معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

صفحة جزء
[ ص: 961 ] ذكر أقوال الصحابة في هذا الباب .

تقدم قول ابن عمر ليحيى بن يعمر ، وقول أبي بن كعب وعبد الله بن مسعود وحذيفة بن اليمان وزيد بن ثابت لابن الديلمي ، ووصية عبادة بن الصامت لابنه .

وروى عبد الله بن أحمد ، عن ابن عباس قال : أول ما خلق الله القلم ، ثم قال : اكتب . قال : ما أكتب ؟ قال : اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة . وله عنه فكتب فيما كتب ( تبت يدا أبي لهب ) ، ( المسد 1 ) . وله عنه قال : أخرج الله ذرية آدم من ظهره مثل الذر فسماهم ، قال هذا فلان وهذا فلان ، ثم قبض قبضتين فقال للتي في يمينه : ادخلوا الجنة . وقال للتي في يده الأخرى : ادخلوا النار ولا أبالي .

وله عنه قال : إن الرجل ليمشي في الأسواق ، وإن اسمه لفي الموتى . وله عنه ( يمحو الله ما يشاء ويثبت ) ، ( الرعد 39 ) قال : إلا الشقاوة والسعادة ، والحياة والموت .

وله عنه : إن أول ما خلق القلم ، فأمره أن يكتب ما يريده أن يخلق ، فالكتاب [ ص: 962 ] عنده ، ثم قرأ ( وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم ) ، ( الزخرف 4 ) .

وله عن عكرمة قال : سئل ابن عباس ، كيف تفقد سليمان الهدهد من بين الطير ؟ قال : إن سليمان نزل منزلا ، فلم يدر ما بعد الماء ، وكان الهدهد مهندسا ، قال : فأراد أن يسأله عن الماء ففقده . قلت : وكيف يكون مهندسا ، والصبي ينصب له الحبالة فيصيده ؟ قال : إذا جاء القدر حال دون البصر .

وله عن أبي الزبير أنه كان يطوف مع طاوس بالبيت ، فمر بمعبد الجهني ، فقال قائل لطاوس : هذا معبد الجهني الذي يقول في القدر ، فعدل إليه طاوس حتى وقف عليه ، فقال : أنت المفتري على الله ، القائل ما لا تعلم ؟ قال معبد : يكذب علي . قال أبو الزبير : فعدلت مع طاوس حتى دخلنا على ابن عباس ، فقال له طاوس : يا أبا عباس ، الذين يقولون في القدر ؟ فقال ابن عباس : أروني بعضهم . قال : قلنا صانع ماذا ؟ قال : إذن أجعل يدي في رأسه ، ثم أدق عنقه .

وله عنه قال : ليس قوم أبغض إلي من القدرية ، إنهم لا يعلمون قدرة الله ، إن الله تعالى قال : ( لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ) ، ( الأنبياء 23 ) .

وله عن طاوس قال : كنت مع ابن عباس في حلقة ، قال : فذكروا أهل القدر ، قال فقال : أفي الحلقة منهم أحد فآخذ برأسه ، ثم أقرأ عليه ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علوا كبيرا ) ، ( الإسراء 4 ) ، وأقرأ عليه آية كذا وآية كذا . وله عنه وذكر عنده القدرية ، قال فقال : لو رأيت أحدا منهم لعضضت أنفه .

[ ص: 963 ] وله عنه قال : الإيمان بالقدر نظام التوحيد ، فمن آمن وكذب بالقدر ، فهو نقض للتوحيد . وفي لفظ : فمن وحد وكذب بالقدر ، فقد نقض التوحيد .

وله عن أبي يحيى مولى ابن عفراء قال : أتيت ابن عباس ومعي رجلان من الذين يذكرون القدر أو ينكرونه ، فقلت : يا ابن عباس ، ما تقول في القدر لو أن هؤلاء أتوك يسألونك - وقال مرة - يسألونك عن القدر ، إن زنى وإن سرق أو شرب ؟ فحسر قميصه حتى أخرج منكبيه ، وقال : يا أبا يحيى ، لعلك من الذين ينكرون القدر ويكذبون به ، والله لو أعلم أنك منهم أو هذين معك لجاهدتهم ، إن زنى فبقدر ، وإن سرق فبقدر ، وإن شرب الخمر فبقدر .

