

خرجه ابن مبارك وغيره .

وجاء عن سفيان بن عيينة و أبي قلابة وغيرهما أنهم قالوا : " كل صاحب بدعة أو فرية ذليل " ، واستدلوا بقول الله تعالى : ( إن الذين اتخذوا العجل سينالهم غضب من ربهم وذلة في الحياة الدنيا وكذلك نجزي المفترين ) .

وخرج ابن وهب عن مجاهد في قول الله : ( إنا نحن نحيي الموتى ونكتب ما قدموا وآثارهم ) ; يقول : " ما قدموا من خير ، وآثارهم التي [ ص: 91 ] أورثوا الناس بعدهم من الضلالة .

وخرج أيضا عن ابن عون ، عن محمد بن سيرين أنه قال : إني أرى أسرع الناس ردة ، أصحاب الأهواء " .

قال ابن عون : " وكان ابن سيرين يرى أن هذه الآية في أصحاب الأهواء : ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره ) .

وذكر الآجري عن أبي الجوزاء أنه ذكر أصحاب الأهواء فقال : " والذي نفس أبي الجوزاء بيده; لأن تمتلئ داري قردة وخنازير أحب إلي من أن يجاورني رجل منهم ، ولقد دخلوا في هذه الآية : ( ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم وتؤمنون بالكتاب كله ) إلى قوله : ( إن الله عليم بذات الصدور ) .

والآيات المصرحة والمشيرة إلى ذمهم والنهي عن ملابسة أحوالهم كثيرة ، فلنقتصر على ما ذكرنا ، ففيه إن شاء الله الموعظة لمن اتعظ ، والشفاء لما في الصدور .

التالي السابق


الخدمات العلمية