معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

صفحة جزء
هل رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه ليلة المعراج ؟

واختلف السلف الصالح هل رأى نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه ليلة المعراج ؟ فروى ابن خزيمة وغيره ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم ، والكلام لموسى ، والرؤية لمحمد - صلى الله عليه وسلم . وعن عكرمة قال : سمعت ابن عباس وسئل : هل رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه ؟ قال : نعم . قال : فقلت لابن عباس : أليس يقول الله تعالى : ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار ) ، ( الأنعام 103 ) ، قال : لا أم لك ، ذلك نوره إذا تجلى بنوره ، لم يدركه شيء . وروى عنه من طرق لا تحصى كثرة قال : رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه ، وعنه رآه بقلبه . وفي رواية : رآه بفؤاده مرتين . رواه مسلم وغيره ، وله عن أبي ذر قال : سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 1069 ] هل رأيت ربك ؟ قال : نور أنى أراه ؟ وفي رواية قال : رأيت نورا .

قال ابن خزيمة في قوله " نور أنى أراه " : هذا يحتمل معنيين على سعة لسان العرب : أحدهما الإثبات ومعناه إني أراه ، أو كيف أراه فهو نور ، أو فإن ما رأى نور .

ويؤيد هذا رواية " رأيت نورا " .

المعنى الثاني : النفي ، قال : والعرب قد تقول " أنى " على معنى النفي ، كقوله - عز وجل : ( قالوا أنى يكون له الملك علينا ) ، ( البقرة 247 ) الآية ، يريدون كيف يكون له الملك علينا ، ونحن أحق بالملك منه ؟ ثم روى ، عن أبي ذر قال : رآه بقلبه ، ولم يره بعينه .

وله عن عباد بن منصور قال : سألت الحسن فقلت : ( ثم دنا فتدلى ) ، ( النجم 8 ) من ذا يا أبا سعيد ؟ قال : ربي . وله عن المبارك بن فضالة قال : كان الحسن يحلف بالله ، لقد رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه . وله عن كعب قال : إن الله قسم رؤيته وكلامه بين موسى ومحمد - صلوات الله عليهما - فرآه محمد مرتين ، وكلم موسى مرتين .

وروى ابن أبي حاتم ، عن عباد بن منصور قال : سألت عكرمة عن قوله : ( ما كذب الفؤاد ما رأى ) ، ( النجم 11 ) ، فقال عكرمة : تريد أن أخبرك أنه قد رآه ؟ قلت : نعم . قال : قد رآه ، ثم قد رآه .

وروى ابن جرير ، عن محمد بن كعب ، عن بعض أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : قلنا : يا رسول الله ، هل رأيت ربك ؟ قال : لم أره [ ص: 1070 ] بعيني ، ورأيته بفؤادي مرتين ، ثم تلا ( ثم دنا فتدلى ) ، ( النجم 8 ) . وقال البغوي : وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه ، وهو أنس والحسن وعكرمة قالوا : رأى محمد ربه . قال ابن كثير : وقول البغوي فيه نظر .

وروى البخاري ومسلم ، عن مسروق قال : قلت لعائشة - رضي الله عنها : يا أمتاه ، هل رأى محمد - صلى الله عليه وسلم - ربه ؟ فقالت : لقد قف شعري مما قلت ، أين أنت من " ثلاث من حدثكهن ، فقد كذب : من حدثك أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه ، فقد كذب ، ثم قرأت ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ) ، ( الأنعام 103 ) ، ( ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب ) ، ( الشورى 51 ) ، ومن حدثك أنه يعلم ما في غد ، فقد كذب ، ثم قرأت ( وما تدري نفس ماذا تكسب غدا ) ، ( لقمان 34 ) ، ومن حدث أنه كتم ، فقد كذب ، ثم قرأت ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك ) ، ( المائدة 67 ) الآية ، ولكنه رأى جبريل - عليه السلام - في صورته مرتين . هذا لفظ البخاري .

ولفظ مسلم ، عن مسروق قال : كنت متكئا عند عائشة - رضي الله عنها - فقالت : يا أبا عائش ، ثلاث من تكلم بواحدة منهن ، فقد أعظم على الله الفرية ، قلت : ما هن ؟ قالت : من زعم أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه ، فقد أعظم على الله الفرية . قال : وكنت متكئا ، فجلست فقلت : يا أم المؤمنين ، أنظريني ولا تعجليني ، ألم يقل الله - عز وجل : ( ولقد رآه بالأفق المبين ) ، ( التكوير 23 ) ، ( ولقد رآه نزلة أخرى ) ، ( النجم 13 ) ؟ فقالت : أنا أول هذه الأمة سأل عن ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : إنما هو جبريل ، لم أره على صورته التي خلق عليها غير هاتين المرتين ، منهبطا من السماء سادا عظم خلقه ما بين السماء إلى الأرض . [ ص: 1071 ] فقالت : أو لم تسمع أن الله يقول : ( لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار وهو اللطيف الخبير ) ، ( الأنعام 103 ) ؟ أو لم تسمع أن الله يقول : ( وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء إنه علي حكيم ) ، ( الشورى 51 ) ؟ قالت : ومن زعم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كتم شيئا من كتاب الله ، فقد أعظم على الله الفرية ، والله يقول : ( يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته ) ، ( المائدة 67 ) ، قالت : ومن زعم أنه يخبر بما يكون في غد ، فقد أعظم على الله الفرية ، والله يقول : ( قل لا يعلم من في السماوات والأرض الغيب إلا الله ) ، ( النمل 65 ) ، وزاد في رواية قالت : ولو كان محمد - صلى الله عليه وسلم - كاتما شيئا مما أنزل إليه ، لكتم هذه الآية ( وإذ تقول للذي أنعم الله عليه وأنعمت عليه أمسك عليك زوجك واتق الله وتخفي في نفسك ما الله مبديه وتخشى الناس والله أحق أن تخشاه ) ، ( الأحزاب 37 ) .

