صفحة جزء
ومن دلائل نبوته وصدقه فيما جاء به من عند الله سبحانه من القرآن العظيم أنه تحدى الخلق بما في القرآن من الإعجاز ودعاهم إلى معارضته والإتيان بسورة مثله فنكلوا عنه وعجزوا عن الإتيان بشيء [ ص: 259 ] منه.

واختلف أهل العلم في إعجاز القرآن منهم من قال: إعجازه من جهة البلاغة وحسن اللفظ دون النظم ومنهم من قال: إعجازه في نظمه دون لفظه فإن العرب قد تكلمت بألفاظه ومنهم من قال: إعجازه في إخباره عن الحوادث وإنذاره بالكوائن في مستقبل الزمان ووقوعها على الصفة التي أنبأ عنها ومنهم من قال: إعجازه في أن الله أعجز الناس عن الإتيان بمثله وصرف الهمم عن معارضته مع وقوع التحدي وت‍وفر الدواعي إليه لتكون آية للنبوة وعلامة لصدقه في دعواه.

وقد ذهب بعض العلماء إلى إثبات الإعجاز للقرآن من جميع هذه الوجوه ولا معنى لقول من زعم أن الإعجاز في لفظه؛ لأن الألفاظ مستعملة في كلام العرب ومتداولة في خطابها؛ لأن البلاغة ليست في أعيان الأسماء ومفرد الألفاظ وحسب دون أن تكون هذه الأوضاع معتبرة بمحالها ومواضعها المصرفة إليها، والمستعملة فيها.

قال الشيخ أبو سليمان رحمه الله: وبيان ذلك أن العرب قد تعرف لفظ الصدع في لغتها وتتكلم به في خطابها ثم إنك لا تجده مستعملا لهم في مثل قوله فاصدع بما تؤمر وأعرض عن المشركين ويستعمل اسم الضرب ثم لا تجده لهم مستعملا في مثل قوله فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا وكذلك لفظ النبذ ثم لا تجده لهم في مثل قوله تعالى فانبذ إليهم على سواء إلى ما يجمع هذا الكلام من الوجازة والاختصار وحذف المقتضى وإعمال الضمير والاقتصار على الوحي المفهم، وكقوله تعالى وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإن حقيقته: نخرج منه النهار إلا أن موضع البلاغة [ ص: 260 ] هاهنا في السلخ أنه إخراج الشيء مما لابسه وعسر انتزاعه منه لالتحامه به، وذلك قياس الليل ومثاله، وكقوله عز وجل عذاب يوم عقيم أي: يوم لا يعقب للمعذبين غدا ولا ينتج لهم خيرا، قال: وقد استحسن الناس في الإيجاز قولهم: القتل أنفى للقتل.

وبينه وبين قول الله سبحانه ولكم في القصاص حياة تفاوت في البلاغة والإيجاز.

وبيان ذلك أن في هذا الكلام كل ما في قولهم القتل أنفى للقتل، وزيادة معان ليست فيه منها: الإبانة عن الفداء لذكر القصاص، ومنها الإبانة عن الغرض المرغوب فيه لذكر الحياة، ومنها بعده عن التكلف وسلامته من تكرار اللفظ الذي فيه على النفس مشقة وعلى السمع مؤونة قال الشيخ: وقوله: ولكم في القصاص حياة أوجز في العبارة فإنه عشرة أحرف، وقول من قال: القتل أنفى للقتل، أربعة عشر حرفا، قال: وإذا تأملت هذه المعاني من القرآن وتتبعتها منه كثر وجودك لها، وإنما ذكرنا هذا القدر ليكون مثالا مرشدا إلى نظائر منه، وأما إعجازه من جهة النظم فالمعجز منه نظم جنس الكلام الذي باين به القرآن سائر أصناف الكلام التي تكلمت بها العرب، فإن أجناس كلام العرب التي تكلمت بها خمسة:

1 - المنثور الذي تستعمله العرب في محاورة بعضهم بعضا

2 - والشعر الموزون

3 - والخطب

4 - والرسائل

5 - والسجع

[ ص: 261 ] وكل نوع منها نمطه غير نمط صاحبه، ونظم كلام القرآن مباين لهذه الوجوه الخمسة مباينة لا تخفى على من يسمعه من عربي فصيح أو ذي معرفة بلسان العرب من غيرهم حتى إذا سمعه لم يلبث أن يشهد بمخالفته لسائر هذه الأنواع من الكلام والحجة إنما قامت على قريش وسائر العرب بوقوفهم على ذلك من أمره، وأن هذا الفرق بينه وبين سائر الكلام هو موضع الحجة، وبذلك صار معجزا للخلق وقائما مقام الحجج التي بعث الله بها رسله واحتج بها على الناس مثل فلق البحر وإحياء الموتى ومنع النار من الإحراق ولذلك قال سبحانه وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله إلى أن قال تعالى فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة الآية.

وقال بعض العلماء: إن الذي أورده المصطفى صلى الله عليه وسلم على العرب من الكلام الذي أعجزهم عن الإتيان بمثله أعجب في الآية وأوضح في الدلالة من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص؛ لأنه أتى أهل البلاغة وأرباب الفصاحة ورؤساء البيان المتقدمين في اللسان بكلام مفهوم المعنى عندهم فكان عجزهم أعجب من عجز من شاهد المسيح من إحياء الموتى؛ لأنهم لم يكونوا يطمعون فيه ولا في إبراء الأكمه والأبرص ولا يتعاطون علمه، وقريش كانت تتعاطى الكلام الفصيح والبلاغة والخطابة فدل على أن العجز عنه إنما كان لأن يصير علما على رسالته وصحة نبوته وهذه حجة قاطعة وبرهان واضح.

فإن قيل: إن وجه ما يظهر به بينونة القرآن من سائر أنواع الكلام هو ما يقع من السجع في مقاطع الكلام ومنتهى الآيات نحو قوله والطور وكتاب مسطور وقوله: والنجم إذا هوى ما ضل صاحبكم وما غوى ، وقوله: والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها [ ص: 262 ] وما أشبه ذلك من سور القرآن، والسجع في كلام العرب كثير غير عديم ولا غريب فكيف جعلتم ذلك علما للإعجاز.

قيل: ليس شيء من هذا سجعا وإنما هي فواصل تفصل بين الكلامين بحروف متشاكلة في المقاطع تعين على حسن إفهام المعاني، والفواصل بلاغة والسجع عيب، وذلك أن الفواصل تابعة للمعاني وأما الأسجاع فالمعاني تابعة لها، والسجع تكلف وليس فيه أكثر من تأليف أواخر الكلم على نمط وهو مأخوذ من سجع الحمامة وهو موالاتها الصوت على نمط لا يختلف، فمن شبه الفواصل التابعة لمعاني الكلام المفيدة حسن الإفهام بالسجع الخالي عن المعنى المتتبع له المتكلف على سبيل الاستكراه فقد ذهب عن الصواب وأخطأ مذهب القياس، وأما من ذهب إلى أن إعجازه لما فيه من الأخبار الصادقة عن الأمور الكائنة فوجهه بين وشواهده كثيرة كقوله سبحانه الم غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون فكان الأمر كما نطق به القرآن فظهرت فارس على الروم فاغتم به المسلمون وسر به المشركون فوعد الله المسلمين بظهور الروم على فارس في بضع سنين فظهروا عليها لتسع سنين وقيل: لسبع، وفرح المؤمنون بنصر الله أهل الكتاب وقال عز وجل في قصة بدر وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم وتودون أن غير ذات الشوكة تكون لكم ويريد الله أن يحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين فكان الأمر كما وعد من الظفر بإحدى الطائفتين دون الأخرى، وهو أنه ظفر بالمشركين الذين خرجوا من مكة ببدر، وانفلت أبو سفيان بن حرب بالعير.

.

التالي السابق


الخدمات العلمية