معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

صفحة جزء
[ ص: 1021 ] 4 - العاصي لا يخلد في النار ، وأمره إلى الله .


ولا نقول إنه في النار مخلد بل أمره للباري     تحت مشيئة الإله النافذه
إن شا عفا عنه وإن شا آخذه     بقدر ذنبه إلى الجنان
يخرج إن مات على الإيمان

.

( ولا نقول إنه ) أي الفاسق بالمعاصي التي لا توجب كفرا ( في النار مخلد ) هذه هي المسألة الرابعة من مسائل الفصل ، ( بل نقول أمره ) مردود حكمه ( للباري ) في الجزاء والعفو ( تحت مشيئة الإله النافذه ) في خلقه ، ( إن شاء ) الله - عز وجل - ( عفا عنه ) ، وأدخله الجنة من أول وهلة برحمته وفضله ، ( وإن شاء آخذه ) أي جازاه وعاقبه ( بقدر ذنبه ) الذي مات مصرا عليه ، كما في الصحيحين من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال وحوله عصابة من أصحابه : بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا ، ولا تسرقوا ولا تزنوا ، ولا تقتلوا أولادكم ، ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم ، ولا تعصوا في معروف ، فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئا ، فعوقب به في الدنيا ، فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئا ، ثم ستره الله عليه ، فهو إلى الله إن شاء عفا عنه ، وإن شاء عاقبه . فبايعناه على ذلك .

( وإلى الجنان يخرج ) من النار ( إن ) كان ( مات على الإيمان ) كما تقدم في أحاديث الشفاعة ، وإنه لا يخلد في النار أحد مات على التوحيد ، بل يخرج منها برحمة أرحم الرحمين ، ثم بشفاعة الشافعين .


والعرض تيسير الحساب في النبا     ومن يناقش الحساب عذبا

.

في هذا البيت إشارة إلى تفسير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقول الله - عز وجل : ( فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا ) ، ( الانشقاق 8 ) الآيات ، كما في صحيح البخاري ، وغيره من طرق عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قال [ ص: 1022 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ليس أحد يحاسب إلا هلك ، قالت : قلت : يا رسول الله ، جعلني الله فداءك ، أليس يقول الله - عز وجل ( فأما من أوتي كتابه بيمينه فسوف يحاسب حسابا يسيرا ) ، ( الانشقاق 8 ) ، قال : ذلك العرض ، يعرضون ، ومن نوقش الحساب هلك . وفي رواية " عذب " .

وقد قدمنا من نصوص الحشر وأحوال الموقف والميزان ونشر الصحف والعرض والحساب والصراط والشفاعات وغيرها ما يعلم به تفاوت مراتب الناس ، وتباين أحوالهم في الآخرة بحسب تفاوتهم في الدار الدنيا في طاعة ربهم وضدها من سابق ، ومقتصد ، وظالم لنفسه .

إذا عرفت هذا فاعلم أن الذي أثبتته الآيات القرآنية ، والسنن النبوية ، ودرج عليه السلف الصالح ، والصدر الأول من الصحابة والتابعين لهم بإحسان من أئمة التفسير والحديث والسنة : أن العصاة من أهل التوحيد على ثلاث طبقات :

الطبقة الأولى : قوم رجحت حسناتهم بسيئاتهم ، فأولئك يدخلون الجنة من أول وهلة ، ولا تمسهم النار أبدا .

الطبقة الثانية : قوم تساوت حسناتهم وسيئاتهم ، وتكافأت ، فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة ، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار ، وهؤلاء هم أصحاب الأعراف الذين ذكر الله تعالى أنهم يوقفون بين الجنة والنار ما شاء الله أن يوقفوا ، ثم يؤذن لهم في دخول الجنة ، كما قال - تبارك وتعالى - بعد أن دخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار : ( ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار أن قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا قالوا نعم فأذن مؤذن بينهم أن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجا وهم بالآخرة كافرون وبينهما حجاب وعلى الأعراف رجال يعرفون كلا بسيماهم ونادوا أصحاب الجنة أن سلام عليكم لم يدخلوها وهم يطمعون وإذا صرفت أبصارهم تلقاء أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين ونادى أصحاب الأعراف رجالا يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون أهؤلاء الذين أقسمتم لا ينالهم الله برحمة ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون ) ، ( الأعراف 44 - 49 ) .

[ ص: 1023 ] الطبقة الثالثة : قوم لقوا الله تعالى مصرين على كبائر الإثم والفواحش ، ومعهم أصل التوحيد ، فرجحت سيئاتهم بحسناتهم ، فهؤلاء هم الذين يدخلون النار بقدر ذنوبهم ، فمنهم من تأخذه إلى كعبيه ، ومنهم من تأخذه إلى أنصاف ساقيه ، ومنهم من تأخذه إلى ركبتيه ، ومنهم من تأخذه إلى حقويه ، ومنهم فوق ذلك ، حتى إن منهم من لم يحرم منه على النار إلا أثر السجود ، حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود ، وهؤلاء هم الذين يأذن الله تعالى بالشفاعة فيهم لنبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ولغيره من الأنبياء من بعده ، والأولياء والملائكة ، ومن شاء الله أن يكرمه ، فيحد لهم حدا فيخرجونهم ، ثم يحد لهم حدا فيخرجونهم ، ثم هكذا فيخرجون من كان في قلبه وزن دينار من خير ، ثم من كان في قلبه نصف دينار من خير ، ثم برة ، ثم خردلة ، ثم ذرة ، ثم أدنى من ذلك إلى أن يقول الشفعاء : ربنا لم نذر فيها خيرا ، ويخرج الله تعالى من النار أقواما ، لا يعلم عدتهم إلا هو بدون شفاعة الشافعين ، ولم يخلد في النار أحد من الموحدين ، ولو عمل أي عمل ، ولكن كل من كان منهم أعظم إيمانا وأخف ذنبا كان أخف عذابا في النار ، وأقل مكثا فيها وأسرع خروجا منها ، وكل من كان أضعف إيمانا وأعظم ذنبا كان بضد ذلك ، والعياذ بالله .

والأحاديث في هذا الباب لا تحصى كثرة ، وقد قدمنا منها ما فيه كفاية ، وإلى هذا المعنى أشار النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : من قال لا إله إلا الله ، نفعته يوما من الدهر ، يصيبه قبل ذلك ما أصابه . وهذا مقام ضلت فيه الأفهام ، وزلت فيه الأقدام ، وهدى الله الذين آمنوا لما اختلف فيه من الحق بإذنه ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .

[ ص: 1024 ] قال إمام الأئمة أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة - رحمه الله تعالى - في كتاب التوحيد ، بعد سرده أحاديث الشفاعة بأسانيدها قال : قد روينا أخبارا عن النبي - صلى الله عليه وسلم ، يحسب كثير من أهل الجهل والعناد أنها خلاف هذه الأخبار التي ذكرناها مع كثرتها ، وعدالة ناقليها في الشفاعة ، وفي إخراج بعض أهل التوحيد من النار بعد ما دخلوها بذنوبهم وخطاياهم ، وليست بخلاف تلك الأخبار عندنا ، بحمد الله ونعمته .

وأهل الجهل الذين ذكرتهم في هذا الفصل صنفان : صنف منهم من الخوارج والمعتزلة ، أنكرت إخراج أحد من النار ممن يدخل النار ، وأنكرت هذه الأخبار التي ذكرناها في الشفاعة .

الصنف الثاني : الغالية من المرجئة التي تزعم أن النار حرمت على من قال لا إله إلا الله ، تتأول هذه الأخبار التي رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه اللفظة على خلاف تأويلها .

فأول ما نبدأ بذكر الأخبار بأسانيدها وألفاظ متونها ، ثم نبين معانيها بعون الله ومشيئته ، ونشرح ونوضح أنها ليست بمخالفة للأخبار التي ذكرناها في الشفاعة ، وفي إخراج من قضى الله إخراجهم من أهل التوحيد من النار ، ثم ساق منها حديث ابن مسعود - رضي الله عنه ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، ولا يدخل النار من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان .

وحديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : إني لأعلم كلمة ، لا يقولها عبد حقا من قلبه ، فيموت على ذلك إلا حرم على النار : لا إله إلا الله .

[ ص: 1025 ] وحديث عتبان بن مالك : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : لن يوافى عبد يوم القيامة ، وهو يقول لا إله إلا الله ، يبتغي بذلك وجه الله ، إلا حرم على النار . وفي رواية : فإن الله قد حرم على النار أن تأكل من قال لا إله إلا الله .

وحديث عثمان ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله ، دخل الجنة . وحديث معاذ بن جبل قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : من مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله صادقا من قلبه ، دخل الجنة .

وحديث عبادة بن الصامت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من لقي الله ، يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، دخل الجنة . وفي رواية : حرمه الله على النار . وحديث جابر بن عبد الله : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه ، فقال : اذهب فناد في الناس أن من شهد أن لا إله إلا الله موقنا أو مخلصا ، دخل الجنة .

[ ص: 1026 ] وحديث أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : قال رجل : يا رسول الله ، ما تركت من حاجة ولا داجة إلا أتيت عليها . قال : أو تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ؟ قال : نعم . قال : فإن هذا يأتي على ذلك كله .

وحديث عمر - رضي الله عنه : أن رسول الله أمره أن يؤذن الناس ، أن من يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مخلصا ، فله الجنة . قال عمر : يا رسول الله ، إذا يتكلوا . قال : فدعهم .

وحديث عبد الله بن سلام قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وجبت له الجنة . وحديث أبي ذر - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : قال لي جبريل : من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئا ، دخل الجنة ولم يدخل النار . قلت : وإن زنى وإن سرق ؟ قال : وإن زنى وإن سرق .

وحديث أبي الدرداء ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قرأ ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) ، ( الرحمن 46 ) ، قلت : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ قال : فقرأها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) ، ( الرحمن 46 ) ، قلت : وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ قال : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) ، ( الرحمن 46 ) ، قلت : يا رسول الله ، وإن زنى وإن سرق يا رسول الله ؟ قال : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) ، ( الرحمن 46 ) ، قلت : يا رسول الله ، وإن زنى وإن سرق ؟ قال : ( ولمن خاف مقام ربه جنتان ) ، ( الرحمن 46 ) [ ص: 1027 ] وإن زنى وسرق ، ورغم أنف أبي الدرداء . فلا أزال أقرؤها كذلك حتى ألقاه .

حديث ابن مسعود - رضي الله عنه : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كلمة وأنا أقول أخرى . قال : من مات ، وهو يجعل لله ندا ، دخل النار . قال وأقول : من مات ، وهو لا يجعل لله ندا ، دخل الجنة .

قال أبو بكر : قد كنت أمليت أكثر هذا الباب من كتاب الإيمان ، وبينت في ذلك الموضع معنى هذه الأخبار ، وأن معناها ليس كما يتوهمه المرجئة ، وبيقين يعلم كل عالم من أهل الإسلام أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يرد بهذه الأخبار أن من قال لا إله إلا الله ، أو زاد معها شهادة أن محمدا رسول الله ، ولم يؤمن بأحد من الأنبياء غير محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا آمن بشيء من كتاب الله - عز وجل - ولا بجنة ولا نار ، ولا بعث ولا حساب ، أنه من أهل الجنة لا يعذب بالنار ، ولئن جاز للمرجئة الاحتجاج بهذه الأخبار ، وإن كانت هذه الأخبار ظاهرها خلاف أصلهم ، وخلاف كتاب الله - عز وجل - وخلاف سنن النبي - صلى الله عليه وسلم - لجاز للجهمية الاحتجاج بأخبار رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا تؤولت على ظاهرها ، استحق من يعلم أن الله ربه ، وأن محمدا نبيه ، وإن لم ينطق بذلك لسانه ، ولا يزال يسمع أهل الجهل والعناد يحتجون بأخبار مختصرة غير متقصاة ، وبأخبار مجملة غير مفصلة ، لا يفهمون أصول العلم ، فيستدلون بالمتقصي من الأخبار على مختصرها ، وبالمفسر منها على مجملها ، قد ثبتت الأخبار عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بلفظه ، لو حملت على ظاهرها كما حملت المرجئة الأخبار [ ص: 1028 ] التي ذكرناها في شهادة أن لا إله إلا الله على ظاهرها ، لكان العالم بقلبه أن لا إله إلا الله مستحقا للجنة ، وإن لم يقر بذلك بلسانه ، ولا أقر بشيء مما أمر الله تعالى بالإقرار به ، ولا آمن بقلبه بشيء مما أمر الله بالإيمان به ، ولا عمل بجوارحه شيئا أمر الله به ، ولا انزجر عن شيء حرمه الله من سفك دماء المسلمين ، وسبي ذراريهم ، وأخذ أموالهم ، واستحلال حرمهم .

فاسمع الخبر الذي ذكرت أنه غير جائز أن يحمل على ظاهره ، كما حملت المرجئة الأخبار التي ذكرناها على ظاهرها .

ثم ذكر حديث عثمان ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من مات ، وهو يعلم أن لا إله إلا الله ، دخل الجنة . وحديث عمران بن حصين : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من علم أن الله ربه ، وأني نبيه صادقا من قلبه - وأومأ بيده إلى فلذة صدره - حرم الله لحمه على النار .

وحديث معاذ - رضي الله عنه : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من مات وهو يوقن بقلبه أن الله حق ، وأن الساعة قائمة ، وأن الله يبعث من في القبور . قال ابن سيرين : إما دخل الجنة ، وإما قال نجا من النار .

كيف جاز للجهمي الاحتجاج بهذه الأخبار أن المرء يستحق الجنة بتصديق القلب أن لا إله إلا الله ، وبأن الله حق ، وأن الساعة قائمة ، وأن الله يبعث من في القبور ، ويترك الاستدلال بما سنبينه بعد ، إن شاء الله من معنى هذه الأخبار ، لم يؤمن أن يحتج جاهل ، لم يعرف دين الله ، ولا أحكام الإسلام بخبر عثمان ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم : من علم أن الصلاة عليه حق واجب ، دخل الجنة .

[ ص: 1029 ] فيدعي أن جميع الإيمان هو العلم بأن الصلاة عليه حق واجب ، وإن لم يقر بلسانه مما أمر الله بالإقرار به ، ولا صدق بقلبه بشيء مما أمر الله بالتصديق به ، ولا أطاع في شيء أمر الله به ، ولا انزجر عن شيء حرمه الله ، إذ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أخبر أن من علم أن الصلاة عليه حق واجب ، دخل الجنة ، كما أخبر أن من شهد أن لا إله إلا الله ، دخل الجنة ، ثم ذكر حديث عثمان بسنده .

قال أبو بكر : فإن جاز الاحتجاج بمثل هذا الخبر المختصر في الإيمان ، واستحقاق المرء به الجنة ، وترك الاستدلال بالأخبار المفسرة المتقصاة ، لم يؤمن أن يحتج جاهل معاند ، فيقول : بل الإيمان إقام صلاة الفجر وصلاة العصر ، وأن مصليها يستوجب الجنة ويعاذ من النار ، وإن لم يأت بالتصديق ولا بالإقرار بما أمر أن يصدق به ويقر به ، ولا يعمل بشيء من الطاعات التي فرض الله على عباده ، ولا الزجر عن شيء من المعاصي التي حرمها الله ، ويحتج بخبر عمارة بن رؤيبة ، فذكره بإسناده إلى عمارة بن رؤيبة - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من صلى قبل طلوع الشمس ، وقبل غروبها ، حرمه الله على النار . فقال رجل من أهل البصرة : وأنا سمعته عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم .

قال أبو بكر : قد أمليت طرق هذا الخبر في كتاب المختصر من كتاب الصلاة مع أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم : من صلى الصبح فهو في ذمة الله . وكل عالم يعلم دين الله وأحكامه ، يعلم أن هاتين الصلاتين لا توجبان الجنة مع ارتكاب جميع المعاصي ، إنما رويت في فضائل هذه الأعمال ، وإنما رويت أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم " من قال لا إله إلا الله دخل الجنة . فضيلة لهذا القول ، لا أن هذا القول كل الإيمان .

قلت : للا إله إلا الله لوازم ومقتضيات وشروط ، مقيد دخول الجنة بالتزام [ ص: 1030 ] قائلها لجميعها واستكماله إياها ، كما قدمنا بسطه ، ولله الحمد .

قال - رحمه الله تعالى : ولئن جاز لجاهل أن يقول إن شهادة أن لا إله إلا الله جميع الإيمان ، إذ النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبر أن قائلها يستوجب الجنة ، ويعاذ من النار ، لم يؤمن أن يدعي جاهل معاند أيضا أن جميع الإيمان القتال في سبيل الله فواق ناقة ، فيحتج بقول النبي - صلى الله عليه وسلم : من قاتل في سبيل الله فواق ناقة ، دخل الجنة . كاحتجاج المرجئة بقول النبي - صلى الله عليه وسلم : من قال لا إله إلا الله ، دخل الجنة .

ويقول معاند آخر جاهل : إن الإيمان بكماله المشي في سبيل الله حتى تغبر قدما الماشي ، ويحتج بقول النبي - صلى الله عليه وسلم : من اغبرت قدماه في سبيل الله ، حرمه الله على النار . وبقوله - صلى الله عليه وسلم : لا يجتمع غبار في سبيل الله ، ودخان جهنم في منخري رجل مسلم .

ويدعي جاهل آخر : أن الإيمان كله عتق رقبة مؤمنة ، ويحتج بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من أعتق رقبة مؤمنة ، أعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار .

ويدعي جاهل آخر : أن جميع الإيمان البكاء من خشية الله تعالى ويحتج بقول النبي - صلى الله عليه وسلم : لا يدخل النار من بكى من خشية الله تعالى .

ويدعي جاهل آخر أن جميع [ ص: 1031 ] الإيمان صوم يوم في سبيل الله ، ويحتج بأن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من صام يوما في سبيل الله ، باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا . ويدعي جاهل آخر : أن جميع الإيمان قتل كافر ، ويحتج بقول النبي - صلى الله عليه وسلم : لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبدا . ثم ذكره بسنده عن أبي هريرة - رضي الله عنه .

ثم قال - رحمه الله تعالى : وهذا الجنس من فضائل الأعمال يطول بتقصيه الكتاب ، وفي قدر ما ذكرنا غنية وكفاية ، لما له قصدنا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما أخبر بفضائل هذه الأعمال التي ذكرنا ، وما هو مثلها ، لا أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن كل عمل ذكره أعلم أن عامله يستوجب بفعله الجنة ، أو يعاذ من النار أنه جميع الإيمان ، وكذاك إنما أراد النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله : " من قال لا إله إلا الله ، دخل الجنة " أو " حرم على النار " فضيلة لهذا القول ، لا أن جميع الإيمان كما ادعى من لا يفهم العلم ويعاند ، فلا يتعلم هذه الصناعة من أهلها ، ومعنى قوله - صلى الله عليه وسلم : " لا يجتمع كافر وقاتله في النار أبدا " ، هذا لفظ مختصره الخبر المقتضي لهذه اللفظة المختصرة ، ما ، حدثنا الربيع بن سليمان قال : حدثنا شعيب بن الليث قال : حدثنا الليث ، عن محمد بن العجلان ، عن سهيل بن أبي صالح ، عن أبيه ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " لا يجتمعان في النار اجتماعا - يعني : أحدهما مسلم قتل كافرا ، ثم سدد المسلم وقارب " .

قال أبو بكر : لذاك نقول في فضائل الأعمال التي ذكرنا : من عمل من المسلمين بعض تلك الأعمال ، ثم سدد وقارب ومات على إيمانه ، دخل الجنة ، ولم يدخل النار موضع الكفر منها ، وإن ارتكب بعض المعاصي ، لذاك لا يجتمع قاتل الكافر إذا مات على إيمانه ، مع الكافر المقتول في موضع واحد من النار ، لا إنه [ ص: 1032 ] لا يدخل النار ولا موضعا منها ، وإن ارتكب جميع الكبائر خلا الشرك بالله - عز وجل ، إذا لم يشأ تعالى أن يغفر له ما دون الشرك ، فقد أخبر الله - عز وجل - أن للنار سبعة أبواب ، فقال لإبليس : ( إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين ) . . . إلى قوله تعالى ( لكل باب منهم جزء مقسوم ) ، ( الحجر 42 - 44 ) .

فأعلمنا ربنا - عز وجل - أنه قسم تابعي إبليس من الغاوين سبعة أجزاء على عدد أبواب النار ، فجعل لكل باب منهم جزءا معلوما ، واستثنى عباده المخلصين من هذا القسم ، فكل مرتكب معصية زجر الله عنها ، فقد أغواه إبليس ، والله - عز وجل - قد يشاء غفران كل معصية يرتكبها المسلم دون الشرك ، وإن لم يتب منها ، لذاك أعلمنا في محكم تنزيله قوله ( ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) ، ( النساء 116 ) . وأعلمنا خالقنا - عز وجل - أن آدم الذي خلقه الله بيده ، وأسكنه جنته ، وأمر ملائكته بالسجود له عصاه فغوى ، وأنه - عز وجل - برأفته ورحمته اجتباه بعد ذلك ، فتاب عليه وهدى ، ولم يحرمه الله بارتكاب هذا الحوب بعد ارتكابه إياه ، فمن لم يغفر الله له حوبته التي ارتكبها ، وأوقع عليه اسم غاو ، فهو داخل في الأجزاء جزءا وقسما لأبواب النار السبعة .

وفي ذكره آدم - صلى الله عليه وسلم - وقوله - عز وجل : ( وعصى آدم ربه فغوى ) ، ( طه 121 ) ما يبين ويوضح أن اسم الغاوي قد يقع على مرتكب خطيئة ، قد زجر الله عن إتيانها ، وأن لم تكن تلك الخطيئة كفرا ولا شركا ولا ما يقاربهما ويشبههما ، ومحال أن يكون المؤمن الموحد لله - عز وجل - قلبه ولسانه المطيع لخالقه في أكثر ما فرض الله عليه ، وندبه إليه من أعمال البر غير المفروض عليه ، والمنتهي عن أكثر المعاصي ، وإن ارتكب بعض المعاصي والحوبات في قسم من كفر بالله ، ودعا معه آلهة له أو صاحبة أو ولدا ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا ، ولم يؤمن بشيء مما أمر الله تعالى بالإيمان به ، ولا أطاع الله في شيء أمر به من الفرائض والنوافل ، ولا انزجر عن معصية نهى الله عنها ، محال أن يجتمع هذان في درجة واحدة من النار ، والعقل مركب على أن يعلم أن كل من كان أعظم خطيئة ، وأكثر ذنوبا ، لم يتجاوز الله عن ذنوبه ، كان أشد عذابا في النار ، كما يعلم كل عاقل أن كل من كان أكثر طاعة لله - عز وجل - وتقربا إليه بفعل الخيرات ، واجتناب السيئات كان أرفع درجة في الجنان ، وأعظم ثوابا وأجزل نعمة ، فكيف يجوز أن [ ص: 1033 ] يتوهم عاقل مسلم أن أهل التوحيد يجتمعون في النار في الدرجة مع من كان يفتري على الله - عز وجل - فيدعو له شريكا أو شركاء ، فيدعون له صاحبة وولدا ، ويكفر به ويشرك ، ويكفر بكل ما أمر الله بالإيمان به ، ويكذب جميع الرسل ، ويترك جميع الفرائض ، ويرتكب المعاصي ، فيعبد النيران ويسجد للأصنام والصلبان ، فمن لم يفهم هذا الباب ، لم يجد بدا من تكذيب الأخبار الثابتة من التي ذكرتها عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في إخراج أهل التوحيد من النار ، إذ محال أن يقال أخرجوا من النار من ليس فيها ، وأكثر استحالة من هذا أن يقال : يخرج من النار من ليس فيها .

وفي إبطال أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - اضمحلال الدين وإبطال الإسلام ، والله - عز وجل - لم يجمع بين جميع الكفار في موضع واحد من النار ، ولا سوى بين عذاب جميعهم ، قال الله - عز وجل : ( إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ) ، ( النساء 145 ) ، وقال : ( أدخلوا آل فرعون أشد العذاب ) ، ( غافر 46 ) .

ثم لما انتهى من الكلام على ما احتج به المرجئة على باطلهم ، وكفر به الخوارج وردوه بباطل - آخر ، شرع - رحمه الله - في بيان ما تشبث به الخوارج ، واحتجوا به على باطلهم ، وما كفر به المرجئة وردوه بباطل آخر ، فقال - رحمه الله تعالى :

باب ذكر أخبار رويت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ثابتة من جهة النقل ، جهل معناها فرقتان : فرقة المعتزلة والخوارج ، احتجوا بها ، وادعوا أن مرتكب الكبيرة إذا مات قبل التوبة منها مخلد في النار ، محرم عليه الجنان ، والفرقة الأخرى المرجئة ، كفرت بهذه الأخبار وأنكرتها ، ودفعتها جهلا منها بمعانيها ، وأنا ذاكرها بأسانيدها وألفاظ متونها ، ومبين معانيها بتوفيق الله .

ثم ذكر بأسانيده حديث أسامة بن زيد وسعد بن أبي وقاص وأبي بكرة وسعد بن مالك - رضي الله عنهم ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : من ادعى إلى غير أبيه ، وهو يعلم أنه غير أبيه ، فالجنة عليه حرام .

[ ص: 1034 ] وحديث عبد الله بن عمرو ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من انتسب لغير أبيه ، فلن يرح بريح الجنة ، وريحها يوجد من مسيرة سبعين عاما . وحديث حذيفة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : لا يدخل الجنة قتات . وفي رواية : نمام .

وحديث أبي أمامة : أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : من اقتطع حق امرئ مسلم بيمينه ، فقد أوجب الله له النار ، وحرم عليه الجنة . فقال رجل : وإن كان شيئا يسيرا ؟ قال : وإن كان قضيبا من أراك . وحديث عبد الله بن عمرو ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم : لا يدخل الجنة نمام ولا عاق ولا مدمن خمر .

[ ص: 1035 ] وحديث جبير بن مطعم قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : لا يدخل الجنة قاطع . وحديث عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ثلاثة لا يدخلون الجنة : العاق لوالديه ، والديوث ، ورجلة النساء .

وحديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة : العاق لوالديه ، ومدمن الخمر ، والمنان بما أعطى . وحديث أبي بكرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : من قتل نفسا معاهدة بغير حقها ، حرم الله عليه الجنة أن يشم ريحها .

ثم قال - رحمه الله تعالى : معنى هذه الأخبار إنما هو على أحد معنيين : ( أحدهما ) : لا يدخل الجنة أي بعض الجنان ، إذ النبي - صلى الله عليه وسلم - قد أعلم أنها جنان من جنة ، واسم الجنة واقع على كل جنة منها ، فمعنى هذه الأخبار التي ذكرها من فعل كذا لبعض المعاصي ، حرم الله عليه الجنة أو لم يدخل الجنة ، معناه لا يدخل بعض الجنان التي هي أعلى وأشرف وأنبل وأكثر نعيما وسرورا وبهجة وأوسع ; لأنه أراد لا يدخل شيئا من تلك الجنان التي هي في الجنة .

وعبد الله بن عمرو قد بين خبره الذي روى ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم : لا يدخل الجنة عاق ، ولا منان ، ولا مدمن خمر . إنه إنما أراد حظيرة القدس من الجنة ، على ما تأولت على أحد [ ص: 1036 ] المعنيين ، ثم ساق بإسناده ، عن عبد الله بن عمرو أنه قال : لا يدخل حظيرة القدس سكير ، ولا عاق ، ولا منان .

قال : والمعنى الثاني ما قد أعلمت أصحابي ما لا أحصي من مرة ، أن كل وعيد في الكتاب والسنة لأهل التوحيد ، فإنما هو على شريطة ، أي إلا أن يشاء الله تعالى أن يغفر ويصفح ويتكرم ويتفضل ، فلا يعذب على ارتكاب تلك الخطيئة ، إذ الله - عز وجل - قد خبر في محكم كتابه أنه قد يشاء أن يغفر دون الشرك من الذنوب في قوله تعالى : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ) ، ( النساء 116 ) قد أمليت هذه المسألة في كتاب معاني القرآن الكتاب الأول ، واستدللت أيضا بخبر عن النبي - صلى الله عليه وسلم - بهذا المعنى ، وساق بإسناده إلى قيس بن محمد بن الأشعث أن الأشعث وهب له غلاما ، فغضب عليه وقال : والله ، ما وهبت لك شيئا ، فلما أصبح رده عليه ، وقال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : من حلف على يمين صبرا ; ليقتطع مال امرئ مسلم ، لقي الله يوم القيامة وهو مجتمع عليه غضبان ، إن شاء عفا عنه ، وإن شاء عاقبه .

قلت : وتقدم حديث عبادة بن الصامت في قصة البيعة ، وهو دليل على هذا المعنى . قال أبو بكر : فاسمعوا الخبر المصرح بصحة ما ذكرت أنها جنان في جنة ، واسم الجنة واقع على كل جنة منها على الانفراد ; لتستدلوا بذلك على صحة تأويلنا الأخبار التي ذكرنا ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - من فعل كذا وكذا لبعض المعاصي لم [ ص: 1037 ] يدخل الجنة ، إنما أراد بعض التي هي أعلى وأشرف وأفضل وأنبل وأكثر نعيما وأوسع ، إذ محال أن يقول النبي - صلى الله عليه وسلم : من فعل كذا وكذا ، لم يدخل الجنة ، يريد لا يدخل شيئا من الجنان ، ويخبر أنه يدخل الجنة ، فتكون إحدى الكلمتين دافعة الأخرى ، وأحد الخبرين دافعا الآخر ; لأن هذا الجنس مما لا يدخله التناسخ ، ولكنه من ألفاظ العام الذي يراد به الخاص .

ثم ساق بإسناده إلى أنس بن مالك - رضي الله عنه - أن الربيع أتت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالت : يا رسول الله ، أنبئني عن حارثة ، أصيب يوم بدر ، فإن كان في الجنة ، صبرت واحتسبت ، وإن كان غير ذلك ، اجتهدت في البكاء . فقال : يا أم حارثة ، إنها جنان في جنة ، وإنه أصاب الفردوس الأعلى .

قال أبو بكر : قد أمليت أكثر طرق هذا الخبر في كتاب الجهاد ، وقد أمليت في كتاب ذكر نعيم الجنة ذكر درجات الجنة ، وبعد ما بين الدرجتين ، منها أن إخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - أن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف ، كما ترون الكوكب الدري في أفق من آفاق السماء ; لتفاضل ما بينهما ، وقول بعض أصحابه : تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم ؟ قال : بلى ، رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين .

وأمليت أخبار النبي - صلى الله عليه وسلم - بين كل درجتين من درج الجنة مسيرة مائة عام ، فمعنى هذه الأخبار التي فيها ذكر بعض الذنوب التي يرتكبه بعض المؤمنين ، أن مرتكبه لا يدخل الجنة ، معناها لا يدخل العالي من الجنان التي هي دار المتقين الذين لم يرتكبوا تلك الذنوب والحوبات والخطايا .

ثم قال وقد يجوز أن يقول - صلى الله عليه وسلم : من فعل كذا وكذا لم يدخل الجنة ، يريد لم يدخل الجنة التي يدخلها فيه من لم يرتكب هذه الحوبة ; لأنه يحبس عن دخول الجنة ، إما للمحاسبة على الذنب ، أو لإدخاله النار ; ليعذب بقدر ذلك الذنب ، إن [ ص: 1038 ] كان ذلك الذنب مما يستوجب به المرتكب النار ، إن لم يعف الله ويصفح ويتكرم ، فيغفر ذلك الذنب ، فمعنى هذه الأخبار على هذه المعاني ; لأنها إذا لم تحمل على هذه المعاني كانت على وجه التهاتر والتكاذب ، وعلى العلماء أن يتأولوا أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ما قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه : إذا حدثتم عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فظنوا به الذي هو أهناه وأهداه وأتقاه، ثم ساقه بإسناده عن علي - رضي الله عنه - فذكره .

انتهى كلامه - رحمه الله تعالى - باختصار بعض مكرره ، فلا تستطله ، فإنه كلام متين من إمام متضلع من معاني الكتاب والسنة ، ذي خبرة وعلم لمواردها ومصادرها .

وقوله - رحمه الله تعالى - وعلى العلماء أن يتأولوا أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، لم يعن - رحمه الله - التأويل الذي اصطلحه المتكلمون لصرف النصوص عن معانيها إلى الاحتمالات البعيدة التي هضموا بها معاني النصوص بما اقتضته عقولهم السخيفة ، وليس ذلك من طريقته ، ولا من شأنه - رحمه الله ، وإنما عنى ما أشار إليه في غير موضع من كتبه من حمل المجمل على المفسر ، والمختصر على المتقصي ، والمطلق على المقيد ، والعموم على الخصوص ، وما أشبه ذلك من التأليف بين النصوص ومدلولاتها ; لئلا تكون متناقضة يرد بعضها معنى بعض ; لأن ذلك مما ينزه عنه كلام الله وكلام رسوله - صلى الله عليه وسلم .

وهذه طريقة جميع أئمة المسلمين من علماء التفسير والحديث والفقه في أصول الدين وفروعه ، رحمهم الله تعالى ورضي عنهم .

( مسألة ) : فإن قيل : وما الجمع بين ما تقدم من حديث عبادة بن الصامت فيمن ارتكب حدا ، لم يقم عليه ، قال : فهو إلى الله ، إن شاء عفا عنه ، وإن شاء عاقبه ، وبين ما صرحت به النصوص التي في الميزان والحساب والجنة ، من أن من رجحت خطاياه وسيئاته بحسناته ، تمسه النار ولا بد .

قلنا : لا إشكال في ذلك ولا منافاة ، ولله الحمد . وقد حصل الجمع الفاصل للنزاع بحديث عائشة - رضي الله عنها - الذي ذكرنا في شرح البيت الأدنى ، بأن من [ ص: 1039 ] يشأ - عز وجل - أن يعفو عنه ، يحاسبه الحساب اليسير الذي فسره النبي - صلى الله عليه وسلم - بالعرض ، وقال في معنى العرض في الأحاديث السابقة في صفته : يدنوا أحدكم من ربه - عز وجل - حتى يضع عليه كنفه ، فيقول : أعملت كذا وكذا ؟ فيقول : نعم . ويقول : أعملت كذا وكذا ؟ فيقول : نعم . فيقرره ثم يقول : إني سترت عليك في الدنيا ، وأنا أغفرها لك اليوم .

وأما الذين يدخلون النار بذنوبهم ، فهم ممن يناقش الحساب ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : من نوقش الحساب عذب . نسأل الله - عز وجل - أن ييسر حسابنا ويتجاوز عنا ، ويغفر لنا بمنه وكرمه ، آمين .

التالي السابق


الخدمات العلمية