وعن أبي هريرة وابن مسعود في آية النجم مثل قول عائشة .

[ ص: 1072 ] قال أبو بكر بن خزيمة - رحمه الله - في قول عائشة - رضي الله عنها - " فقد أعظم على الله الفرية " قال : هذه لفظة أحسب عائشة تكلمت بها في وقت غضب ، كانت لفظة أحسن منها يكون فيها درك لبغيتها ، كان أجمل بها ، ليس يحسن في اللفظ أن يقول قائل أو قائلة : قد أعظم ابن عباس الفرية وأبو ذر وأنس بن مالك وجماعات من الناس الفرية على ربهم ، ولكن قد يتكلم المرء عند الغضب باللفظة التي يكون غيرها أحسن وأجمل منها ، أكثر ما في هذا أن عائشة - رضي الله عنها - وأبا ذر وابن عباس - رضي الله عنهما - وأنس بن مالك - رضي الله عنه - قد اختلفوا : هل رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه ؟ فقالت عائشة - رضي الله عنها : لم ير النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه . وقال أبو ذر وابن عباس - رضي الله عنهما : قد رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه . وقد أعلمت في مواضع من كتبنا أن النفي لا يوجب علما ، والإثبات هو الذي يوجب العلم ، لم تحك عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه خبرها أنه لم ير ربه - عز وجل ، وإنما تلت قوله - عز وجل : ( لا تدركه الأبصار ) ، ( الأنعام 103 ) ، وقوله : ( ما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا ) ، ( الشورى 51 ) ، ومن تدبر هاتين الآيتين ووفق لإدراك الصواب ، علم أنه ليس في واحدة من الآيتين ما يستحق من قال : إن محمدا رأى ربه الرمي بالفرية على الله ، كيف بأن يقول قد أعظم الفرية على الله ، ثم قال : رحمه الله [ ص: 1073 ] تعالى : فقد ثبت عن ابن عباس إثباته أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد رأى ربه ، وبيقين يعلم كل عالم أن هذا ليس من الجنس الذي يدرك بالعقول والآراء والجنان والظنون ، ولا يدرك مثل هذا العلم إلا من طريق النبوة ، إما بكتاب أو بقول نبي مصطفى ، ولا أظن أحدا من أهل العلم يتوهم أن ابن عباس قال : رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - ربه برأي ولا ظن لا ولا أبو ذر ولا أنس بن مالك .

نقول كما قال معمر بن راشد لما ذكر اختلاف عائشة - رضي الله عنها - وابن عباس في هذه المسألة : ما عائشة عندنا أعلم من ابن عباس ، نقول : عائشة الصديقة بنت الصديق حبيبة حبيب الله عالمة فقيهة ، كذلك ابن عباس - رضي الله عنهما - ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - قد دعا النبي - صلى الله عليه وسلم - له أن يرزق الحكمة والعلم ، وهذا المعنى من الدعاء وهو المسمى ترجمان القرآن ، وقد كان الفاروق - رضي الله عنه - يسأله عن معاني القرآن فيقبل منه ، وإن خالفه غيره ممن هو أكبر سنا منه وأقدم صحبة للنبي - صلى الله عليه وسلم ، وإذا اختلفا فمحال أن يقال قد أعظم ابن عباس الفرية على الله ; لأنه قد أثبت شيئا نفته عائشة - رضي الله عنها ، والعلماء لا يطلقون هذه اللفظة ، وإن غلط بعض العلماء في معنى الآية من كتاب الله - عز وجل - أو خالف سنة أو سننا من سنن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم تبلغ المرء تلك السنن ، فكيف يجوز أن يقال أعظم الفرية على الله من أثبت شيئا لم ينفه كتاب ولا سنة ، فتفهموا هذا لا تغالطوا ، ثم قال - رحمه الله تعالى : وقد كنت قديما أقول : إن عائشة حكت عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما كانت تعتقد في هذه المسألة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ير ربه - جل وعلا - وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - أعلمها ذلك ، وذكر ابن عباس - رضي الله عنهما - وأنس بن مالك وأبو ذر - رضي الله عنهم - عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى ربه لعلم كل عالم يفهم هذه الصناعة ، أن الواجب من طريق العلم والفقه قبول قول من روى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه رأى ربه ، إذ جائز أن تكون عائشة - رضي الله عنها - سمعت النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : لم أر ربي قبل أن يرى ربه - عز وجل ، ثم يسمع غيرها أن النبي - صلى الله عليه وسلم - يخبر أنه قد رأى ربه بعد رؤيته ربه ، فيكون الواجب من طريق العلم قبول خبر من أخبر أن النبي - صلى الله عليه وسلم - رأى ربه . انتهى كلامه ، رحمه الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية