معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

صفحة جزء
[ ص: 943 ] والمقصود أن الله - سبحانه - في جميع تصرفاته في عباده فاعل حقيقة ، والعبد منفعل حقيقة ، فمن أضاف الفعل والانفعال كلاهما إلى المخلوق كفر ، ومن أضافهما كلاهما إلى الله تعالى كفر ، ومن أضاف الفعل إلى الله تعالى حقيقة ، والانفعال إلى المخلوق حقيقة كما أضافها الله تعالى فهو المؤمن حقيقة .

فالأول قول القدرية النفاة ، وأول من أحدثه في هذه الأمة معبد الجهني في آخر عصر الصحابة كما قدمنا ، عن يحيى بن يعمر في سياق حديث جبريل السابق في سؤاله النبي - صلى الله عليه وسلم ، عن الدين ، وأنكر عليه ذلك بقية الصحابة وأئمة التابعين ، وتبرءوا من هذا الاعتقاد وكفروا منتحليه ونفوا عنه الإيمان ، وأوصى بعضهم بعضا بمجانبته والفرار من مجالسته ، ثم تقلد عنه ذلك المذهب الفاسد والسنة السيئة التي انتحلها هو ورءوس المعتزلة وأئمتهم المضلون كواصل بن عطاء الغزال وعمرو بن عبيد ، ومن في معناهم وعلى طريقتهم ، حتى بالغ بعضهم فأنكر علم الله تعالى وأنكر كتابة المقادير السابقة ، وجعل العباد هم الخالقين لأفعالهم ، ولهذا كانوا هم مجوس هذه الأمة ، فأما واصل بن عطاء فقال فيه أبو الفتح الأزدي : رجل سوء كافر ، قال الذهبي : كان من أجلاد المعتزلة ، ولد سنة ثمانين بالمدينة ، ومما قيل فيه :


ويجعل البر قمحا في تصرفه وخالف الراء حتى احتال للشعر     ولم يطق مطرا في القول يجعله
فعاذ بالغيث إشفاقا من المطر

.

وكان يتوقف في عدالة أهل الجمل ويقول : إحدى الطائفتين فسقت لا بعينها ، فلو شهدت عندي عائشة وعلي وطلحة على باقة بقل لم أحكم بشهادتهم . هلك سنة إحدى وثلاثين ومائة . وأما عمرو بن عبيد فهو ابن ثوبان [ ص: 944 ] ويقال ابن كيسان التيمي مولاهم أبو عثمان البصري من أبناء فارس ، قال ابن كثير : هو شيخ القدرية والمعتزلة ، روى الحديث عن الحسن البصري وعبيد الله بن أنس وأبي العالية وأبي قلابة ، وعنه الحمادان وسفيان بن عيينة والأعمش ، وكان من أقرانه وعبد الوارث بن سعيد وهارون بن موسى ويحيى القطان ويزيد بن زريع . قال الإمام أحمد : ليس بأهل أن يحدث عنه ، وقال علي بن المديني ويحيى بن معين : ليس بشيء . وزاد ابن معين : وكان رجل سوء ، وكان من الدهرية الذين يقولون إنما الناس مثل الزرع . وقال الفلاس : متروك صاحب بدعة ، كان يحيى القطان يحدثنا عنه ثم تركه ، وكان ابن مهدي لا يحدث عنه ، وقال أبو حاتم : متروك ، وقال النسائي : ليس بثقة ، وقال شعبة ، عن يونس بن عبيد : كان عمرو بن عبيد يكذب في الحديث . وقال حماد بن سلمة : قال لي حميد : لا تأخذ عنه ، فإنه كان يكذب على الحسن البصري . وكذا قال أيوب وعوف بن عون ، وقال أيوب : ما كنت أعد له عقلا ، وقال مطر الوراق : والله ، لا أصدقه في شيء ، وقال ابن المبارك : إنما تركوا حديثه ; لأنه كان يدعو إلى القدر ، وقد ضعفه غير واحد من أئمة الجرح والتعديل ، وأثنى عليه آخرون في عبادته وزهده وتقشفه ، قال الحسن البصري : هذا سيد شباب القراء ما لم يحدث ، قالوا : فأحدث والله أشد الحدث ، وقال ابن حبان : كان من أهل الورع والعبادة إلى أن أحدث ما أحدث ، واعتزل مجلس الحسن هو وجماعة معه ، فسموا المعتزلة ، وكان يشتم الصحابة ويكذب في الحديث وهما لا تعمدا ، وقد روي عنه أنه قال : إن كانت ( تبت يدا أبي لهب ) ، ( المسد 1 ) في اللوح ، فما تعد منه على ابن آدم حجة . وروي له حديث ابن مسعود ، حدثنا الصادق المصدوق : إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوما ، حتى قال : فيؤمر بأربع كلمات : رزقه ، وأجله ، وعمله ، وشقي ، أو سعيد . . . إلى آخره ، فقال : لو سمعت الأعمش يرويه لكذبته ، ولو سمعته من زيد بن وهب لما أحببته ، ولو سمعته من ابن مسعود لما قبلته ، ولو سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لرددته ، ولو سمعت الله يقول [ ص: 945 ] هذا لقلت : ما على هذا أخذت علينا الميثاق . وهذا من أقبح الكفر ، لعنه الله إن كان قال هذا ، وإذا كان مكذوبا عليه فعلى من كذبه عليه ما يستحقه . وقد قال عبد الله بن المبارك - رحمه الله تعالى :


أيها الطالب علما     ائت حماد بن زيد
فخذ العلم بحلم     ثم قيده بقيد
وذر البدعة من     آثار عمرو بن عبيد

.

وقال ابن عدي : كان عمرو يغر الناس بتقشفه ، وهو مذموم ضعيف الحديث جدا ، معلن بالبدع . وقال الدارقطني : ضعيف الحديث . وقال الخطيب البغدادي : جالس الحسن واشتهر بصحبته ، ثم أزاله واصل بن عطاء عن مذهب أهل السنة ، وقال بالقدر ودعا إليه ، واعتزل أصحاب الحديث رحمهم الله تعالى .

ثم توارث القدرية هذا المذهب الفاسد بعد هؤلاء وتواصوا به ، ثم منهم من نفى علم الله تعالى كأوليهم ، ففيهم من نفى علمه بالكليات والجزئيات ، ومنهم من أثبت العلم بالكليات دون الجزئيات ، ثم افترقوا في أفعال الله كما افترقوا في علمه :

ففرقة قالت : كل أفعال العباد ليست مقدورة لله ولا مخلوقة له ، لا خيرها ولا شرها .

والأخرى قالت : الخير من أفعالهم مخلوق له تعالى ومقدور له ، وأما الشر فليس عندهم مخلوقا لله ولا مقدورا له ، فأثبتوا نصف القدر ونفوا نصفه ، وأثبتوا خالقين ، فهم في الحقيقة مجوس ثنوية ، بل أعظم منهم ، فإن الثنوية أثبتوا خالقين للكون كله ، وهؤلاء أثبتوا خالقين لكل فرد من الأفراد ، ولكل فعل من الأفعال ، بل جعلوا المخلوقين كلهم خالقين ، ولولا تناقضهم ، لكانوا أكفر من المجوس ، فإن اطراد قولهم ولازمه وحاصله هو إخراج أفعال العباد عن خلق الله - عز وجل - وملكه ، وأنها ليست داخلة في ربوبيته - عز وجل ، وأنه يكون في ملكه ما [ ص: 946 ] لا يريد ويريد ما لا يكون ، وأنهم أغنياء عن الله - عز وجل - فلا يستعينون على طاعته ولا ترك معصيته ، ولا يعوذون به من شرور أنفسهم ولا سيئات أعمالهم ، ولا يستهدونه الصراط المستقيم ، فقول إياك نعبد وإياك نستعين ، وقول لا حول ولا قوة إلا بالله لا معنى له عندهم ، وربما استنكروه كما جحدوا قوله تعالى : ( من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ) ، ( الأنعام 39 ) هذا مع إنكارهم علم الله - عز وجل - وقدرته ومشيئته وإرادته ، وغير ذلك من صفاته - تبارك وتعالى - عما يقول الظالمون والجاحدون علوا كبيرا .

التالي السابق


الخدمات العلمية