معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

صفحة جزء
[ اختصاصه - صلى الله عليه وسلم - بعموم الرسالة ] .

والمقصود أن الله - تبارك وتعالى - اختصه بعموم الرسالة إلى الثقلين ، ولم يقبل من أحد صرفا ولا عدلا إلا باتباعه ، ولا يصل أحد دار السلام التي دعا الله إليها عباده إلا من طريقه ، فهو - صلى الله عليه وسلم - أكرم الرسل ، وأمته خير الأمم ، وشريعته أكمل الشرائع ، وكتابه مهيمن على كل كتاب أنزل ، لا نسخ له بعده ولا تغيير ، ولا تحويل ولا تبديل ، وأيده الله تعالى بالمعجزات الظاهرة ، والآيات الباهرة التي [ ص: 1100 ] أعظمها هذا القرآن الذي تحدى الله به أفصح الأمم وأبلغها وأقدرها على المنطق وأكثرها فيه اتساعا وأطولها فيه باعا وأكملها على أضربه وأنواعه اطلاعا ، مع عظم محادتهم له ومشاقتهم فيه ، وشدة حرصهم على رده ، وهو ينادي عليهم بأبلغ عبارة وأوجزها ، وأمتنها وأجزلها أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين ( الطور 34 ) ، أم يقولون افتراه قل فأتوا بعشر سور مثله مفتريات ( هود 13 ) ، وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله وادعوا شهداءكم من دون الله إن كنتم صادقين فإن لم تفعلوا ولن تفعلوا فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين ( البقرة 23 ) ، ثم نادى عليهم بالعجز عن ذلك كله ، فلا يقدر أحد منهم على شيء منه لا مجتمعين ولا متفرقين ، لا في زمن واحد ولا في أزمان ، فقال تعالى : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ( الإسراء 88 ) ، وغير ذلك من الآيات .

ولهذا لما أراد مسيلمة الكذاب معارضته مكابرة ومباهاة مع علمه أنه لا يقدر على شيء البتة ، فلما فعل ذلك ، جعل الله تعالى كلامه أسمج ما يسمع وأرك ما ينطق به ، وصار أضحوكة للصبيان في كل زمان ومكان ، حتى أنه لا يشبه كلام العقلاء ولا المجانين ولا النساء ولا المخنثين ، وصار كذبه معلوما عند كل أحد ، ووسمه الله - عز وجل - على لسان نبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - باسم الكذاب ، فلا يسمى إلا به ، ولا يعرف إلا به ، حتى صار أشهر من عليه العلم ، بل لا علم له غيره أبدا ، ويروى أن أصحاب الفيلسوف الكندي ، قالوا له : أيها الحكيم ، اعمل لنا مثل هذا القرآن . فقال : نعم ، أعمل مثل بعضه ، فاحتجب أياما كثيرة ، ثم خرج فقال : والله ما أقدر ولا يطيق هذا أحد ، إني فتحت المصحف فخرجت سورة المائدة ، فنظرت فإذا هو قد نطق بالوفاء ، ونهى عن النكث ، وحلل تحليلا عاما ، ثم استثنى [ ص: 1101 ] بعد استثناء ، ثم أخبر عن قدرته وحكمته في سطرين ، ولا يقدر أحد أن يأتي بهذا ، قلت : وهذا الذي قاله الفيلسوف مقدار فهمه ومبلغ علمه ، وإلا فبلاغة القرآن فوق ما يصف الواصفون ، وكيف يقدر البشر أن يصفوا صفات من ليس كمثله شيء وهو السميع البصير .

ومن ذلك انشقاق القمر ، قال الله تعالى : اقتربت الساعة وانشق القمر ( القمر 1 ) ، الآيات . وفي الصحيحين ، عن أنس - رضي الله عنه - قال : سأل أهل مكة أن يريهم آية ، فأراهم انشقاق القمر . وعن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : انشق القمر على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فرقتين : فرقة فوق الجبل ، وفرقة دونه . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : اشهدوا . زاد في رواية : ونحن مع النبي - صلى الله عليه وسلم .

ومنها حنين الجذع إليه - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح ، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما : إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يقوم يوم الجمعة إلى شجرة أو نخلة ، فقالت امرأة من الأنصار أو رجل : يا رسول الله ، ألا نجعل لك منبرا ؟ قال : إن شئتم ، فجعلوا له منبرا ، فلما كان يقوم الجمعة ، دفع إلى المنبر ، فصاحت النخلة صياح الصبي ، ثم نزل النبي - صلى الله عليه وسلم - فضمها إليه ، تئن أنين الصبي الذي يسكن ، قال : كانت تبكي على ما كانت تسمع من الذكر عندها . وفي رواية قال : فلما صنع له المنبر وكان عليه ، فسمعنا من ذلك الجذع صوتا كصوت العشار ، حتى جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - فوضع يده عليها فسكنت .

