معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

صفحة جزء
وروى ابن أبي حاتم ، عن الحسن البصري فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ( المائدة 54 ) قال حسن : هو والله أبو بكر وأصحابه . وأخرج عبد بن حميد ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وأبو الشيخ ، والبيهقي في سننه ، وابن عساكر ، عن قتادة : قال الله تعالى هذه الآية : يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم ( المائدة 54 ) وقد علم أنه سيرتد مرتدون من الناس ، فلما قبض الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - ارتد عامة العرب عن الإسلام إلا ثلاثة مساجد : أهل المدينة ، وأهل مكة ، وأهل جؤاثي من عبد القيس .

وقال الذين ارتدوا : نصلي الصلاة ولا نزكي ، والله لا تغصب أموالنا ، فكلم أبو بكر في ذلك ليتجاوز عنهم ، وقيل له : إنهم لو قد فقهوا أدوا الزكاة . فقال : والله لا أفرق بين شيء جمعه الله - عز وجل ، ولو منعوني عقالا مما فرض الله ورسوله لقاتلتهم عليه ، فبعث الله عصائب مع أبي بكر فقاتلوا حتى أقروا بالماعون وهو الزكاة . قال قتادة : فكنا نتحدث أن هذه [ ص: 1148 ] الآية نزلت في أبي بكر وأصحابه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ( المائدة 54 ) إلى آخر الآية .

ولا ينافي هذا ما ورد من أنها نزلت في أهل اليمن كما أخرج ابن جرير ، عن شريح بن عبيد قال : لما أنزل الله يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه ( المائدة 54 ) الآية ، قال عمر - رضي الله عنه : أنا وقومي يا رسول الله ؟ قال : لا ، بل هذا وقومه - يعني : أبا موسى الأشعري .

وأخرج ابن سعد ، وابن أبي شيبة في مسنده ، وعبد بن حميد ، والحكيم الترمذي ، وابن جرير ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والحاكم وصححه ، والبيهقي في الدلائل ، عن عياض الأشعري قال : لما نزلت فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ( المائدة 54 ) قال رسول الله : هم قوم هذا ، وأشار إلى أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه .

وأخرج أبو الشيخ ، وابن مردويه ، والحاكم في جمعه لحديث شعبة ، والبيهقي ، وابن عساكر ، عن أبي موسى الأشعري - رضي الله عنه - قال : تليت على النبي - صلى الله عليه وسلم - فسوف يأتي الله بقوم ( المائدة 54 ) الآية ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : قومك يا أبا موسى الأشعري ، أهل اليمن .

[ ص: 1149 ] وأخرج ابن أبي حاتم في الكنى والطبراني في الأوسط ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه بسند حسن ، عن جابر بن عبد الله قال : سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قوله : فسوف يأتي الله بقوم ( المائدة 54 ) الآية ، فقال : هؤلاء قوم من أهل اليمن ، ثم كندة ، ثم السكون ، ثم تجيب .

وأخرج البخاري في تاريخه ، وابن أبي حاتم ، وأبو الشيخ ، عن ابن عباس في الآية قال : هم قوم من أهل اليمن ، ثم من كندة ، ثم من السكون . وأخرج ابن أبي شيبة عنه قال : هم أهل القادسية .

قلت : وكان غالب أهل القادسية من أهل اليمن ، بل كانت بجيلة ربع الناس فضلا عن غيرهم ، وكان بأس الناس الذي هم فيه ، كما رواه ابن إسحاق ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم قال : وكان يمر عمرو بن معد يكرب الزبيدي ، فيقول : يا معشر المهاجرين كونوا أسودا ، فإنما الفارسي تيس . وقد قتل - رضي الله عنه - أسوارا فارس الفرس ، وأبلى بلاء حسنا ، وكانت له اليد البيضاء يومئذ .

وأخرج البخاري - رحمه الله تعالى - في تأريخه ، عن القاسم بن ينخسرة قال : أتيت ابن عمير فرحب بي ، ثم تلا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه ( المائدة 54 ) الآية ، ثم ضرب على منكبي وقال : أحلف بالله أنه لمنكم أهل اليمن . ثلاثا .

