معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

صفحة جزء
[ ص: 1228 ] البدع .

ثم اعلم أن البدع كلها مردودة ، ليس منها شيء مقبولا ، وكلها قبيحة ، ليس فيها حسن ، وكلها ضلال ليس فيها هدى ، وكلها أوزار ليس فيها أجر ، وكلها باطل ليس فيها حق .

ومعنى البدعة : هو شرع ما لم يأذن الله به ، ولم يكن عليه أمر النبي صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه ، ولهذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم البدعة بقوله : كل عمل ليس عليه أمرنا .

ووصف الطائفة الناجية من الثلاث والسبعين فرقة بقوله : هم الجماعة ، وفي رواية : هم من كان مثل ما أنا عليه وأصحابي .

ثم البدع بحسب إخلالها بالدين قسمان :

مكفرة لمنتحلها ، وغير مكفرة .

فضابط البدعة المكفرة : من أنكر أمرا مجمعا عليه متواترا من الشرع معلوما من الدين بالضرورة من جحود مفروض ، أو فرض ما لم يفرض ، أو إحلال محرم ، أو تحريم حلال ، أو اعتقاد ما ينزه الله ورسوله وكتابه عنه من نفي أو إثبات ; لأن ذلك تكذيب بالكتاب ، وبما أرسل الله به رسله صلى الله عليهم وسلم كبدعة الجهمية في إنكار صفات الله والقول بخلق القرآن ، أو خلق أي صفة من صفات الله ، وإنكار أن يكون الله تعالى اتخذإبراهيم خليلا ، وكلم موسى تكليما وغير ذلك ، وكبدعة القدرية في إنكار علم الله عز وجل وأفعاله ، وقضائه وقدره ، وكبدعة المجسمة الذين يشبهون الله تعالى بخلقه ، وغير ذلك من الأهواء .

[ ص: 1229 ] ولكن هؤلاء منهم من علم أن عين قصده هدم قواعد الدين ، وتشكيك أهله فيه ، فهذا مقطوع بكفره ، بل هو أجنبي عن الدين من أعدى عدو له ، وآخرون مغرورون ملبس عليهم ، فهؤلاء إنما يحكم بكفرهم بعد إقامة الحجة عليهم وإلزامهم بها .

والقسم الثاني من البدع التي ليست بمكفرة : وهي ما لم يلزم منه تكذيب بالكتاب ولا بشيء مما أرسل الله به رسله ، كبدع المروانية التي أنكرها عليهم فضلاء الصحابة ، ولم يقروهم عليها ، ولم يكفروهم بشيء منها ، ولم ينزعوا يدا من بيعتهم لأجلها ، كتأخيرهم بعض الصلوات إلى أواخر أوقاتها ، وتقديمهم الخطبة قبل صلاة العيد ، وجلوسهم في نفس الخطبة في الجمعة وغيرها ، وسبهم كبار الصحابة على المنابر ، ونحو ذلك مما لم يكن منهم على اعتقاد شرعيته ، بل بنوع تأويل ، وشهوات نفسانية وأغراض دنيوية .

كما روى الإمام أحمد والترمذي وحسنه عن أبي عمران الجوني قال : سمعت أنس بن مالك - رضي الله عنه - يقول : ما أعرف شيئا اليوم مما كنا عليه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال قلنا : فأين الصلاة ؟ قال : أولم تصنعوا في الصلاة ما قد علمتم ؟ .

وله عن ثابت البناني بإسناد نير قال : قال أنس بن مالك - رضي الله عنه : ما أعرف فيكم اليوم شيئا كنت أعهده على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ليس قولكم : لا إله إلا الله ، قال قلت : يا أبا حمزة الصلاة ؟ قال : قد صليت حين تغرب الشمس ، أفكانت تلك صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ .

وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج يوم الفطر والأضحى في المصلى ، فأول شيء يبدأ به [ ص: 1230 ] الصلاة ، ثم ينصرف فيقوم مقابل الناس ، والناس جلوس على صفوفهم ، فيعظهم ويوصيهم ويأمرهم ، فإن كان يريد أن يقطع بعثا قطعه ، أو يأمر بشيء أمر به ، ثم ينصرف . قال أبو سعيد : فلم يزل الناس على ذلك حتى خرجت مع مروان ، وهو أمير المدينة في الأضحى أو الفطر ، فلما أتينا المصلى إذا منبر بناه كثير بن الصلت ، فإذا مروان يريد أن يرتقيه قبل أن يصلي ، فجبذت بثوبه ، فجبذني فارتفع فخطب قبل الصلاة ، فقلت له : غيرتم والله ، فقال : يا أبا سعيد ، قد ذهب ما تعلم ، فقلت : ما أعلم والله خير مما لا أعلم ، فقال : إن الناس لم يكونوا يجلسون لنا بعد الصلاة ، فجعلتها قبل الصلاة .

وفي رواية مسلم : فلما رأيت ذلك منه قلت : أين الابتداء بالصلاة ؟ فقال : يا أبا سعيد ، قد ترك ما تعلم ، قلت : كلا والذي نفسي بيده ، لا تأتون بخير مما أعلم ثلاث مرات ثم انصرف .

وروى أحمد ، وأبو داود ، وابن ماجه ، عن أبي سعيد - رضي الله عنه - أيضا قال : أخرج مروان المنبر في يوم عيد ، فبدأ بالخطبة قبل الصلاة ، فقام رجل فقال : يا مروان ، خالفت السنة ، أخرجت المنبر في يوم عيد ، ولم يكن يخرج فيه ، وبدأت الخطبة قبل الصلاة ، ولم يكن يبدأ بها . فقال أبو سعيد الخدري : من هذا ؟ قالوا : فلان بن فلان ، فقال : أما هذا فقد قضى ما عليه ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من رأى منكرا فاستطاع أن يغيره بيده فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان .

[ ص: 1231 ] قلت : والمرفوع من قول النبي صلى الله عليه وسلم في صحيح مسلم ، ولعل تغير هذا الرجل على مروان كان تارة أخرى في غير المرة التي غير فيها أبو سعيد بيده ولسانه ; لأن تغيير أبي سعيد كان عند أول ما ابتدع ذلك ابتداء ، والله أعلم .

وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة - رضي الله عنه - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب قائما ثم يجلس ، ثم يقوم فيخطب قائما ، فمن نبأك أنه كان يخطب جالسا ، فقد كذب ، فقد والله صليت معه أكثر من ألفي صلاة .

وفيه عن كعب بن عجرة - رضي الله عنه - قال : دخل المسجد ، وعبد الرحمن بن أم الحكم يخطب قاعدا ، فقال : انظر إلى هذا الخبيث يخطب قاعدا ، وقال الله تعالى : وإذا رأوا تجارة أو لهوا انفضوا إليها وتركوك قائما ( الجمعة 11 ) .

وفيه عن عمار بن رويبة قال : رؤي بشر بن مروان على المنبر رافعا يديه ، فقال : قبح الله هاتين اليدين ، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا ، وأشار بأصبعه المسبحة .

وتقدم في فضائل الصحابة نصيحة سعد بن أبي وقاص ، وسهل بن سعد وغيرهم من الصحابة وعظته إياهم عن سب الصحابة .

وعن عامر بن سعد رأى جماعة عكوفا على رجل ، فأدخل رأسه من بين اثنين ، فإذا هو يسب عليا وطلحة والزبير ، فنهاه عن ذلك ، فلم ينته ، فقال : أدعو عليك ، فقال الرجل : تتعهدني كأنك نبي ، فانصرف سعد ، فدخل دار آل فلان فتوضأ ، وصلى ركعتين ثم رفع يديه ، فقال : اللهم إن كنت تعلم أن هذا الرجل قد سب أقواما قد سبق لهم منك سابقة الحسنى ، وأنه قد أسخطك سبه إياهم ، فاجعله اليوم آية وعبرة .

قال : فخرجت بختية نادرة من دار آل فلان ، فلا يردها شيء حتى دخلت بين [ ص: 1232 ] أضعاف الناس ، فافترق الناس ، فأخذته بين قوائمها ، فلم تزل تتخبطه حتى مات ، قال : فلقد رأيت الناس يستعدون وراء سعد يقولون : استجاب الله دعاءك يا أبا إسحاق .

وعن مصعب نحوه ، وروى حماد بن سلمة ، عن علي بن زيد ، عن سعيد بن المسيب نحوه .

وغير ذلك من إنكار الصحابة عليهم ، وكان الصحابة - رضي الله عنه - لا يخافون في الله لومة لائم ، رضي الله عنهم وأرضاهم آمين .

فصل .

ثم تنقسم البدع بحسب ما تقع فيه إلى :

بدعة في العبادات .

وبدعة في المعاملات .

فالبدع في العبادات قسمان أيضا :

الأول : التعبد بما لم يأذن الله تعالى أن يعبد به البتة ، كتعبد جهلة الصوفية بآلات اللهو والرقص والصفق والغناء ، وأنواع المعازف ، وغيرها مما هم فيه مضاهئون فعل الذين قال الله تعالى فيهم : وما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء وتصدية ( الأنفال 35 ) .

والثاني : التعبد بما أصله مشروع ، ولكن وضع في غير موضعه : ككشف الرأس مثلا هو في الإحرام عبادة مشروعة ، فإذا فعله غير المحرم في الصوم ، أو في الصلاة ، أو غيرها بنية التعبد ، كان بدعة محرمة ، وكذلك فعل سائر العبادات المشروعة في غير ما شرعت فيه ، كصلوات النفل في أوقات النهي ، وكصيام الشك والعيدين ، ونحو ذلك ، وفي الصحيح عن أنس في الرجل الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم يمشي بين ابنيه ، فقال صلى الله عليه وسلم : إن الله لغني عن تعذيب هذا نفسه .

