صفحة جزء
والشرط الثالث : أن لا تفعل في المواضع التي هي مجتمعات الناس ، أو المواضع التي تقام فيها السنن ، وتظهر فيها أعلام الشريعة ، فأما إظهارها في المجتمعات ممن يقتدى به أو بمن يحسن به الظن فذلك من أضر الأشياء على سنة الإسلام ، فإنها لا تعدو أمرين : إما أن يقتدى بصاحبها فيها ، فإن العوام أتباع كل ناعق ، لا سيما البدع التي وكل الشيطان بتحسينها للناس ، والتي للنفوس في تحسينها هوى ، وإذا اقتدي بصاحب البدعة الصغيرة كبرت بالنسبة إليه ، لأن كل من دعا إلى ضلالة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها ، فعلى حسب كثرة الأتباع يعظم عليه الوزر .

وهذا بعينه موجود في صغائر المعاصي ، فإن العالم مثلا إذا أظهر المعصية ـ وإن صغرت ـ سهل على الناس ارتكابها ، فإن الجاهل يقول : لو كان هذا الفعل كما قال من أنه ذنب ، لم يرتكبه ، وإنما ارتكبه لأمر علمه دوننا . فكذلك البدعة إذا أظهرها العالم المقتدى فيها ، لا محالة ، فإنها في مظنة التقرب في ظن الجاهل ، لأن العالم يفعلها على ذلك الوجه ، بل البدعة أشد في هذا المعنى ، إذ الذنب قد لا يتبع عليه ، بخلاف البدعة [ ص: 554 ] فلا يتحاشى أحد عن اتباعه إلا من كان عالما بأنها بدعة مذمومة ، فحينئذ يصير في درجة الذنب ، فإذا كانت كذلك صارت كبيرة بلا شك ، فإن كان داعيا إليها فهو أشد ، وإن كان الإظهار باعثا على الاتباع ، فبالدعاء يصير أدعى إليه .

وقد روي عن الحسن أن رجلا من بني إسرائيل ابتدع بدعة فدعا الناس إليها فاتبع ، وأنه لما عرف ذنبه عمد إلى ترقوته فنقبها فأدخل فيها حلقة ثم جعل فيها سلسلة ثم أوثقها في شجرة فيجعل يبكي ويعج إلى ربه ، فأوحى الله إلى نبي تلك الأمة أن لا توبة له قد غفر له الذي أصاب . فكيف بمن ضل فصار من أهل النار ؟

وأما اتخاذها في المواضع التي تقام فيها السنن فهو كالدعاء إليها بالتصريح ، لأن عمل إظهار الشرائع الإسلامية يوهم أن كل ما أظهر فيها فهو من الشعائر ، فكأن المظهر لها يقول : هذه سنة فاتبعوها .

قال أبو مصعب : قدم علينا ابن مهدي فصلى ووضع رداءه بين يدي الصف ، فلما سلم الإمام رمقه الناس بأبصارهم ورمقوا مالكا ـ وكان قد صلى خلف الإمام ـ فلما سلم قال : من هاهنا من الحرس ؟ فجاءه نفسان فقال : خذا صاحب هذا الثوب فاحبساه : فحبس ، فقيل له : إنه ابن مهدي فوجه إليه وقال له : ما خفت الله واتقيته أن وضعت ثوبك بين يديك في الصف ، وشغلت المصلين بالنظر إليه ، وأحدثت في مسجدنا شيئا ما كنا نعرفه ؟ وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :

من أحدث في مسجدنا حدثا فعليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين فبكى ابن مهدي وآلى على نفسه [ ص: 555 ] أن لا يفعل ذلك أبدا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا في غيره .

وفي رواية عن ابن مهدي قال : فقال : يا عبد الرحمن ! تصلي مستلبا ؟ فقلت : يا أبا عبد الله ، إنه كان يوما حارا ـ كما رأيت ، فثقل ردائي علي . فقال : آلله ما أردت بذلك الطعن على من مضى والخلاف عليه ؟ قلت : آلله ، قال : خلياه .

وحكى ابن وضاح قال : ثوب المؤذن بالمدينة في زمان مالك ، فأرسل إليه مالك فجاءه ، فقال له مالك : ما هذا الذي تفعل ؟ فقال : أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر فيقومون . فقال له مالك : لا تفعل ، لا تحدث في بلدنا شيئا لم يكن فيه ، قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بهذا البلد عشر سنين وأبو بكر وعمر وعثمان فلم يفعلوا هذا ، فلا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه ، فكف المؤذن عن ذلك وأقام زمانا ، ثم إنه تنحنح في المنارة عند طلوع الفجر ، فأرسل إليه مالك فقال له : ما الذي تفعل ؟ قال : أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر . فقال له : ألم أنهك أن لا تحدث عندنا ما لم يكن ؟ فقال : إنما نهيتني عن التثويب . فقال له : لا تفعل . فكف زمانا . ثم جعل يضرب الأبواب ، فأرسل إليه مالك فقال : ما هذا الذي تفعل ؟ فقال : أردت أن يعرف الناس طلوع الفجر . فقال له مالك : لا تفعل ، لا تحدث في بلدنا ما لم يكن فيه .

قال ابن وضاح : وكان مالك يكره التثويب ـ قال ـ وإنما أحدث هذا بالعراق . قيل لـ ابن وضاح : فهل كان يعمل به بمكة أو المدينة أو مصر أو [ ص: 556 ] غيرها من الأمصار ؟ فقال : ما سمعته إلا عند بعض الكوفيين والإباضيين .

فتأمل كيف منع مالك من إحداث أمر يخف شأنه عند الناظر فيه ببادئ الرأي وجعله أمرا محدثا ، وقد قال في التثويب : إنه ضلال ، وهو بين ، لأن :

كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة ولم يسامح للمؤذن في التنحنح ولا في ضرب الأبواب ، لأن ذلك جدير بأن يتخذ سنة ، كما منع من وضع رداء عبد الرحمن بن مهدي خوف أن يكون حدثا أحدثه .

وقد أحدث بالمغرب المتسمى بالمهدي تثويبا عند طلوع الفجر وهو قولهم أصبح ولله الحمد إشعارا بأن الفجر قد طلع ، لإلزام الطاعة ، ولحضور الجماعة ، وللغد ولكل ما يؤمرون به . فيخصه هؤلاء المتأخرون تثويبا بالصلاة كالأذان . ونقل أيضا إلى أهل المغرب الحزب المحدث بالإسكندرية ، وهو المعتاد في جوامع الأندلس وغيرها ، فصار ذلك كله سنة في المساجد إلى الآن ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .

وقد فسر التثويب الذي أشار إليه مالك بأن المؤذن كان إذا أذن فأبطأ الناس قال بين الأذان والإقامة : قد قامت الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح . وهذا نظير قولهم عندنا : الصلاة ـ رحمكم الله .

وروي عن ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ أنه دخل مسجدا أراد أن يصلي فيه ، فثوب المؤذن ، فخرج عبد الله بن عمر من المسجد ، وقال : اخرج بنا من عند هذا المبتدع ولم يصل فيه . قال ابن رشد : وهذا نحو مما كان يفعل عندنا بجامع قرطبة من أن [ ص: 557 ] يفرد المؤذن بعد أذانه قبل الفجر النداء عند الفجر بقوله : حي على الصلاة : ثم ـ قال ـ وقيل : إنما عنى بذلك قول المؤذن في أذانه : حي على خير العمل . لأنها كلمة زادها في الأذان من خالف السنة من الشيعة . ووقع في المجموعة أن من سمع التثويب وهو في المسجد خرج عنه ، كفعل ابن عمر ـ رضي الله عنهما ـ .

وفي المسألة كلام ، المقصود منه التثويب المكروه الذي قال فيه مالك : إنه ضلال ، والكلام يدل على التشديد في الأمور المحدثة أن تكون في مواضع الجماعة ، أو في المواطن التي تقام فيها السنن ، والمحافظة على المشروعات أشد المحافظة ، لأنها إذا أقيمت هنالك أخذها الناس وعملوا بها ، فكان وزر ذلك عائدا على الفاعل أولا ، فيكثر وزره ويعظم خطر بدعته .

التالي السابق


الخدمات العلمية