[ ص: 1150 ] وكل هذا لا ينافي ما قدمناه من نزولها في أبي بكر أولا ، فإن أهل اليمن لم يرتد جميع قبائلهم يومئذ ، وإنما ارتد كثير منهم مع الأسود ، وثبت كثير منهم على الإيمان مع معاذ بن جبل ، وأبي موسى ، وفيروز الديلمي ، وغيرهم من عمال النبي - صلى الله عليه وسلم ، ونشب بين مؤمنهم وكافرهم قتال عظيم ، حتى قتل الله الأسود على يد فيروز ، وأيد الله الذين آمنوا منهم على عدوهم فأصبحوا ظاهرين ، ولكن لم يرجع أمرهم على ما كانوا عليه قبل العنسي إلا في خلافة أبي بكر - رضي الله عنه ، فإنه لم يزل يتابع الكتائب مددا لمؤمنهم على كافرهم حتى راجعوا الإسلام ، وكانوا من أعظم أنصاره حتى صار رؤساء ردتهم كعمرو بن معد يكرب وقيس بن مكشوح وغيرهم من أعظم الناس وأشدهم بلاء في أيام الردة والفتوح ، فحينئذ عاد المعنى إلى أبي بكر وأصحابه ، وهم من أصحابه ، وكل هذا في شأن السبب لنزول الآية ، وإلا فهي عامة لكل مؤمن يحب الله ويحبه ، ويوالي فيه ويعادي فيه ، ولا يخاف في الله لومة لائم .

وكان أبو بكر وأصحابه أسعد الناس بذلك ، وأقدمهم فيه ، وأسبقهم إليه ، وأول من تناولته الآية - رضي الله عنه - وأرضاه ، وعن أنصار الإسلام وحزبه أجمعين .

وفي الصحيحين ، وغيرهما ، عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، واستخلف أبو بكر بعده ، وكفر من كفر من العرب ، قال عمر بن الخطاب لأبي بكر - رضي الله عنه : كيف تقاتل الناس ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فمن قال لا إله إلا الله ، فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه ، وحسابه على الله - عز وجل . فقال أبو بكر : والله ، لأقاتلن من فرق بين الصلاة والزكاة ، فإن الزكاة حق المال ، والله لو منعوني عقالا كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعه ، فقال عمر بن الخطاب : فوالله ما هو إلا أن رأيت الله - عز وجل - قد شرح صدر أبي بكر للقتال ، فعرفت أنه الحق .

وتفاصيل مواقفه العظام - رضي الله عنه - مشهورة مبسوطة في كتب السيرة [ ص: 1151 ] وغيرها ، وكانت مدة خلافته سنتين وثلاثة أشهر ، وكانت وفاته - رضي الله عنه - في يوم الاثنين عشية ، وقيل بعد المغرب ، ودفن من ليلته وذلك لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ثلاث عشرة بعد مرض خمسة عشر يوما ، وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يصلي بالمسلمين ، وفي أثناء هذا المرض عهد بالأمر من بعده إلى عمر بن الخطاب ، وكان الذي كتب العهد عثمان بن عفان ، وقرئ على المسلمين فأقروا به ، وسمعوا له وأطاعوا ، وكان عمر الصديق - رضي الله عنه - يوم توفي ثلاثا وستين سنة ، السن الذي توفي فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وقد جمع الله بينهما في التربة كما جمع بينهما في الحياة ، فرضي الله عنه وأرضاه ، ومن جميع أبواب الجنة دعاه ، وقد فعل ولله الحمد والمنة .

خلافة الفاروق رضي الله عنه .


ثانيه في الفضل بلا ارتياب الصادع الناطق بالصواب     أعني به الشهم أبا حفص عمر
من ظاهر الدين القويم ونصر     الصارم المنكي على الكفار
وموسع الفتوح في الأمصار

.