وروى إسحاق بن الملائي عنه في قوله تعالى : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) ، ( الأعراف 172 ) قال : إن الله تعالى أخذ على آدم ميثاقه أنه ربه ، وكتب رزقه ، وأجله ومصيباته ، ثم أخرج من ظهره ولده كهيئة الذر ، فأخذ عليهم الميثاق أنه ربهم ، وكتب رزقهم وأجلهم ومصيباتهم .

وفي تفسير أسباط ، عن السدي ، عن أصحابه أبي مالك وأبي صالح ، عن ابن عباس ، وعن مرة الهمداني ، عن ابن مسعود ، وعن أناس من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - ورضي عنهم في قوله : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) ، ( الأعراف 172 ) الآية ، قال : لما أخرج الله آدم من الجنة قبل أن يهبط من السماء ، مسح صفحة ظهر آدم اليمنى ، فأخرج منه ذرية بيضاء مثل اللؤلؤ كهيئة الذر ، فقال [ ص: 964 ] لهم : ادخلوا الجنة برحمتي ، ومسح صفحة ظهره اليسرى ، فأخرج منه ذرية سوداء كهيئة الذر ، فقال : ادخلوا النار ولا أبالي . فذلك حين يقول أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، ثم أخذ منهم الميثاق فقال : ألست بربكم ؟ قالوا : بلى . فأعطاه طائفة طائعين وطائفة كارهين على وجه التقية ، فقال : هو والملائكة ( شهدنا أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين أو تقولوا إنما أشرك آباؤنا من قبل ) ، ( الأعراف 172 ) الآية ، فلذلك ليس أحد من ولد آدم إلا وهو يعرف أن الله ربه ، ولا مشرك إلا وهو يقول ( إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ) ، ( الزخرف 23 ) ، فذلك قوله - عز وجل : ( وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم ) ، ( الأعراف 172 ) ، وذلك حين يقول تعالى : ( وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها ) ، ( آل عمران 83 ) ، وذلك حين يقول : ( قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين ) ، ( الأنعام 149 ) قال : يعني يوم الميثاق . وعن مقسم ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما ( إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ) ، ( الجاثية 29 ) قال : تستنسخ الحفظة من أم الكتاب ما يعمل بنو آدم ، فإنما يعمل الإنسان على ما استنسخ الملك من أم الكتاب . وعنه - رضي الله عنه - قال : كتب في الذكر عنده كل شيء هو كائن ، ثم بعث الحفظة على آدم وذريته ، وكل ملائكته ينسخون من الذكر ما يعمل العباد ، ثم قرأ ( هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون ) ، ( الجاثية 29 ) وفي تفسير الضحاك عنه - رضي الله عنه - في هذه الآية قال : هي أعمال أهل الدنيا الحسنات والسيئات ، تنزل من السماء كل غداة وعشية ، ما يصيب الإنسان في ذلك اليوم أو الليلة : الذي يقتل ، والذي يغرق ، والذي يقع من فوق بيت ، والذي يتردى من جبل ، والذي يقع ، والذي يحرق بالنار فيحفظون عليه ذلك كله ، وإذا كان الشيء صعدوا به إلى السماء ، فيجدونه كما في السماء مكتوبا في الذكر الحكيم .

[ ص: 965 ] وقال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه : خلق الله الخلق قبضتين ، فقال لمن في يمينه : ادخلوا الجنة بسلام ، وقال لمن في يده الأخرى : ادخلوا النار ولا أبالي .

ولعبد الله ابن الإمام أحمد ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : لا يزال أمر هذه الأمة قواما أو مقاربا ، ما لم يتكلموا في القدر . وله عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال حين طعن : ( وكان أمر الله قدرا مقدورا ) ، ( الأحزاب 38 ) .

وله عن عبد الله بن الحارث الهاشمي قال : خطب عمر - رضي الله عنه - بالجابية ، وفي لفظ بالشام ، والجاثليق ماثل ، فتشهد فقال : من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له . فقال الجاثليق بقميصه هكذا - يعني : نفضه ، وقال : إن الله لا يضل أحدا . فقال : ما يقول ؟ فقالوا ما قال . فقال : كذبت عدو الله ، الله خلقك ، والله أضلك ، ثم يميتك فيدخلك النار إن شاء الله ، والله ، لولا عقد لك لضربت عنقك ، ثم قال : إن الله خلق آدم فنثر ذريته في يديه ، ثم كتب أهل الجنة وما هم عاملون ، وكتب أهل النار وما هم عاملون ، ثم قال : هؤلاء لهذه وهؤلاء لهذه . قال : فتصدع الناس وما يتنازع في القدر .

[ ص: 966 ] وقال علي - رضي الله عنه : ما من آدمي إلا ومعه ملك يقيه ما لم يقدر له ، فإذا جاء القدر خلاه وإياه . وله عنه - رضي الله عنه - قال : وذكر عنده القدر يوما ، فأدخل إصبعه السبابة والوسطى في فيه ، فرقم بهما باطن يديه فقال : أشهد أن هاتين الرقمتين كانتا في أم الكتاب .

وله عن أسير بن جابر قال : طلبت عليا في منزله فلم أجده ، فنظرت فإذا هو في ناحية المسجد . قال فقلت له - كأنه خوفه - قال فقال : إيه ليس أحد إلا ومعه ملك يدفع عنه ما لم ينزل القدر ، فإذا نزل القدر ، لم يغن شيئا .

وله عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - وقال له رجل : إنا نسافر فنلقى قوما يقولون : لا قدر . قال : إذا لقيت أولئك ، فأخبرهم أن ابن عمر منهم بريء وهم منه برآء ثلاث مرات .

ولعبد الرزاق ، عن يحيى بن يعمر قال : قلت لابن عمر : إن أناسا عندنا يقولون : الخير والشر بقدر ، وناسا عندنا يقولون : الخير بقدر والشر ليس بقدر . فقال ابن عمر : إذا رجعت إليهم ، فقل لهم : إن ابن عمر يقول إنه منكم بريء وأنتم منه برآء .

ولعبد الله بن أحمد عنه - رضي الله عنه - قال : من زعم أن مع الله بارئا أو قاضيا أو رازقا أو يملك لنفسه ضرا أو نفعا أو موتا أو حياة أو نشورا بعثه الله يوم القيامة ، فأخرسه وأعمى بصره ، وجعل عمله هباء منثورا ، وقطع به الأسباب ، وكبه على وجهه في النار .

[ ص: 967 ] وله عن نافع قال : قيل لابن عمر : إن قوما يقولون لا قدر . فقال : أولئك القدريون ، أولئك مجوس هذه الأمة . وله عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : مضت الكتب وجفت الأقلام ، فشقي أو سعيد ، فريق في الجنة وفريق في السعير .

وله عن الحسن بن علي - رضي الله عنه - قال : رفع الكتاب وجفت الأقلام ، وأمور تقضى في كتاب قد خلا . وفي رواية قضي القضاء وجف القلم وأمور تكفي في كتاب قد خلا . وله عنه - رضي الله عنه - قال : سيكون ناس يصدقون بقدر ويكذبون بقدر ، فيلعنهم أبو هريرة عند قوله هذا . وله عن عمار مولى بني هاشم قال : سألت أبا هريرة - رضي الله عنه - عن القدر فقال : اكتفي بآخر سورة الفتح .

وله عن أبي الحجاج الأزدي ، عن سليمان - رضي الله عنه - قال : لقيته بماء سبذان ، قال فقلت له : أخبرني كيف الإيمان بالقدر ؟ قال : أن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك ، وما أخطأك لم يكن ليصيبك ، ولا تقل : لو كان كذا لكان كذا ، ولو نفعل كذا لكان كذا .

وروى عبد الرزاق ، عن معمر قال : قال عمرو بن العاص لأبي موسى الأشعري : وددت أني وجدت من أخاصم إليه ربي . فقال أبو موسى : أنا . فقال [ ص: 968 ] عمرو بن العاص : أيقدر علي شيئا يعذبني عليه ؟ فقال أبو موسى : نعم . قال : لم ؟ قال : لأنه لا يظلمك . فقال عمرو : صدقت .

وله عن ابن الديلمي ، سألت عبد الله بن عمرو عن " جف القلم " ، فقال : إن الله حين خلق الخلق ألقى عليهم من نوره ، فمن أصابه شيء منه اهتدى .

وكلام الصحابة في هذا الباب يطول ذكره ، وقد جمعت فيه التصانيف الكثيرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية