معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

صفحة جزء
المسألة الثالثة : أن هذا الذي بلغه الرسول - صلى الله عليه وسلم - عن ربه تعالى هو جميع دين الإسلام مكملا محكما ، لم يبق فيه نقص بوجه من الوجوه فيحتاج إلى تكميل ، ولم يبق فيه إشكال فيحتاج إلى حل ، ولا إجمال فيفتقر إلى تفصيل ، قال الله تعالى : ما فرطنا في الكتاب من شيء ( الأنعام 38 ) ، فكما أن الإمام المبين قد أحصى كل ما هو كائن ، كما علمه الله - عز وجل ، فكذلك هذا القرآن واف شاف كاف محيط بجميع أصول الشريعة وفروعها وأقوالها وأعمالها وسرها وعلانيتها ، فمن لم يكفه فلا كفي ، ومن لم يشفه فلا شفي ، أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة وذكرى لقوم يؤمنون ( العنكبوت 51 ) ، فبأي حديث بعده يؤمنون وكما وفى بتقرير الدين وتكميله وشرحه وتفصيله ، كذلك هو واف بالذب عنه وبرد كل شبهة ترد عليه ، وبقمع كل ملحد ومعاند ومشاق ومحاد ، وبدمغ كل باطل وإزهاقه ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ( الفرقان 33 ) ، بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق ( الأنبياء 18 ) ، إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ( الحجر 9 ) ، [ ص: 1111 ] إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أفمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ما يقال لك إلا ما قد قيل للرسل من قبلك إن ربك لذو مغفرة وذو عقاب أليم ولو جعلناه قرآنا أعجميا لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي وعربي قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يؤمنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد ( فصلت 40 - 44 ) .

وكذلك السنة من جوامع كلم الرسول - صلى الله عليه وسلم - التي اختصه الله بها ، هي روح المعاني والوحي الثاني ، والحكمة والبيان وتبيان القرآن ، والنور والبرهان ، فلم يتوف - صلى الله عليه وسلم - حتى بين الشريعة أكمل بيان ، ولم يكن ليتوفاه الله تعالى قبل بيان ما بالناس إليه حاجة في دينهم ودنياهم وآخرتهم ، والله تعالى يقول : وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه وهدى ورحمة لقوم يؤمنون ( النحل 64 ) ، ويقول تعالى : وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون ( النحل 44 ) ، ثم يخبر أنه ما أنزل عليك الكتاب إلا لذلك ، فكيف يتوفاه قبل إنفاد ذلك وإنجازه ، مع قوله تعالى له - صلى الله عليه وسلم - ولأمته كلهم ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون ( البقرة 151 ) فكيف يعدنا تعالى بإتمام النعمة وإكمال الدين ، ثم يتوفى رسوله قبل إنجاز ذلك ، وهو - عز وجل - لا يخلف الميعاد ؟ والذي بعثه بالحق بشيرا ونذيرا ما توفاه الله - عز وجل - حتى بلغ ما أرسله الله به أكمل بلاغ ، وبينه أتم بيان ، وفصله أوضح تفصيل ، وأكمل به الدين ، وأتم علينا النعمة ، ولهذا أنزل عليه في آخر ما أنزل في يوم الجمعة الذي اختص به هو وأمته ، وهداهم له في أشرف موقف وأفضل عشية يوم الحج الأكبر ، وهو واقف بعرفة في ذلك الجمع الأعظم الذي لم يتفق وقوع مثله ، ولم يتفق أكثر الناس برسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعده اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا ( المائدة 3 ) [ ص: 1112 ] ، فأخبر فيها بإكمال دينه الذي وعدنا إظهاره في قوله - عز وجل - هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون ( التوبة 33 ) وبإتمامه النعمة كما وعد في قوله تعالى : ولأتم نعمتي عليكم وتقدم الحديث الصحيح في قول اليهودي لعمر في شأنها وما رد عليه به .

وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس قوله تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم ( المائدة 3 ) وهو الإسلام ، أخبر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - والمؤمنين أنه قد أكمل لهم شرائع الإيمان ، فلا يحتاجون إلى زيادة أبدا ، وقد أتمه فلا ينقصه أبدا ، وقد رضيه فلا يسخطه أبدا ، قلت : وفي ضمن هذا الخطاب معنى ، فارضوا به أنتم لأنفسكم ، ولهذا قال النبي - صلى الله عليه وسلم : ذاق طعم الإيمان من رضي بالله ربا ، وبالإسلام دينا ، وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيا . وأمرنا بهذا الذكر في كل مساء وصباح ، وقال أسباط ، عن السدي : نزلت هذه الآية يوم عرفة ، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام ، ورجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمات . قالت أسماء بنت عميس : حججت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلك الحجة ، فبينما نحن نسير إذ تجلى له جبريل ، فبينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على الراحلة ، فلم تطق الراحلة من ثقل ما يميلها من القرآن فبركت ، فأتيته فسجيت عليه بردا كان علي .

وقال ابن جرير وغير واحد : مات رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوما . رواهما ابن جرير ، وله عن هارون بن عنترة ، عن أبيه قال : لما نزلت اليوم أكملت لكم دينكم وذلك يوم الحج ، بكى عمر - رضي الله عنه - فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم : ما يبكيك ؟ قال : - رضي الله عنه : كنا في زيادة من ديننا ، فأما إذا أكمل ، فإنه لم يكمل شيء إلا نقص ، فقال : صدقت . وقال ابن عباس - رضي [ ص: 1113 ] الله عنهما - في قول الله تعالى : ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ( الفرقان 33 ) قال : ولا يأتونك بمثل ، أي بما يلتمسون به غير القرآن والرسول ، إلا جئناك بالحق الآية أي لإنزال جبريل من الله تعالى بجوابهم .

وما هذا إلا اعتناء وكبر شرف للرسول - صلى الله عليه وسلم - حيث كان يأتيه الوحي من الله - عز وجل - بالقرآن صباحا ومساء ، وليلا ونهارا ، سفرا وحضرا ، وكل مرة كان يأتيه الملك بالقرآن لا كإنزال الكتب قبله المتقدمة ، فهذا المقام أعلى وأجل وأعظم مكانة من سائر إخوانه الأنبياء - صلوات الله عليهم أجمعين . فالقرآن أشرف كتاب أنزله الله ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - أعظم نبي أرسله الله تعالى . وقد جمع الله للقرآن الصفتين معا : ففي الملأ الأعلى أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا ، ثم أنزل بعد ذلك إلى الأرض منجما بحسب الوقائع والحوادث ، كذلك لنثبت به فؤادك ورتلناه ترتيلا ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا ( الفرقان 33 ) وقرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا ( الإسراء 106 ) .

وكما وفى بالرد على كل مشاق لله ورسوله من الوثنيين والمنافقين والكتابيين ووغيرهم ، ونزل منجما على حسب ذلك ، فكذلك هو واف برد شبهة كل ملحد إلى يوم القيامة ، اقرأ على من ادعى النبوة ولكن رسول الله وخاتم النبيين ( الأحزاب 40 ) وعلى الدجال فواتح سورة الكهف ، وعلى المعطل والمشبه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ، يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما وعلى النافي للقدر من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم ( الأنعام 39 ) إنا كل شيء خلقناه بقدر ( القمر 49 ) وعلى الجبرية الغلاة لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ( البقرة 286 ) رسلا مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل ( النساء 165 ) [ ص: 1114 ] قل فلله الحجة البالغة ( الأنعام 149 ) فلو شاء لهداكم أجمعين ( الأنعام 149 ) وعلى نفاة الرؤية وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ( القيامة 23 ) وعلى الرافضة ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا ( التوبة 40 ) وعلى الناصبة والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ( التوبة 100 ) الآية إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ( الأحزاب 33 ) وعلى الفريقين والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنوا ( الحشر 10 ) وعلى كل ذي بدعة مطلقا اليوم أكملت لكم دينكم . . . إلى آخرها مع قوله تعالى : أفغير دين الله يبغون ( آل عمران 83 ) ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه ( آل عمران 85 ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية