صفحة جزء
1546 - ( 8 ) - قوله : ومما عد من المحرمات الخط والشعر ، وإنما يتجه القول بتحريمهما ممن يقول : إنه كان يحسنهما ثم استدل لذلك بقوله تعالى : { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك }وبقوله : { وما علمناه الشعر وما ينبغي له }وفي الاستدلال بالآية الأولى على ذلك نظر ، واستدل غيره بحديث ابن عمر المخرج في الصحيح بلفظ : { إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب }.

- الحديث - وقال البغوي في التهذيب : قيل : كان يحسن الخط ولا يكتب ، ويحسن الشعر ولا يقوله ، والأصح أنه كان لا يحسنهما ، ولكن كان يميز بين جيد الشعر ورديئه . انتهى .

وادعى بعضهم أنه صار يعلم الكتابة بعد أن كان لا يعلمها ، وأن عدم معرفته [ ص: 269 ] كان بسبب المعجزة لقوله تعالى: { وما كنت تتلو من قبله من كتاب ولا تخطه بيمينك إذا لارتاب المبطلون }فلما نزل القرآن ، واشتهر الإسلام ، وكثر المسلمون ، وظهرت المعجزة ، وأمن الارتياب في ذلك ، عرف حينئذ الكتابة ، وقد روى ابن أبي شيبة وغيره من طريق مجالد ، عن عون بن عبد الله ، عن أبيه قال : " ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى كتب وقرأ " . قال مجالد : فذكرت ذلك للشعبي فقال : صدق ، قد سمعت أقواما يذكرون ذلك . انتهى قال : وليس في الآية ما ينافي ذلك .

وروى ابن ماجه وغيره عن أنس قال : { قال رسول الله صلى الله عليه وسلم رأيت ليلة أسري بي على باب الجنة مكتوبا : الصدقة بعشر أمثالها ، والقرض بثمانية عشر }.

قال : والقدرة على قراءة المكتوب فرع معرفة الكتابة ، وأجيب باحتمال أقدار الله له على ذلك بغير تقدمة معرفة الكتابة ، وهو أبلغ في المعجزة ، وباحتمال أن يكون حذف منه شيء ، والتقدير فسألت عن المكتوب فقيل لي : هو كذا ، ومن حديث محمد بن المهاجر ، عن يونس بن ميسرة ، عن أبي كبشة السلولي ، عن سهل بن الحنظلية { أن النبي صلى الله عليه وسلم لما أمر معاوية أن يكتب للأقرع بن حابس ، وعيينة بن حصن ، قال عيينة : أتراني أذهب إلى قومي بصحيفة كصحيفة الملتمس ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الصحيفة فنظر فيها ، فقال : قد كتب لك بما أمر فيها }. قال يونس بن ميسرة أحد رواته : فيرى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب بعد ما أنزل عليه . ومن الحجة في ذلك ظاهر ما أخرجه البخاري في قصة صلح الحديبية من حديث البراء : { فأخذ الكتاب فكتب : هذا ما قاضى عليه محمد بن عبد الله } - الحديث - وكذا أخرجه الإسماعيلي في مستخرجه .

وقال أبو الخطاب بن دحية : صار بعض الناس إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 270 ] كتب ، منهم أبو ذر الهروي ، وأبو الفتح النيسابوري ، وأبو الوليد الباجي ، وصنف فيه كتابا ، قال : وسبق إلى ذلك عمر بن شبة في كتاب الكتاب له ، فإنه قال فيه : { كتب النبي صلى الله عليه وسلم بيده يوم الحديبية }.

وقال أبو بكر بن العربي في سراجه : لما قال أبو الوليد ذلك طعنوا عليه ورموه بالزندقة ، وكان الأمير متثبتا فأحضرهم للمناظرة ، فاستظهر الباجي ببعض الحجة ، وطعن على من خالفه ، ونسبهم إلى عدم معرفة الأصول ، وقال : اكتب إلى العلماء بالآفاق فكتب إلى إفريقية ، وصقلية وغيرهما ، فجاءت الأجوبة بموافقة الباجي ، ومحصل ما تواردوا عليه أن معرفته الكتابة بعد أميته لا ينافي المعجزة ، بل تكون معجزة أخرى ، لأنهم بعد أن تحققوا أميته وعرفوا معجزته بذلك ، وعليه تنزل الآية السابقة ، صار بعد ذلك يعلم الكتابة بغير تقدم تعليم ، فكانت معجزة أخرى ، وعليه ينزل حديث البراء . انتهى .

وقد رد أبو محمد بن معور على أبي الوليد الباجي ، وبين خطأه في هذه المسألة في تصنيف مفرد ، ووقع لأبي محمد الهواري معه قصة في منام رآه ، ملخصه : أنه كان يرى مما قال الباجي ، فرأى في النوم قبر النبي صلى الله عليه وسلم ينشق ويميد ولا يستقر ، فاندهش لذلك ، وقال في نفسه : لعل هذا بسبب اعتقادي ، ثم عقدت التوبة مع نفسي فسكن واستقر ، فلما استيقظ قص الرؤيا على ابن معور فعبرها له كذلك ، واستظهر بقوله تعالى : { تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا }الآيات ، ومحصل ما أجاب به الباجي عن ظاهر حديث البراء أن القصة واحدة ، والكاتب فيها كان علي بن أبي طالب ، وقد وقع في رواية أخرى للبخاري من حديث البراء أيضا بلفظ : { لما صالح النبي صلى الله عليه وسلم أهل الحديبية ، كتب علي بينهم كتابا ، فكتب : محمد رسول الله }.

فتحمل الرواية الأولى على أن معنى قوله : فكتب ، أي فأمر الكاتب ، ويدل عليه رواية المسور في الصحيح أيضا في هذه القصة ، ففيها : { والله وإني لرسول الله وإن كذبتموني ، اكتب : محمد بن عبد الله }.

وقد ورد في كثير من الأحاديث في [ ص: 271 ] الصحيح وغيره إطلاق لفظ كتب بمعنى أمر .

منها : حديث ابن عباس أن { النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى قيصر }.

وحديثه : { كتب إلى النجاشي }.

وحديثه : { كتب إلى كسرى }.

وحديث عبد الله بن عكيم كتب إلينا رسول الله .

وغير هذه الأحاديث كلها محمولة على أنه أمر الكاتب ، ويشعر بذلك هنا قوله في بعض طرقه لما { امتنع الكاتب أن يمحو لفظ محمد رسول الله قال له النبي صلى الله عليه وسلم : أرني فمحاه }.

فإن ظاهره أنه لو كان يعرف الكتابة لما احتاج إلى قوله : { أرني }فكأنه أراه الموضع الذي أبى أن يمحوه ، فمحاه هو صلى الله عليه وسلم بيده ، ثم ناوله لعلي فكتب بأمره : ابن عبد الله ، بدل : رسول الله ، وأجاب بعضهم على تقدير حمله على ظاهره ، أنه كتب ذلك اليوم غير عالم بالكتابة ، ولا بتمييز حروفها ، لكنه أخذ القلم بيده فخط به ، فإذا هو كتابة ظاهرة على حسب المراد ، وذهب إلى هذا القاضي أبو جعفر السمناني ، وأجاب بعضهم بأنه ليس في ظاهر الحديث إلا أنه كتب محمد بن عبد الله ، وهذا لا يمتنع أن يكتبه الأمي كما يكتب الملوك علامتهم وهم أميون .

1547 - ( 9 ) - [ فصل ] وأما الشعر فكان نظمه محرما عليه باتفاق ، لكن فرق البيهقي وغيره بين الرجز وغيره من البحور ، فقال : يجوز له الرجز دون غيره ، وفيه نظر ، فإن الأكثر على أن الرجز ضرب من الشعر ، وإنما ادعى أنه ليس بشعر الأخفش ، وأنكره ابن القطان وغيره ، وإنما جرى البيهقي لذلك ثبوت قوله صلى الله عليه وسلم يوم حنين : { أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب }.

فإنه من بحور الرجز ، ولا جائز أن يكون مما تمثل به كما سيأتي لأن غيره : لا يقول : أنا النبي ، ويزيل عنه الإشكال أحد أمرين : إما أنه لم يقصد الشعر فخرج موزونا ، وقد ادعى ابن القطان وأقره النووي الإجماع على أن شرط تسمية الكلام شعرا أن يقصد له قائله ، وعلى ذلك يحمل ما ورد في القرآن والسنة ، وإما أن يكون القائل الأول قال : أنت النبي لا كذب ، فلما تمثل به النبي صلى الله عليه وسلم غيره ، والأول أولى هذا كله في إنشائه ، ويتأيد ما ذهب إليه البيهقي بما أخرجه ابن سعد بسند صحيح ، عن معمر ، عن الزهري ; قال : لم يقل النبي صلى الله عليه وسلم شيئا من الشعر قيل قبله ، أو يروى عن غيره ، إلا هذا ، وهذا يعارض ما في الصحيح عن الزهري [ ص: 272 ] أيضا : لم يبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذه الأبيات ، زاد ابن عائذ من وجه آخر عن الزهري إلا الأبيات التي كان يرتجز بهن وهو ينقل اللبن لبناء المسجد ، وأما إنشاده متمثلا فجائز ، ويدل عليه حديث عبد الله بن عمرو ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { ما أبالي شربت ترياقا ، أو تعلقت بتميمة ، أو قلت الشعر من قبل نفسي }أخرجه أبو داود وغيره ، فقوله : { من قبل نفسي }احتراز عما إذا أنشده متمثلا ، وقد وقع في الأحاديث الصحيحة من ذلك ، كقوله : أصدق كلمة قالها الشاعر قول لبيد ،

ألا كل شيء ما خلا الله باطل

متفق عليه من حديث أبي هريرة ، وحديث عائشة : { كان النبي صلى الله عليه وسلم يتمثل بشعر ابن رواحة }.

وحديثها : { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا استراب الخبر يتمثل بقول طرفة : ويأتيك بالأخبار من لم تزود }. صححه الترمذي ، وأخرجه البزار من حديث ابن عباس أيضا ، وأما ما أخرجه ابن أبي حاتم وغيره من مرسل الحسن البصري ، { أنه صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت :

كفى بالإسلام والشيب ناهيا

، فقال له أبو بكر : كفى الشيب والإسلام للمرء ناهيا ، فأعادها كالأول ، فقال : أشهد أنك رسول الله ، وما علمناه الشعر وما ينبغي له
}. فهو مع إرساله فيه ضعف ، وهو راويه عن الحسن : علي بن زيد بن جدعان ، وأما ما رواه البيهقي في الدلائل : { أنه صلى الله عليه وسلم قال للعباس بن مرداس : أنت القائل :

أتجعل نهبي ونهب العبيد بين الأقرع وعيينة

، فقال : [ ص: 273 ] إنما هو بين عيينة والأقرع ، فقال : هما سواء
}.

فإن السهيلي قال في الروض : إنه صلى الله عليه وسلم قدم الأقرع ، على عيينة ، لأن عيينة وقع له أنه ارتد ولم يقع ذلك للأقرع .

وروى الحاكم والبيهقي والخطيب من طريق عبد الله بن مالك النحوي مؤدب القاسم بن عبيد الله ، عن علي بن عمرو الأنصاري ، عن ابن عيينة ، عن الزهري ، عن عروة ، عن عائشة قالت : { ما جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيت شعر قط إلا بيتا واحدا :

تفاءل بما تهوى يكن     فلقل ما يقال لشيء كان إلا تحقق

قالت عائشة : لم يقل تحققا ، لئلا يعربه فيصير شعرا
} ، قال البيهقي : لم أكتب إلا بهذا الإسناد ، وفيه من يجهل حاله ، وقال الخطيب : غريب جدا .

والله أعلم .

التالي السابق


الخدمات العلمية