معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

صفحة جزء
المبحث الثالث وهو عقوبة الساحر شرعا ووعيدا .

( وحده ) أي حد الساحر ( القتل ) ضربه بالسيف ( بلا نكير ) بل هو ثابت بالكتاب من عموم النصوص في الكفار المرتدين وغيرهم ، كما أتى ثابتا ( في السنة المصرحة ) الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم ( مما رواه الترمذي ) محمد بن عيسى بن سورة بمهملتين ابن موسى بن الضحاك السلمي أبو عيسى الترمذي الحافظ الضرير أحد الأعلام وصاحب الجامع والتفسير عن خلق مذكورين في تراجمهم [ ص: 555 ] من جامعه وغيره ، وعنه محمد بن إسماعيل السمرقندي وحماد بن شكر وأبو العباس محمد بن أحمد المحبوبي راوي الجامع والهيثم بن كليب ، وخلق من أهل سمرقند ونسف وتلك الديار ، وقال ابن حبان : كان ممن جمع وصنف . قال أبو العباس المستغفري : مات سنة تسع وسبعين ومائتين ، مرفوعا ( وصححه ) موقوفا عن ( جندب ) هو ابن عبد الله بن سفيان البجلي العلقمي أو العلقي ، له ثلاثة وأربعون حديثا اتفقا على سبعة وانفرد مسلم بخمسة . روى عنه الحسن وابن سيرين وأبو مجلز ، مات بعد الستين ، وقال رحمه الله تعالى : ( باب ما جاء في حد الساحر ، حدثنا أحمد بن منيع حدثنا أبو معاوية حدثنا عن إسماعيل بن مسلم عن الحسن عن جندب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : حد الساحر ضربه بالسيف " . هذا حديث لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه ، وإسماعيل بن مسلم المكي يضعف في الحديث من قبل حفظه وإسماعيل بن مسلم العبدي البصري قال وكيع : هو ثقة ويروى عن الحسن أيضا والصحيح عن جندب موقوفا والعمل على هذا الحديث عند بعض أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم وهو قول مالك بن أنس ، وقال الشافعي : إنما يقتل الساحر إذا كان يعمل من سحره ما يبلغ الكفر ، فإذا عمل عملا دون الكفر فلم ير عليه قتلا .

ويعني بقوله ما يبلغ الكفر ; أي ما كان فيه اعتقاد التصرف لغير الله وصرف العبادة له كما يفعله عباد هياكل النجوم من أهل بابل وغيرهم والله أعلم . ( وهكذا في أثر . أمر بقتلهم ) يعني السحرة ، ( روي عن عمر ) ابن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى العدوي أبي حفص المدني أحد فقهاء الصحابة ، ثاني الخلفاء الراشدين وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة ، وأول من سمي أمير المؤمنين ، له خمسمائة وتسعة وثلاثون حديثا ، اتفقا على عشرة وانفرد البخاري في تسعة ومسلم بخمسة عشر ، وعنه أبناؤه عبد الله وعاصم وعبيد الله وعلقمة بن أبي وقاص وغيرهم ، شهد بدرا والمشاهد والمواقف ، وولي أمر الخلافة بعد أبي بكر رضي الله عنهما ، وفتح في أيامه عدة أمصار ، أسلم بعد أربعين [ ص: 556 ] رجلا ، عن ابن عمر رضي الله عنه مرفوعا : " إن الله تعالى جعل الحق على لسان عمر وقلبه " . ولما دفن قال ابن مسعود رضي الله عنه : ذهب اليوم بتسعة أعشار العلم . استشهد في آخر سنة ثلاث وعشرين ودفن في أول سنة أربع وعشرين في الحجرة النبوية وهو ابن ثلاث وستين ، وصلى عليه صهيب ، ومناقبه جمة قد أفردت في مجلدات . وهذا الأثر المشار إليه في الباب هو ما رواه الإمامان الجليلان أحمد بن حنبل الشيباني ومحمد بن إدريس الشافعي رحمهما الله تعالى قالا : أخبرنا سفيان هو ابن عيينة عن عمرو بن دينار أنه سمع بجالة بن عبدة يقول : كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن اقتلوا كل ساحر وساحرة . قال : فقتلنا ثلاث سواحر .

( وصح ) نقلا ( عن حفصة ) بنت عمر بن الخطاب العدوية أم المؤمنين رضي الله عنها ( عند مالك ) بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي أبي عبد الله المدني أحد الأعلام في الإسلام وإمام دار الهجرة ، ولد سنة ثلاث وتسعين ، وحمل به ثلاث سنين ، وتوفي سنة تسع وسبعين ومائة ودفن بالبقيع رحمه الله تعالى ورضي عنه . ( ما ) ; أي الذي ( فيه أقوى ) دليل ( مرشد للسالك ) وهو ما رواه في موطإه في " باب ما جاء في الغيلة والسحر من كتاب العقول : عن محمد بن عبد الرحمن بن سعد بن زرارة أنه بلغه أن حفصة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قتلت جارية لها سحرتها ، وقد كانت دبرتها فأمرت بها فقتلت ، قال مالك : الساحر الذي يعمل السحر ولم يعمل ذلك له غيره ، هو مثل الذي قال الله تعالى في كتابه : ( ولقد علموا لمن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق ) فأرى أن يقتل ذلك إذا عمل ذلك هو نفسه . ا هـ .

قال ابن كثير رحمه الله [ ص: 557 ] تعالى : وقد روي من طرق متعددة أن الوليد بن عقبة كان عنده ساحر يلعب بين يديه ، فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به فيرد إليه رأسه ، فقال الناس : سبحان الله يحيي الموتى ! ورآه رجل من صالح المهاجرين ، فلما كان الغد جاء مشتملا على سيفه وذهب يلعب لعبه ذلك ، فاخترط الرجل سيفه فضرب عنق الساحر وقال : إن كان صادقا فليحي نفسه ، وتلا قوله تعالى : ( أفتأتون السحر وأنتم تبصرون ) ( الأنبياء : 3 ) فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك فسجنه ، ثم أطلقه والله أعلم . وقال الإمام أبو بكر الخلال : أخبرنا عبد الله بن أحمد بن حنبل حدثني أبي أخبرنا يحيى بن سعيد حدثني أبو إسحاق عن حارثة قال : كان عند بعض الأمراء رجل يلعب ، فجاء جندب مشتملا على سيفه فقتله ، قال : آراه كان ساحرا . وحمل الشافعي رحمه الله تعالى قصة عمر وحفصة على سحر يكون شركا ، والله أعلم .

وقال ابن كثير رحمه الله تعالى : فصل . وقد ذكر الوزير أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة رحمه الله تعالى فيمن يتعلم السحر ويستعمله فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد : يكفر بذلك ، ومن أصحاب أبي حنيفة من قال : إن تعلمه ليتقيه أو ليتجنبه فلا يكفر ، ومن تعلمه معتقدا جوازه أو أنه ينفعه كفر ، وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر ، وقال الشافعي رحمه الله تعالى : إذا تعلم [ ص: 558 ] السحر قلنا له : صف لنا سحرك ، فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر . وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر . قال ابن هبيرة : وهل يقتل بمجرد فعله واستعماله ؟ قال مالك وأحمد : نعم . وقال الشافعي وأبو حنيفة : لا . فأما إن قتل بسحره إنسانا فإنه يقتل عند مالك والشافعي وأحمد ، وقال أبو حنيفة : لا يقتل حتى يتكرر منه ذلك أو يقر بذلك في حق شخص معين ، وإذا فإنه يقتل حدا عندهم ، إلا الشافعي فإنه قال : يقتل والحالة هذه قصاصا . قال : وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته ؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنه : لا تقبل . وقال الشافعي وأحمد في الرواية : تقبل . وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنه يقتل كما يقتل الساحر إذا كان مسلما ، وقال مالك وأحمد والشافعي : لا يقتل ، يعفى لقصة لبيد بن الأعصم . واختلفوا في المسلمة الساحرة فعند أبي حنيفة أنها لا تقتل ولكن تحبس ، وقال الثلاثة حكمها حكم الرجل ، والله أعلم .

وقال أبو بكر الخلال : أخبرنا أبو بكر المروزي قال : قرأ على أبي عبد الله ; يعني أحمد بن حنبل : عمر بن هارون أخبرنا يونس عن الزهري قال : يقتل ساحر المسلمين ولا يقتل ساحر المشركين ; لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحرته امرأة من اليهود فلم يقتلها . وقد نقل القرطبي عن مالك رحمه الله تعالى أنه قال في الذمي : يقتل إن قتل سحره . وحكى ابن خويز منداد عن مالك روايتين في الذمي إذا سحر أحدا . الأولى : أنه يستتاب ، فإن أسلم وإلا قتل . والثانية : أنه يقتل وإن أسلم . وأما الساحر المسلم فإن تضمن سحره كفرا كفر عند الأئمة الأربعة وغيرهم لقوله تعالى : ( وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه ) لكن قال مالك : إذا ظهر عليه لم تقبل توبته ; لأنه كالزنديق ، فإن تاب قبل أن يظهر عليه وجاءنا تائبا قبلناه ، فإن [ ص: 559 ] قتل بسحره قتل . قال الشافعي : فإن قال لم أتعمد القتل فهو مخطئ عليه الدية .

التالي السابق


الخدمات العلمية