( ثانيه ) أي ثاني أبي بكر ( في الفضل ) على الناس بعده فلا أفضل منه ، وكذا هو ثانيه في الخلافة بالإجماع ( بلا ارتياب ) أي بلا شك ( الصادع ) بالحق المجاهر به الذي لا يخاف في الله لومة لائم ، ومنه قول الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم فاصدع بما تؤمر ( الحجر 94 ) فكان عمر - رضي الله عنه - كذلك ، وبه سماه النبي - صلى الله عليه وسلم - فاروقا ( الناطق بالصواب ) والذي وافق الوحي في أشياء قبل نزوله ، كما سيأتي ( أعني به ) أي بهذا النعت ( الشهم ) الذكي المتوقد السيد المطاع الحكم القوي في أمر الله الشديد في دين الله ( أبا حفص عمر ) بن الخطاب بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب العدوي ثاني الخلفاء ، وإمام الحنفاء بعد أبي بكر - رضي الله عنهما ، وأول من تسمى أمير المؤمنين ، ( الصارم ) السيف المسلول ( المنكي ) من النكاية ( على الكفار ) لشدته عليهم ، وإثخانه إياهم حتى إن كان شيطانه ليخافه أن يأمره بمعصية ، كما قاله علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - ( وموسع ) من الاتساع ( الفتوح ) فتوح الإسلام [ ص: 1152 ] ( في الأمصار ) فكمل فتوح بلاد الروم بعد اليرموك ، ثم بلاد فارس حتى مزق الله به ملكهم كل ممزق ، ثم أوغل في بلاد الترك كما هو مبسوط في كتب السير وغيرها .

تقدمت إشارات النصوص النبوية إلى خلافته قريبا مع ذكر أبي بكر - رضي الله عنه ، وكثير من فضائله أيضا التي شارك فيها أبا بكر ، وفي الصحيحين عن جابر - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم : رأيتني دخلت الجنة فإذا أنا بالرميصاء امرأة أبي طلحة ، وسمعت خشخشة فقلت : من هذا ؟ فقال : هذا بلال ، ورأيت قصرا بفنائه جارية ، فقلت : لمن هذا ؟ فقال : لعمر ، فأردت أن أدخله فأنظر إليه ، فذكرت غيرتك ، فقال عمر : بأبي وأمي يا رسول الله ، أعليك أغار ؟

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : بينا نحن عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ قال : بينا أنا نائم رأيتني في الجنة ، فإذا امرأة تتوضأ إلى جانب قصر ، فقلت : لمن هذا القصر ؟ فقالوا : لعمر ، فذكرت غيرته فوليت مدبرا ، فبكى عمر ، وقال : أعليك أغار يا رسول الله ؟

وعن حمزة بن عبد الله بن عمر بن الخطاب ، عن أبيه ، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : بينا أنا نائم ، إذ رأيت قدحا أوتيت به فيه لبن ، فشربت منه حتى إني لأرى الري يجري في أظفاري ، ثم أعطيت فضلي عمر بن الخطاب . قالوا : فما أولت ذلك يا رسول الله ؟ قال : العلم .

[ ص: 1153 ] وعن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : بينا أنا نائم ، رأيت الناس عرضوا علي ، وعليهم قمص ، فمنها ما يبلغ الثدي ، ومنها ما يبلغ دون ذلك ، وعرض علي عمر بن الخطاب ، وعليه قميص يجتره ، قالوا : فما أولته يا رسول الله ؟ قال : الدين .

وعن محمد بن سعد بن أبي وقاص ، عن أبيه قال : استأذن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وعنده نسوة من قريش يكلمنه ، ويستكثرنه عالية أصواتهن على صوته - صلى الله عليه وسلم ، فلما استأذن عمر بن الخطاب قمن فبادرن الحجاب ، فأذن له رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، فدخل عمر ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يضحك ، فقال عمر : أضحك الله سنك يا رسول الله . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم : عجبت من هؤلاء اللاتي كن عندي ، فلما سمعن صوتك ابتدرن الحجاب . فقال عمر : فأنت أحق أن يهبن يا رسول الله . فقال عمر : يا عدوات أنفسهن ، أتهبنني ولا تهبن رسول الله - صلى الله عليه وسلم ؟ فقلن : نعم ، أنت أفظ وأغلظ من رسول الله - صلى الله عليه وسلم . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : إيها يا ابن الخطاب ، والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطان سالكا فجا قط إلا سلك فجا غير فجك .

وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم : لقد كان فيمن كان قبلكم من بني إسرائيل رجال يكلمون من غير أن يكونوا أنبياء ، فإن يكن من أمتي منهم أحد فعمر .

[ ص: 1154 ] وعن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنه قال : لما توفي عبد الله بن أبي ، جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأعطاه قميصه ، وأمره أن يكفنه فيه ، ثم قام يصلي عليه ، فأخذ عمر بن الخطاب بثوبه ، فقال : تصلي عليه وهو منافق ، وقد نهاك الله أن تستغفر لهم ؟ قال : إنما خيرني الله أو أخبرني الله ، فقال : استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ( التوبة 80 ) فقال : سأزيده على سبعين . قال : فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وصلينا معه ، ثم أنزل الله عليه ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره إنهم كفروا بالله ورسوله وماتوا وهم فاسقون ( التوبة 84 ) . متفق على جميعها .

وفي البخاري ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما ، عن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أنه قال : لما مات عبد الله بن أبي بن سلول ، دعي له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليصلي عليه ، فلما قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، وثبت إليه فقلت : يا رسول الله أتصلي على ابن أبي ، وقد قال يوم كذا كذا وكذا ، قال : اعدد عليه قوله . فتبسم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال : أخر عني يا عمر ، فلما أكثرت عليه قال : إني خيرت فاخترت ، لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها . قال : فصلى عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم انصرف ، فلم يلبث إلا يسيرا حتى نزلت الآيتان من " براءة " ولا تصل على أحد منهم مات أبدا . . . إلى قوله : وهم فاسقون ( التوبة 84 ) قال : فعجبت من جرأتي على رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، والله ورسوله أعلم .

وفي صحيح مسلم من حديث ابن عباس - رضي الله عنه - في قصة أسارى بدر بطوله ، قال ابن عباس : فلما أسروا الأسارى ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأبي بكر وعمر : ما ترون في هؤلاء الأسارى ؟ فقال أبو بكر : هم يا نبي الله بنو العم والعشيرة ، أرى أن تأخذ منهم فدية ، فتكون لنا قوة على الكفار ، فعسى الله أن يهديهم للإسلام ، [ ص: 1155 ] فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : ما ترى يا ابن الخطاب ؟ قلت : لا والله يا رسول الله ، ما أرى الذي رأى أبو بكر ، ولكني أرى أن تضرب أعناقهم ، فتمكن عليا من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكنني من فلان - نسيبا لعمر - فأضرب عنقه ، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها ، فهوي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر ، ولم يهو ما قلت ، فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر قاعدين يبكيان ، قلت : يا رسول الله ، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبك ، فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما . قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : أبكي للذي عرض علي في أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عرض علي عذابهم أدنى من هذه الشجرة - شجرة قريبة من نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وأنزل الله - عز وجل ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض - إلى قوله - فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا ( الأنفال 67 - 69 ) فأحل الله الغنيمة لهم .

وفي صحيح البخاري ، عن أنس - رضي الله عنه - قال : قال عمر - رضي الله عنه : وافقت الله في ثلاث أو وافقني الله في ثلاث ، قلت : يا رسول الله ، لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فأنزل الله تعالى : واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى ( البقرة 125 ) وقلت : يا رسول الله ، يدخل عليك البر والفاجر ، فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ، فأنزل الله آية الحجاب ، قال : وبلغني معاتبة النبي - صلى الله عليه وسلم - بعض نسائه ، فدخلت عليهن قلت : إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله - صلى الله عليه وسلم - خيرا منكن ، حتى أتيت إحدى نسائه ، قالت : يا عمر ، ما في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت ؟ فأنزل الله تعالى : عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجا خيرا منكن مسلمات ( التحريم 5 ) .

[ ص: 1156 ] وعنه - رضي الله عنه - أن رجلا سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الساعة ، فقال : متى الساعة ؟ قال : وماذا أعددت لها ؟ قال : لا شيء إلا أني أحب الله ورسوله - صلى الله عليه وسلم . فقال : أنت مع من أحببت . قال أنس : فما فرحنا بشيء كما فرحنا بقول النبي - صلى الله عليه وسلم : أنت مع من أحببت . قال أنس : فأنا أحب النبي - صلى الله عليه وسلم - وأبا بكر وعمر ، وأرجو أن أكون معهم بحبي إياهم ، وإن لم أعمل بمثل أعمالهم .

وعن ابن عمر - رضي الله عنه - قال : ما رأيت أحدا قط بعد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من حين قبض كان أجد وأجود ، حتى انتهى من عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه .

وعن المسور بن مخرمة قال : لما طعن عمر - رضي الله عنه - جعل يألم ، فقال ابن عباس - رضي الله عنهما - وكأنه يجزعه : يا أمير المؤمنين ، ولئن كان ذلك لقد صحبت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأحسنت صحبته ، ثم فارقته وهو عنك راض ، ثم صحبت أبا بكر فأحسنت صحبته ، ثم فارقته وهو عنك راض ، ثم صحبت صحبتهم ، ولئن فارقتهم ، لتفارقنهم وهم عنك راضون . قال : أما ما ذكرت من صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ورضاه ، فإنما ذاك من الله تعالى من به تعالى علي ، وأما ما ذكرت من صحبة أبي بكر ورضاه ، فإنما ذلك من الله - عز وجل - ذكره ، من به علي ، وأما ما ترى من جزعي ، فهو من أجلك وأجل أصحابك ، والله لو أن لي طلاع الأرض ذهبا ، لافتديت به من عذاب الله - عز وجل - قبل أن أراه .

وفيهما عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال : وضع عمر على سريره ، فتكنفه الناس يدعون ويصلون قبل أن يرفع وأنا فيهم ، فلم يرعني إلا رجل آخذ منكبي ، فإذا علي - رضي الله عنه - فترحم على عمر ، وقال : ما خلفت أحدا أحب إلي أن ألقى الله بمثل عمله منك ، وأيم الله إن كنت لأظن أن يجعلك الله تعالى مع [ ص: 1157 ] صاحبيك ، وحسبك أني كنت أسمع النبي - صلى الله عليه وسلم - يقول كثيرا : ذهبت أنا وأبو بكر وعمر ، ودخلت أنا وأبو بكر وعمر . زاد مسلم في آخره أيضا : فإن كنت لأرجو أو لأظن أن يجعلك الله تعالى معهما . والأحاديث في فضله كثيرة جدا قد أفردت بالتصنيف ، وفيما ذكرناه كفاية .

قصة استشهاد الفاروق ، رضي الله عنه .

وكان قصة استشهاده ما ذكره البخاري - رحمه الله تعالى - قال : حدثنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عوانة ، عن حصين ، عن عمرو بن ميمون قال : رأيت عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - قبل أن يصاب بأيام بالمدينة ، وقف على حذيفة بن اليمان وعثمان بن حنيف ، وقال : كيف فعلتما ؟ أتخافان أن تكونا قد حملتما الأرض ما لا تطيق ؟ قالا : لا حملناها أمرا هي له مطيقة ، ما فيها كبير فضل ، قال : انظرا أن تكونا حملتما الأرض ما لا تطيق . قالا : لا . فقال عمر : لئن سلمني الله تعالى لأدعن أرامل أهل العراق لا يحتجن إلى رجل بعدي أبدا . قال : فما أتت عليه رابعة حتى أصيب ، رضي الله عنه .

قال : إني لقائم ما بيني وبينه إلا عبد الله بن عباس غداة أصيب ، وكان إذا مر بين الصفين قال : استووا ، حتى إذا لم ير فيهن خللا تقدم فكبر ، وربما قرأ سورة يوسف أو النحل أو نحو ذلك في الركعة الأولى حتى يجتمع الناس ، فما هو إلا أن كبر حتى سمعته يقول : قتلني ، أو أكلني الكلب حين طعنه ، فطار العلج بسكين ذات طرفين لا يمر على أحد يمينا ولا شمالا إلا طعنه ، حتى طعن ثلاثة عشر رجلا ، مات منهم سبعة ، فلما رأى ذلك رجل من المسلمين ، طرح عليه برنسا ، فلما ظن العلج أنه مأخوذ نحر نفسه ، وتناول عمر يد عبد الرحمن بن عوف فقدمه ، فمن يلي عمر فقد رأى الذي أرى ، وأما نواحي المسجد فلا يدرون غير أنهم فقدوا صوت عمر - رضي الله عنه ، وهم يقولون : سبحان الله سبحان الله ، فصلى بهم عبد الرحمن بن عوف صلاة خفيفة ، فلما [ ص: 1158 ] انصرفوا قال : يا ابن عباس ، انظر من قتلني . فجال ساعة ، ثم جاء فقال : غلام المغيرة . فقال : الصنع ؟ قال : قاتله الله ، لقد أمرت به معروفا ، الحمد لله الذي لم يجعل منيتي بيد رجل يدعي الإسلام ، فقد كنت أنت وأبوك تحبان أن تكثر العلوج بالمدينة ، وكان العباس أكثرهم رقيقا . فقال : إن شئت فعلت ، أي إن شئت قتلنا . قال : كذبت ، بعدما تكلموا بلسانكم ، وصلوا قبلتكم ، وحجوا حجكم ؟ فاحتمل إلى بيته ، فانطلقنا معه وكأن الناس لم تصبهم مصيبة قبل يومئذ ، فقائل يقول : لا بأس ، وقائل يقول : أخاف عليه ، فأتي بنبيذ فشربه فخرج من جوفه ، ثم أتي بلبن فشربه فخرج من جرحه ، فعلموا أنه ميت ، فدخلنا عليه ، وجاء الناس يثنون عليه ، وجاء رجل شاب فقال : أبشر يا أمير المؤمنين ببشرى الله لك من صحبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقدم في الإسلام ما قد علمت ، ثم وليت فعدلت ، ثم شهادة . قال : وددت أن ذلك كفاف ، لا علي ولا لي . فلما أدبر ، إذا إزاره يمس الأرض ، قال : ردوا علي الغلام . قال : ابن أخي ، ارفع ثوبك ، إنه أبقى لثوبك ، وأتقى لربك . يا عبد الله بن عمر ، انظر ما علي من الدين ، فحسبوه فوجدوه ستة وثمانين ألفا أو نحوه . قال : إن وفى له مال آل عمر فأده من أموالهم ، وإلا فسل بني عدي بن كعب ، فإن لم تف أموالهم ، فسل في قريش ولا تعدهم إلى غيرهم ، فأد عني هذا المال ، وانطلق إلى عائشة فقل : يقرأ عليك عمر السلام ، ولا تقل أمير المؤمنين ، فإني لست اليوم للمؤمنين أميرا ، وقل : يستأذن عمر بن الخطاب أن يدفن مع صاحبيه . فسلم واستأذن ، ثم دخل عليها فوجدها قاعدة تبكي ، فقال : يقرأ عليك عمر بن الخطاب السلام ، ويستأذن أن يدفن مع صاحبيه . فقالت : كنت أريده لنفسي ، ولأوثرن به اليوم على نفسي . فلما أقبل قيل : هذا عبد الله بن عمر قد جاء ، قال : ارفعوني ، فأسنده رجل إليه ، فقال : ما لديك ؟ قال : الذي تحب يا أمير المؤمنين ، أذنت . قال : الحمد لله ، ما كان من شيء أهم إلي من ذلك ، فإذا أنا قضيت فاحملوني ، ثم سلم فقل : يستأذن عمر بن الخطاب ، فإن أذنت لي فأدخلوني ، وإن ردتني ردوني إلى مقابر المسلمين . وجاءت أم المؤمنين حفصة - رضي الله عنها ، والنساء تسير معها ، فلما رأيناها قمنا ، فولجت عليه فبكت عنده ساعة ، واستأذن الرجال فولجت داخلا [ ص: 1159 ] لهم فسمعنا بكاءها من الداخل ، فقالوا : أوص يا أمير المؤمنين ، استخلف . قال : ما أجد أحق بهذا الأمر من هؤلاء النفر أو الرهط الذين توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو عنهم راض ، فسمى عليا وعثمان والزبير وطلحة وسعدا وعبد الرحمن ، وقال : ليشهدكم عبد الله بن عمر ، وليس له من الأمر شيء - كهيئة التعزية له - فإن أصابت الإمرة سعدا فهو ذاك ، وإلا فليستعن به أيكم ما أمر ، فإني لم أعزله عن عجز ولا خيانة ، وقال : أوصى الخليفة من بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ، ويحفظ لهم حرمتهم ، وأوصيه بالأنصار خيرا الذين تبوءوا الدار والإيمان من قبلهم أن يقبل من محسنهم ، وأن يعفو عن مسيئهم ، وأوصيه بأهل الأمصار خيرا ، فإنهم ردء الإسلام وجباة المال وغيظ العدو ، وأن لا يؤخذ منهم إلا فضلهم عن رضاهم ، وأوصيه بالأعراب خيرا ، فإنهم أصل العرب ومادة الإسلام أن يؤخذ من حواشي أموالهم وترد على فقرائهم ، وأوصيه بذمة الله وذمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يوفي لهم بعهدهم ، وأن يقاتل من ورائهم ولا يكلفوا إلا طاقتهم ، فلما قبض خرجنا به فانطلقنا نمشي ، فسلم عبد الله بن عمر قال : يستأذن عمر بن الخطاب ، قالت : أدخلوه . فأدخل ، فوضع هنالك مع صاحبيه . فلما فرغ من دفنه اجتمع هؤلاء الرهط ، فقال عبد الرحمن : اجعلوا أمركم إلى ثلاثة منكم ، فقال الزبير : قد جعلت أمري إلى علي ، فقال طلحة : قد جعلت أمري إلى عثمان ، وقال سعد : قد جعلت أمري إلى عبد الرحمن بن عوف . فقال عبد الرحمن : أيكما تبرأ من هذا الأمر فلنجعله إليه ، والله عليه والإسلام لينظرن أفضلهم في نفسه ؟ فأسكت الشيخان ، فقال عبد الرحمن : أفتجعلونه إلي ، والله على أن لا آلو عن أفضلكم ؟ قالا : نعم ، فأخذ بيد أحدهما فقال : لك من قرابة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والقدم في الإسلام ما قد علمت ، فالله عليك لئن أمرتك لتعدلن ، ولئن أمرت عثمان لتسمعن ولتطيعن ؟ ثم خلا بالآخر فقال له مثل ذلك ، فلما أخذ الميثاق قال : ارفع يدك يا عثمان ، فبايعه وبايع له علي - رضي الله عنه ، وولج أهل الدار فبايعوه - رضي الله عنهم - أجمعين .

[ ص: 1160 ] وكانت مدة خلافة الفاروق - رضي الله عنه - عشر سنين وستة أشهر ، وكانت وفاته على المشهور لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وعشرين ، وله من العمر ثلاث وستون سنة على الأشهر ، وهي السن التي توفي لها رسول الله - صلى الله عليه وسلم ، ثم أبو بكر الصديق - رضي الله عنه .

وبويع لعثمان في ثلاث من المحرم دخول سنة أربع وعشرين ، وأول من بايعه عبد الرحمن بن عوف ، ثم علي بن أبي طالب ، ثم بقية أصحاب الشورى ، ثم بقية أهل الدار ، ثم بقية المهاجرين والأنصار - رضي الله عنهم - أجمعين .

التالي السابق


الخدمات العلمية