[ ص: 1102 ]

فيا حامدا معنى بصورة عاقل أما لك من قلب شهيد ولا سمع     يحن إليه الجذع شوقا وما لنا
ألسنا بذاك الشوق أولى من الجذع

.

ومنها تسبيح الطعام وتكثير القليل بإذن الله - عز وجل ، ونبع الماء من أصابعه الشريفة - صلى الله عليه وسلم - كما في الصحيح ، عن ابن مسعود - رضي الله عنه - قال : كنا نعد الآيات بركة ، وأنتم تعدونها تخويفا ، كنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في سفر ، فقل الماء فقال : اطلبوا فضلة من ماء ، فجاءوا بإناء فيه ماء قليل ، فأدخل يده في الإناء ، ثم قال : حي على الطهور المبارك والبركة من الله - عز وجل ، فلقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل .

وعن أنس - رضي الله عنه - قال : أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - بإناء وهو بالزوراء ، فوضع يده في الإناء ، فجعل الماء ينبع من أصابعه ، فتوضأ القوم ، قال : وكانوا ثلاثمائة أو زهاء ثلاثمائة .

وعن سالم بن أبي الجعد ، عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما - قال : عطش الناس يوم الحديبية ، والنبي - صلى الله عليه وسلم - بين يديه ركوة ، فتوضأ فجهش الناس نحوه فقال : ما لكم ؟ قالوا : ليس عندنا ما نتوضأ ولا نشرب إلا ما بين يديك ، فوضع يده في الركوة ، فجعل الماء يفور بين أصابعه كأمثال العيون ، فشربنا وتوضأنا . قلت : كم كنتم ؟ قال : لو كنا مائة ألف لكفانا ، كنا خمس عشرة مائة . وعن البراء بن عازب - رضي الله عنه - قال : كنا يوم الحديبية أربع عشرة مائة ، والحديبية بئر ، فنزحناها حتى لم نترك فيها قطرة ، فجلس النبي - صلى الله عليه وسلم - على شفير البئر ، فدعا بماء ، فمضمض ومج في البئر ، فمكثنا غير بعيد ، ثم استقينا حتى روينا وروت وأصدرت ركائبنا . وعن أنس بن مالك قال : قال أبو طلحة لأم سليم : لقد [ ص: 1103 ] سمعت صوت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ضعيفا ، أعرف فيه الجوع فهل عندك من شيء قالت نعم فأخرجت أقراصا من شعير ثم أخرجت خمارا لها فلفت الخبز ببعضه ثم دسته تحت يدي ولاثتني ببعضه ثم أرسلتني إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فذهبت به فوجدت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في المسجد ومعه الناس فقمت عليهم فقال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " آرسلك أبو طلحة " ؟ فقلت : نعم قال بطعام ؟ قلت : نعم . فقال : رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لمن معه " قوموا " فانطلق وانطلقت بين أيديهم حتى جئت أبا طلحة فأخبرته . فقال أبو طلحة : يا أم سليم : قد جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالناس وليس عندنا ما نطعمهم فقالت الله ورسوله أعلم فانطلق أبو طلحة حتى لقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأقبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وأبو طلحة معه فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " هلمي يا أم سليم ما عندك " فأتت بذلك الخبز فأمر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ففت وعصرت أم سليم عكة فأدمته ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيه ما شاء الله أن يقول ثم قال " ائذن لعشرة " فأذن لهم فأكلوا حتى شبعوا ثم خرجوا ثم قال " ائذن لعشرة " فأكل القوم كلهم حتى شبعوا والقوم سبعون أو ثمانون رجلا .

وعن جابر - رضي الله عنه - أن أباه توفي وعليه دين ، فأتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلت : إن أبي ترك دينا وليس عندي إلا ما يخرج نخله ، ولا يبلغ ما يخرج سنين ما عليه ، فانطلق معي لكيلا يفحش علي الغرماء ، فمشى حول بيدر من بيادر التمر ، فدعا ثم آخر ، ثم جلس عليه فقال : انزعوه ، فأوفاهم الذي لهم ، وبقي مثل ما أعطاهم . وفي حديث أبي قتادة الطويل في تلك الغزوة : ثم دعا بميضأة كانت معي ، فيها شيء من ماء ، فتوضأ منها وضوءا دون وضوء ، قال : وبقي منها شيء من ماء ، ثم قال لأبي قتادة : احفظ علينا ميضأتك ، فسيكون لها نبأ . الحديث ، إلى أن قال : فانتهينا إلى الناس حين امتد النهار وحمي كل شيء ، وهم يقولون : يا رسول الله [ ص: 1104 ] ، هلكنا عطشنا . فقال : لا هلك عليكم ، ثم قال : اطلقوا لي غمري . قال : ودعا بالميضأة ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصب وأبو قتادة يسقيهم ، فلم يعد أن رأى الناس ماء في الميضأة تكابوا عليها ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : أحسنوا الملء ، كلكم سيروى . قال : ففعلوا ، فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصب ويسقيهم حتى ما بقي غيري وغير رسول الله - صلى الله عليه وسلم . فقال لي : اشرب . فقلت : لا أشرب حتى تشرب يا رسول الله . قال : إن ساقي القوم آخرهم شربا . قال : فشربت وشرب رسول الله - صلى الله عليه وسلم . قال : فأتى الناس الماء جامين رواء .

