معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

صفحة جزء
[ ص: 1208 ] إجماع أهل السنة على وجوب السكوت عما كان بين الصحابة - رضي الله عنهم .


ثم السكوت واجب عما جرى بينهم من فعل ما قد قدرا     فكلهم مجتهد مثاب
وخطؤهم يغفره الوهاب

.

أجمع أهل السنة والجماعة الذين هم أهل الحل والعقد الذين يعتد بإجماعهم على وجوب السكوت عن الخوض في الفتن التي جرت بين الصحابة - رضي الله عنهم - بعد قتل عثمان - رضي الله عنه - والاسترجاع على تلك المصائب التي أصيبت بها هذه الأمة ، والاستغفار للقتلى من الطرفين ، والترحم عليهم ، وحفظ فضائل الصحابة ، والاعتراف لهم بسوابقهم ، ونشر مناقبهم عملا بقول الله - عز وجل : والذين جاءوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ( الحشر 10 ) الآية ، واعتقاد أن الكل منهم مجتهد ، إن أصاب فله أجران : أجر على اجتهاده ، وأجر على إصابته ، وإن أخطأ فله أجر الاجتهاد ، والخطأ مغفور ، ولا نقول إنهم معصومون بل مجتهدون ، إما مصيبون ، وإما مخطئون لم يتعمدوا الخطأ في ذلك .

وما روي من الأحاديث في مساويهم الكثير منه مكذوب ، ومنه ما قد زيد فيه أو نقص منه ، وغير عن وجهه ، والصحيح منه هم فيه معذورون . قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - في معتقد أهل السنة : وهم مع ذلك لا يعتقدون أن كل واحد من الصحابة معصوم عن كبائر الإثم وصغائره ، بل يجوز عليهم الذنوب في الجملة ، ولهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة ما يصدر منهم إن صدر ، حتى إنهم يغفر لهم من السيئات ما لا يغفر لمن بعدهم .

وقد ثبت بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم خير القرون ، وأن المد من أحدهم إذا تصدق به ، كان أفضل من جبل أحد ذهبا من بعدهم ، ثم إذا كان قد صدر عن أحد منهم ذنب ، فيكون قد تاب منه أو أتى بحسنة تمحوه أو غفر له بفضل سابقته ، [ ص: 1209 ] أو بشفاعة محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي هم أحق الناس بشفاعته ، أو ابتلي ببلاء في الدنيا كفر به عنه ، فإذا كان هذا في الذنوب المحققة ، فكيف بالأمور التي كانوا فيها مجتهدين ، إن أصابوا فلهم أجران ، وإن أخطئوا فلهم أجر واحد ، والخطأ مغفور ، ثم القدر الذي ينكر من فعل بعضهم نزر مغفور في جنب فضائل القوم ومحاسنهم من الإيمان بالله ورسوله ، والجهاد في سبيله ، والهجرة والنصرة ، والعلم النافع ، والعمل الصالح ، ومن نظر في سيرة القوم بعلم وبصيرة وما من الله عليهم به من الفضائل ، علم يقينا أنهم خير الخلق بعد الأنبياء ، لا كان ولا يكون مثلهم ، وأنهم الصفوة من قرون هذه الأمة التي هي خير الأمم ، وأكرمهم على الله - عز وجل .

وقال القاضي عياض في ذكر الصحابة - رضي الله عنه - وفضائلهم : وأما الحروب التي جرت ، فكانت لكل طائفة شبهة اعتقدت تصويب نفسها بسببها ، وكلهم عدول - رضي الله عنهم - ومتأولون في حروبهم وغيرها ، ولم يخرج شيء من ذلك أحدا منهم عن العدالة ; لأنهم مجتهدون اختلفوا في مسائل من محل الإجتهاد ، كما يختلف المجتهدون بعدهم في مسائل من الدماء وغيرها ، ولا يلزم من ذلك نقص أحد منهم .

واعلم أن سبب تلك الحروب أن القضايا كانت مشتبهة ، فلشدة اشتباهها اختلف اجتهادهم ، وصاروا ثلاثة أقسام :

قسم ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في هذا الطرف ، وأن مخالفه باغ ، فوجب عليهم نصرته وقتال الباغي عليه فيما اعتقدوه ، ففعلوا ذلك ، ولم يكن يحل لمن هذه صفته التأخر عن مساعدة إمام العدل في قتال البغاة في اعتقاده ، وقسم عكس هؤلاء ، ظهر لهم بالاجتهاد أن الحق في الطرف الآخر ، فوجب عليهم مساعدته وقتال الباغي عليه ، وقسم ثالث اشتبهت عليهم القضية وتحيروا فيها ، ولم يظهر لهم ترجيح أحد الطرفين ، فاعتزلوا الفريقين ، فكان هذا الاعتزال هو الواجب في حقهم ; لأنه لا يحل الإقدام على قتال مسلم حتى يظهر أنه مستحق لذلك ، ولو ظهر لهؤلاء رجحان أحد الطرفين ، وأن الحق معه ، لما جاز لهم التأخر عن نصرته في قتال [ ص: 1210 ] البغاة عليه ، فكلهم معذورون ، رضي الله عنهم .

ولهذا اتفق أهل الحق ، ومن يعتد به في الإجماع على قبول شهادتهم ورواياتهم ، وكمال عدالتهم - رضي الله عنهم - أجمعين ، وكلام الأئمة في هذا الباب يطول ، وما أحسن ما قال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل - رحمه الله تعالى - وقد سئل عن الفتن أيام الصحابة ، فقال تاليا قول الله - عز وجل : تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون ( البقرة ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية