معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

صفحة جزء
[ ص: 920 ] فصل : الإيمان بالقدر على أربع مراتب .

واعلم رحمك الله تعالى ووفقنا وإياك لما يحبه ويرضاه ، وهداناه وإياك صراطه المستقيم أن الإيمان بالقدر على أربع مراتب :

المرتبة الأولى : الإيمان بعلم الله - عز وجل - المحيط بكل شيء من الموجودات والمعدومات والممكنات والمستحيلات ، فعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون ، وأنه علم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم ، وعلم أرزاقهم وآجالهم وأحوالهم وأعمالهم في جميع حركاتهم وسكناتهم وشقاوتهم وسعادتهم ، ومن هو منهم من أهل الجنة ، ومن هو منهم من أهل النار من قبل أن يخلقهم ، ومن قبل أن يخلق الجنة والنار ، علم دق ذلك وجليله ، وكثيره وقليله ، وظاهره وباطنه ، وسره وعلانيته ، ومبدأه ومنتهاه ، كل ذلك بعلمه الذي هو صفته ، ومقتضى اسمه العليم الخبير عالم الغيب والشهادة علام الغيوب ، كما قال تعالى : ( هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة ) ، ( الحشر 22 ) ، وقال تعالى : ( لتعلموا أن الله على كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما ) ، ( الطلاق 12 ) ، وقال تعالى : ( وأحاط بما لديهم وأحصى كل شيء عددا ) ، ( الجن 28 ) وقال تعالى : ( عالم الغيب لا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ) ، ( سبأ 3 ) ، وقال تعالى : ( إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ) ، ( النجم 30 ) ، وقال تعالى : ( أليس الله بأعلم بالشاكرين ) ( أوليس الله بأعلم بما في صدور العالمين ) ، ( العنكبوت 10 ) ، وقال تعالى : ( وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة قالوا أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك قال إني أعلم ما لا تعلمون ) ، ( البقرة 30 ) الآيات ، وقال تعالى : [ ص: 921 ] ( وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئا وهو شر لكم والله يعلم وأنتم لا تعلمون ) ، ( البقرة 216 ) .

وقال البخاري - رحمه الله تعالى : باب : الله أعلم بما كانوا عاملين ، حدثنا محمد بن بشار ، حدثنا غندر ، حدثنا شعبة ، عن أبي بشر ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن أولاد المشركين فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين .

حدثنا يحيى بن بكير ، حدثنا الليث ، عن يونس ، عن ابن شهاب قال : وأخبرني عطاء بن يزيد أنه سمع أبا هريرة يقول : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذراري المشركين فقال : الله أعلم بما كانوا عاملين .

حدثني إسحاق أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر عن همام عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما من مولود إلا يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه كما تنتجون البهيمة هل تجدون فيها من جدعاء حتى تكونوا أنتم تجدعونها . قالوا يا رسول الله أفرأيت من يموت وهو صغير ؟ قال الله أعلم بما كانوا عاملين

وقال أيضا - رحمه الله تعالى : حدثنا آدم ، حدثنا شعبة ، حدثنا يزيد الرشك قال : سمعت مطرف بن عبد الله بن الشخير يحدث عن عمران بن حصين قال " قال رجل : يا رسول الله أيعرف أهل الجنة من أهل النار ؟ قال نعم . قال فلم يعمل [ ص: 922 ] " العاملون ؟ قال : كل يعمل لما خلق له " أو لما يسر له .

وقال - رحمه الله - أيضا : حدثنا سعيد بن أبي مريم ، حدثنا أبو غسان ، حدثني أبو حازم عن سهل بن سعد أن رجلا من أعظم المسلمين غناء عن المسلمين في غزوة غزاها مع النبي - صلى الله عليه وسلم - فنظر إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : " من أحب أن ينظر إلى الرجل من أهل النار فلينظر إلى هذا " . فاتبعه رجل من القوم وهو على تلك الحال من أشد الناس على المشركين حتى جرح فاستعجل الموت فجعل ذبابة سيفه بين ثدييه حتى خرج من بين كتفيه . فأقبل الرجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - مسرعا فقال : أشهد أنك رسول الله . فقال : وما ذاك ؟ قال : قلت لفلان : " من أحب أن ينظر إلى رجل من أهل النار فلينظر إليه " وكان من أعظمنا غناء عن المسلمين، فعرفت أنه لا يموت على ذلك . فلما جرح استعجل الموت فقتل نفسه . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ذلك : " إن العبد ليعمل عمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، ويعمل عمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنما الأعمال بالخواتيم " .

وقال مسلم - رحمه الله تعالى : حدثنا عبد الله بن مسلمة بن قعنب ، حدثنا معتمر بن سليمان ، عن أبيه عن رقبة بن مسقلة عن أبي إسحاق عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن أبي بن كعب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إن الغلام الذي قتله الخضر طبع كافرا، ولو عاش لأرهق أبويه طغيانا وكفرا " .

حدثني زهير بن حرب ، حدثنا جرير ، عن العلاء بن المسيب ، عن فضيل بن عمرو ، عن عائشة بنت طلحة ، عن عائشة أم المؤمنين قالت : توفي صبي ، فقلت : طوبى له ، عصفور من عصافير الجنة . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : أولا تدرين أن الله تعالى خلق [ ص: 923 ] الجنة وخلق النار ، فخلق لهذه أهلا ولهذه أهلا .

حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، حدثنا وكيع ، عن طلحة بن يحيى ، عن عمته عائشة بنت طلحة ، عن عائشة أم المؤمنين قالت : دعي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى جنازة صبي من الأنصار ، فقلت : يا رسول الله ، طوبى له عصفور من عصافير الجنة ، لم يعمل السوء ولم يدركه . قال : أو غير ذلك يا عائشة ، إن الله خلق للجنة أهلا ، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق للنار أهلا ، خلقهم لها وهم في أصلاب آبائهم .

وقال - رحمه الله تعالى : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا عبد العزيز - يعني : ابن محمد ، عن العلاء ، عن أبيه ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ، ثم يختم له عمله بعمل أهل النار ، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار ، ثم يختم له عمله بعمل أهل الجنة .

قلت وهذا الحديث وما في معناه تفسيره عند أهل العلم والسنة على حديث سهل بن سعد عند مسلم - رحمه الله تعالى - قال : حدثنا قتيبة بن سعيد ، حدثنا يعقوب - يعني : ابن عبد الرحمن القاري ، عن أبي حازم ، عن سهل بن سعد الساعدي : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ، وهو من أهل النار ، وإن الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس ، وهو من أهل الجنة " . الحديث يفسر الأول أن عمل المختوم له بالشقاوة إذا ظهر صلاحه ، إنما هو فيما يبدو للناس .

وقال - رحمه الله تعالى : حدثنا إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ، حدثنا عثمان بن عمر ، حدثنا عزرة بن ثابت عن يحيى بن عقيل عن يحيى بن يعمر عن أبي الأسود الديلي قال : قال لي عمران بن الحصين أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون [ ص: 924 ] فيه، أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر ما سبق ؟ أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم وثبتت الحجة عليهم ؟ فقلت : بل شيء قضي عليهم ومضى عليهم، قال : فقال أفلا يكون ظلما ؟ قال ففزعت من ذلك فزعا شديدا وقلت : كل شيء خلق الله وملك يده فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون، فقال لي : يرحمك الله إني لم أرد بما سألتك إلا لأحزر عقلك، إن رجلين من مزينة أتيا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالا يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس اليوم ويكدحون فيه أفي شيء قضي عليهم ومضى فيهم من قدر قد سبق أو فيما يستقبلون به مما أتاهم به نبيهم - صلى الله عليه وسلم - وثبتت الحجة عليهم ؟ فقال لا بل شيء قضي عليهم ومضى فيهم . وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها ) ، ( الشمس 8 ) .

وفيه عن علي - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذات يوم جالسا ، وفي يده عود ينكت به ، فرفع رأسه فقال : ما منكم من نفس منفوسة إلا وقد علم منزلها من الجنة والنار . قالوا : يا رسول الله ، فلم نعمل ، أفلا نتكل ؟ قال : اعملوا فكل ميسر لما خلق له ، ثم قرأ : ( فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى ) إلى قوله : ( فسنيسره للعسرى ) ، ( الليل 5 - 10 ) ، والآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة شهيرة ، يطول استقصاؤها ، وقد تقدم منها جملة في إثبات علم الله - عز وجل - من توحيد المعرفة والإثبات .

التالي السابق


الخدمات العلمية