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه كان يقول : الله الذي لا إله إلا هو إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع ، وإن كنت لأشد الحجر على بطني من الجوع ، ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه ، فمر أبو بكر فسألته عن آية من كتاب الله ، ما سألته إلا ليشبعني ، فمر ولم يفعل ، ثم مر بي عمر فسألته عن آية من كتاب الله ، ما سألته إلا ليشبعني ، فمر ولم يفعل ، ثم مر بي أبو القاسم - صلى الله عليه وسلم - فتبسم حين رآني ، وعرف ما في نفسي وما في وجهي ، ثم قال : أبا هر . قلت : لبيك يا رسول الله . قال : الحق ، ومضى فتبعته ، فدخل فاستأذن ، فأذن لي ، فدخل فوجد لبنا في قدح ، فقال : من أين هذا اللبن ؟ قالوا : أهداه لك فلان أو فلانة . قال : أبا هر . قلت : لبيك يا رسول الله . قال : الحق إلى أهل الصفة ، فادعهم لي . قال : وأهل الصفة أضياف الإسلام ، لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد ، إذا أتته صدقة ، بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا ، وإذا أتته هدية ، أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها ، فساءني ذلك ، فقلت : وما هذا اللبن في أهل الصفة ، كنت أحق أن أصيب من هذا اللبن شربة أتقوى بها ، فإذا جاء أمرني فكنت أنا أعطيهم ، وما عسى أن يبلغني من هذا اللبن ، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله بد ، فأتيتهم فدعوتهم ، فأقبلوا فاستأذنوا ، فأذن لهم وأخذوا مجالسهم من البيت ، قال : أبا هر . قلت : لبيك يا رسول الله . قال : خذ فأعطهم . قال : فأخذت القدح ، فجعلت أعطيه الرجل فيشرب حتى يروى ، ثم يرد علي القدح ، فأعطي [ ص: 1105 ] الرجل فيشرب حتى يروى ، ثم يرد علي القدح ، حتى انتهيت إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد روي القوم كلهم ، فأخذ القدح فوضعه على يده ، فنظر إلي فتبسم ، فقال : يا أبا هر . قلت : لبيك يا رسول الله . قال : بقيت أنا وأنت . قلت : صدقت يا رسول الله . قال : اقعد فاشرب ، فقعدت فشربت ، فما زال يقول اشرب حتى قلت : لا والذي بعثك بالحق ، ما أجد له مسلكا . قال : فأرني . فأعطيته القدح ، فحمد الله وسمى وشرب الفضلة .

وقال أبو داود - رحمه الله تعالى : حدثنا سليمان بن داود المهري ، حدثنا ابن وهب ، أخبرني يونس ، عن ابن شهاب قال : كان جابر بن عبد الله يحدث أن يهودية من أهل خيبر سمت شاة مصلية ، ثم أهدتها لرسول الله - صلى الله عليه وسلم ، فأخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الذراع ، فأكل منها وأكل رهط من أصحابه معه ، ثم قال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ارفعوا أيديكم ، وأرسل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المرأة ، فدعاها فقال لها : أسممت هذه الشاة ؟ قالت اليهودية : من أخبرك ؟ قال : أخبرتني هذه التي في يدي ، وهي الذراع . قالت : نعم . قال : فما أردت بذلك ؟ قالت : قلت إن كنت نبيا ، فلن تضرك ، وإن لم تكن نبيا ، استرحنا منك . الحديث وهو في صحيح البخاري ، عن أبي هريرة في مواضع مختصرا ومطولا .

لكن الشاهد منه في هذه الرواية أصرح ، وهو قوله : أخبرتني هذه ، للذراع . وقد رواه جماعة من الصحابة في عامة الأمهات وغيرها ، ودلائل نبوته - صلى الله عليه وسلم - أكثر من أن تحصى في الأسفار ، فضلا عن هذا المختصر ، وقد جمعت فيها التصانيف المستقلات من المختصرات والمطولات ، وبالله التوفيق .

وكذا قد صنفت التصانيف الجمة في صفاته الخلقية والخلقية وسيرته وشمائله ومعاملاته مع الحق ومع الخلق ، فلتراجع لها مصنفاتها . وكذا خصائصه [ ص: 1106 ] التي انفرد بها في الدنيا والآخرة عن غيره من الرسل السماويين والأرضيين ، وقد تقدم التنبيه على مهمات من ذلك .

التالي السابق


الخدمات العلمية