معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

صفحة جزء
فصل في تعريف العبادة وذكر بعض أنواعها وأن من صرف منها شيئا لغير الله فقد أشرك

قد عرفت مما قدمنا في معنى لا إله إلا الله أن الإله هو المألوه الذي تألهه القلوب أي تعبده محبة وتذللا وخوفا ورجاء ورغبا ورهبا وتوكلا عليه واطراحا بين يديه واستعانة به والتجاء إليه وافتقارا إليه ، وذلك لا ينبغي إلا لله عز وجل خالق كل شيء ومصوره ومصرفه ومدبره مبدى الخلق ومعيده ، ومحييه ومبيده ، الفعال لما يريد الذي هو على كل شيء شهيد ، الذي لا ملجأ ولا منجا منه إلا إليه ، ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ( وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله ) ( ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده ) [ ص: 435 ] ( ياأيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد وما ذلك على الله بعزيز ) . والعبد إن أريد به المعبد أي المذلل المسخر دخل فيه جميع المخلوقات من جميع العالم العلوي والسفلي من عاقل وغيره ومن رطب ويابس ومتحرك وساكن وظاهر وكامن ومؤمن وكافر وبر وفاجر وغير ذلك ، الكل مخلوق لله عز وجل مسخر بتسخيره مدبر بتدبيره ، ولكل منها رسم يقف عليه وحد ينتهي إليه ، ( لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار ) ( يس : 40 ) كل يجري لأجل مسمى لا يتجاوزه مثقال ذرة ، ذلك تقدير العليم ، وتدبير العدل الحكيم . وإن أريد به العابد خص ذلك بالمؤمنين وإن كان أكثر المشركين يعبدون الله عز وجل ويتقربون إليه بكثير من العبادات ، لكن لما عبدوا مع الله غيره وأشركوه معه في إلهيته كانت أعمالهم هباء منثورا ( كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء ) ( إبراهيم : 18 ) ، و ( كمثل صفوان عليه تراب فأصابه وابل فتركه صلدا ) ( البقرة : 264 ) ، و ( كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ) ( النور : 39 ) ، ( أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورا فما له من نور ) ( النور : 40 ) .

ذلك بأنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله و ( اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم ) ( محمد : 28 ) ، وتولوا الطاغوت فأخرجوهم من النور إلى الظلمات وعبدوا الشيطان وقد عهد الله إليهم أن لا يعبدوه وبين لهم عداوته وقال : ( إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير ) ( فاطر : 6 ) وقال : ( أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو بئس للظالمين بدلا ) ( الكهف : 50 ) فخالفوا أمر الله وتولوا أعداءه وكذبوا رسله وأنبياءه وحاربوا حزبه وأولياءه . وأرادوا تشييد الكفر وإعلاءه ورد الحق وإباءه . فأبى الله عز وجل إلا أن يتم نوره ويظهر دينه ويعلي كلمته وينصر أولياءه ويحق الحق بكلماته ويقطع دابر الكافرين ، ويجعل حزبه هم الغالبين ويجعل [ ص: 436 ] العاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين .

لكن المؤمنون هم عباده حقا الذين أفردوه بإلهيته وربوبيته وأسمائه وصفاته ولم يشبهوه بشيء من خلقه ، ولم يسووا من خلقه به ، أولئك الذين تضاعف لهم الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة ، كما قال تعالى في الأولى : ( من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ) ( الأنعام : 160 ) وقال في الثانية : ( مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم ) ( البقرة : 261 ) وقال في الثالثة : ( من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون ) ( البقرة : 245 ) تولوا الله فأخرجهم من الظلمات إلى النور ; أخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، ومن ظلمات الضلال إلى نور الهدى ، ومن ظلمات الجهل إلى نور العلم ، ومن ظلمات الغي إلى نور الرشاد ، ( ومن يتول الله ورسوله والذين آمنوا فإن حزب الله هم الغالبون ) ( المائدة : 56 ) ملأ الله قلوبهم بنور معرفته ومحبته والشوق إلى لقائه فلم ، تتسع لغيره . دنا الشيطان من قلوبهم فاحترق بنور إيمانهم ، فنكص على عقبه خاسئا حسيرا وأيس منهم أن يطيعوه ، فانقلب مذموما مدحورا . فعند ذلك عزى نفسه اللعين وقال : ( إلا عبادك منهم المخلصين ) ( الحجر : 40 ) وقال عز وجل : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان ) ( الحجر : 42 ) حفظوا الله فحفظهم ، وصدقوا ما عاهدوا الله عليه فلم ينكثوا أيمانهم ، تعرفوا إلى الله في الرخاء بالعبادة فعرفهم في الشدة بالفرج ، وصدقوا رسله وآمنوا بكتابه وانقادوا لأمره ، وانكفوا عما نهى عنه ثم تجردوا لنصرة دينه وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيله ، ودخل الناس بذلك في دين الله أفواجا طوعا وكرها ، وقادوهم إلى الجنة بالسلاسل . نصروا الله فنصرهم وشكروه فشكرهم وذكروه فذكرهم . عرفوا ما خلقوا له فأقبلوا عليه ورأوا ما سواه مما لا يعنيهم ، فلم يلتفتوا إليه وآثروا ما يبقى على ما يفنى وتعلقت أرواحهم بالرفيق الأعلى ، أولئك هم خاصة الله من خلقه والمصطفون من عباده ، أولئك هم أولياؤه المتقون وحزبه الغالبون الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، ليوفيهم [ ص: 437 ] أجورهم ويزيدهم من فضله إنه غفور شكور .

التالي السابق


الخدمات العلمية