معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

صفحة جزء
مواقفه العظيمة .

وأما ما منحه الله تعالى من المواقف العظيمة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - من حين بعثته إلى أن توفاه الله - عز وجل - من نصرته ، والذب عنه ، والشفقة عليه ، والدعوة إلى ما دعا إليه ، وملازمته إياه ، ومواساته بنفسه وماله ، وتقدمه معه في كل خير ، فأمر لا تدرك غايته ، ثم لما توفى الله - عز وجل - نبيه - صلى الله عليه وسلم - كان من رحمة الله تعالى بهذه الأمة أن ولاه أمرهم بعد نبيه ، وجمعهم عليه بلطفه ، فجمع الله به شمل العرب بعد شتاته ، وقمع به كل عدو للدين ودمر عليه ، وألف له الأمة وردهم إليه بعد أن ارتد أكثرهم عن دينه ، وانقلب الغالب منهم على أعقابهم كافرين ، حتى قيل : لم يبق يصلى إلا في ثلاثة مساجد : الحرمين الشريفين ، ومسجد العلاء بن الحضرمي بالبحرين ، فردهم الله تعالى إلى الحق طوعا وكرها ، وأطفأ به كل فتنة في أقل من ستة أشهر ، ولله الحمد والمنة .

[ ص: 1145 ] قال الله - تبارك وتعالى : يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم ( المائدة 54 ) الآيات .

قال علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - والحسن البصري وقتادة : هم أبو بكر وأصحابه الذين قاتلوا أهل الردة ومانعي الزكاة .

وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قبض ارتد عامة العرب ، إلا أهل مكة والمدينة والبحرين من عبد القيس ، ومنع بعضهم الزكاة . وهم أبو بكر - رضي الله عنه - بقتالهم ، فكره ذلك أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - وقال عمر - رضي الله عنه : كيف تقاتل الناس ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فمن قال لا إله إلا الله ، عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه ، وحسابهم على الله - عز وجل ؟ فقال أبو بكر - رضي الله عنه : فوالله لأقتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عناقا كانوا يؤدونها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها .

قال أنس بن مالك - رضي الله عنه : كرهت الصحابة - رضي الله عنهم - قتال مانعي الزكاة ، وقالوا : أهل القبلة ، فتقلد أبو بكر - رضي الله عنه - سيفه ، وخرج وحده ، فلم يجدوا بدا من الخروج في أثره . قال ابن مسعود - رضي الله عنه : سمعت أبا حصين يقول : ما ولد بعد النبيين مولود أفضل من أبي بكر - رضي الله عنه ، لقد قام مقام نبي من الأنبياء في قتال أهل الردة ، وكان قد ارتد في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم - ثلاث فرق : منهم بنو مذحج ، ورئيسهم ذو الخمار عبهلة بن كعب العنسي ، ويلقب بالأسود ، وكان كاهنا مشعبذا فتنبأ باليمن واستولى على بلاده ، فكتب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى معاذ بن جبل ومن معه من [ ص: 1146 ] المسلمين ، وأمرهم أن يحثوا الناس على التمسك بدينهم ، وعلى النهوض لحرب الأسود ، فقتله فيروز الديلمي على فراشه ، قال - رضي الله عنه : فأتى الخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - من السماء في الليلة التي قتل فيها ، فقال - صلى الله عليه وسلم : قتل الأسود البارحة ، قتله رجل مبارك . قيل : ومن هو ؟ قال : فيروز ، فاز فيروز . فبشر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بهلاك الأسود ، وقبض النبي - صلى الله عليه وسلم - من الغد ، وأتى خبر مقتل العنسي المدينة في آخر شهر ربيع الأول بعد ما خرج أسامة ، وكان ذلك أول فتح جاء أبا بكر - رضي الله عنه .

والفرقة الثانية : بنو حنيفة ، ورئيسهم مسيلمة الكذاب ، وكان قد تنبأ في حياة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في آخر سنة عشر ، وزعم أنه اشترك مع محمد - صلى الله عليه وسلم - في النبوة ، وكتب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم : من مسيلمة رسول الله ، إلى محمد رسول الله ، أما بعد ، فإن الأرض نصفها لي ونصفها لك ، وبعث إليه رجلين من أصحابه ، فقال لهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم : لولا أن الرسل لا تقتل ، لضربت أعناقكما ، ثم أجاب : من محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، إلى مسيلمة الكذاب : أما بعد ، فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده ، والعاقبة للمتقين .

ومرض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وتوفي ، فبعث أبو بكر خالد بن الوليد إلى مسيلمة الكذاب في جيش كثير حتى أهلكه الله على يدي ، وحشي غلام مطعم بن عدي الذي قتل حمزة بن عبد المطلب بعد حرب شديدة ، وكان وحشي يقول : قتلت خير الناس في الجاهلية ، وشر الناس في الإسلام .

والفرقة الثالثة : بنو أسد ، ورأسهم طليحة بن خويلد ، وكان طليحة آخر من ارتد [ ص: 1147 ] وادعى النبوة في حياة النبي - صلى الله عليه وسلم ، وأول من قوتل بعد وفاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل الردة ، فبعث أبو بكر خالد بن الوليد ، فهزمهم خالد بعد قتال شديد ، وأفلت طليحة ، فمر على وجهه هاربا نحو الشام ، ثم إنه أسلم بعد ذلك ، وحسن إسلامه .

وارتد بعد وفاة النبي - صلى الله عليه وسلم - في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه - خلق كثير حتى كفى الله المسلمين أمرهم ، ونصر دينه على يدي أبي بكر - رضي الله عنه ، قالت عائشة - رضي الله عنها : توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وارتدت العرب ، واشرأب النفاق ، ونزل بأبي ما نزل لو بحبار لهاضها . انتهى من تفسير البغوي ، رحمه الله .

التالي السابق


الخدمات العلمية