صفحة جزء


[ ص: 607 ] هذا الباب يضطر إلى الكلام فيه عند النظر فيما هو بدعة وما ليس ببدعة فإن كثيرا من الناس عدوا أكثر المصالح المرسلة بدعا ، ونسبوها إلى الصحابة والتابعين ، وجعلوها حجة فيما ذهبوا إليه من اختراع العبادات . وقوم جعلوا البدع تنقسم بأقسام أحكام الشريعة ، فقالوا : إن منها ما هو واجب ومندوب ، وعدوا من الواجب كتب المصحف وغيره ، ومن المندوب الاجتماع في قيام رمضان على قارئ واحد .

وأيضا ؛ فإن المصالح المرسلة يرجع معناها إلى اعتبار المناسب الذي لا يشهد له أصل معين ، فليس له على هذا شاهد شرعي على الخصوص ، ولا كونه قياسا بحيث إذا عرض على العقول تلقته بالقبول . وهذا بعينه موجود في البدع المستحسنة ، فإنها راجعة إلى أمور في الدين مصلحية ـ في زعم واضعيها ـ في الشرع على الخصوص

وإذا ثبت هذا ، فإن كان اعتبار المصالح المرسلة حقا ، فاعتبار البدع المستحسنة حق ، لأنهما يجريان من واد واحد . وإن لم يكن اعتبار البدع [ ص: 608 ] حقا ، لم يصح اعتبار المصالح المرسلة .

وأيضا ؛ فإن القول بالمصالح المرسلة ليس متفقا عليه ، بل قد اختلف فيه أهل الأصول على أربعة أقوال . فذهب القاضي وطائفة من الأصوليين إلى رده ، وأن المعنى لا يعتبر ما لم يستند إلى أصل . وذهب مالك إلى اعتبار ذلك ، وبنى الأحكام عليه على الإطلاق ، وذهب الشافعي ومعظم الحنفية إلى التمسك بالمعنى الذي لم يستند إلى أصل صحيح ، لكن بشرط قربه من معاني الأصول الثابتة هذا ما حكى الإمام الجويني .

وذهب الغزالي إلى أن المناسب إن وقع في رتبة التحسين والتزيين لم يعتبر حتى يشهد له أصل معين ، وإن وقع في رتبة الضروري فميله إلى قبوله ، لكن بشرط .

قال : ولا يبعد أن يؤدي إليه اجتهاد مجتهد . واختلف قوله في الرتبة المتوسطة ، وهي رتبة الحاجي ، فرده في " المستصفى " وهو آخر قوليه ، وقبله في " شفاء العليل " كما قبل ما قبله .

وإذا اعتبر من الغزالي اختلاف قوله ، فالأقوال خمسة ، فإذا الراد لاعتبارها لا يبقى له في الوقائع الصحابية مستند إلا أنها بدعة مستحسنة ـ كما قال عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ في الاجتماع [ ص: 609 ] لقيام رمضان : نعمت البدعة هذه ـ إذ لا يمكنهم ردها ، لاجتماعهم عليها .

وكذلك القول في الاستحسان ؛ فإنه على ما ذهب إليه المتقدمون راجع إلى الحكم بغير دليل ، والنافي له لا يعد الاستحسان سببا ؛ فلا يعتبر في الأحكام ألبتة ، فصار كالمصالح المرسلة إذا قيل بردها .

فلما كان هذا الموضع مزلة قدم ، لأهل البدع أن يستدلوا على بدعتهم من جهته ؛ كان الحق المتعين النظر في مناط الغلط الواقع لهؤلاء ، حتى يتبين أن المصالح المرسلة ليست من البدع في ورد ولا صدر ، بحول الله ، والله الموفق .

فنقول :

التالي السابق


الخدمات العلمية