[ ص: 1233 ] وفيه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر وهو يطوف بالكعبة بإنسان يقود إنسانا بخزامة في أنفه ، فقطعها النبي صلى الله عليه وسلم بيده ، ثم أمره أن يقوده بيده .

وفيه عنه - رضي الله عنه - قال : بينا النبي صلى الله عليه وسلم يخطب إذا هو برجل قائم ، فسأل عنه فقالوا : أبو إسرائيل ، نذر أن يقوم ولا يقعد ، ولا يستظل ، ولا يتكلم ويصوم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : مره ، فليتكلم وليستظل وليقعد ، وليتم صومه . فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإتمام الصوم الذي هو عبادة مشروعة وضعت في محلها ، وإلغاء قيامه وسكوته ; لكونه وإن كان عبادة في بعض الأحوال ، لكن ليس هذا محله ، وأمره بالاستظلال ; لكون عدمه ليس بعبادة مشروعة .

وفيه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما سئل عن رجل نذر ألا يأتي عليه يوم إلا صام ، فوافق يوم الأضحى أو الفطر ، فقال : لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة ( الأحزاب 21 ) لم يكن يصوم يوم الأضحى والفطر ، ولا يرى صيامهما .

وعن زياد بن جبر قال : كنت مع ابن عمر رضي الله عنهما فسأله رجل ، فقال : نذرت أن أصوم كل يوم ثلاثاء أو أربعاء ما عشت ، فوافقت هذا اليوم يوم النحر ، فقال : أمر الله بوفاء النذر ، ونهينا أن نصوم يوم النحر ، فأعاد فأعاد عليه ، فقال : مثله لا يزيد عليه .

[ ص: 1234 ] والمعنى أن النذر قربة من القربات إذا كان مشروعا ، كصوم ما لم ينه عنه من الأيام ، فإن نذر صوم يوم منهي عنه كان ناذرا معصية لا طاعة ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : لا نذر في معصية الله ، وقال صلى الله عليه وسلم : من نذر أن يعصي الله فلا يعصه .

وعن عطاء أن ابن عباس رضي الله عنهما أرسل إلى ابن الزبير في أول ما بويع له : إنه لم يكن يؤذن بالصلاة يوم الفطر ، وإنما الخطبة بعد الصلاة .

قال : ذلك ردا لبدعة المروانية في ذلك .

وفيه عن البراء بن عازب قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : إن أول ما نبدأ في يومنا هذا أن نصلي ، ثم نرجع فننحر ، فمن فعل ذلك ، فقد أصاب سنتنا ، ومن نحر قبل الصلاة ، فإنما هو لحم قدمه لأهله ، ليس من النسك في شيء . الحديث .

وفيه عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال : جاء ثلاثة رهط إلى نساء النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أخبروا كأنهم تقالوها ، فقالوا : وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فقال أحدهم : أما أنا ، فإني أصلي الليل أبدا ، وقال آخر : أنا أصوم الدهر ولا أفطر ، وقال آخر : أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له ، لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأرقد ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني .

[ ص: 1235 ] وقال صلى الله عليه وسلم : ليس من البر الصيام في السفر .

وقال صلى الله عليه وسلم للذين صاموا بعد أمره بالإفطار : أولئك العصاة ، أولئك العصاة . وغير ذلك من الأحاديث في هذا الباب ما لا يحصى ، وهذا مثال يدل على ما بعده .

ثم البدعة الواقعة في العبادة ، تكون مبطلة للعبادة التي تقع فيها لمن صلى الرباعية خمسا ، أو الثلاثية أربعا ، أو الثنائية ثلاثا ، وما شابه ذلك .

وقد تكون معصية ولا تبطل العمل الذي تقع فيه كالوضوء أربعا أربعا ; لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الوضوء المشروع : فمن زاد على هذا ، فقد أساء وتعدى وظلم . ولم يقل : فقد بطل وضوءه ، وكذا قراءة القرآن راكعا أو ساجدا منهي عنه شرعا ، ولا يبطل الصلاة .

والبدعة في المعاملات : كاشتراط ما ليس في كتاب الله ، ولا في سنة رسوله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها - قالت : جاءت بريرة رضي الله عنها فقالت : إني كاتبت أهلي على تسع أواق ، في كل عام أوقية ، فأعينيني ، فقالت عائشة رضي الله عنها : إن أحب أهلك أعدها لهم عدة واحدة وأعتقك فعلت ، ويكون ولاؤك لي ، فذهبت إلى أهلها فأبوا ذلك عليها ، فقالت : عرضت ذلك عليهم فأبوا إلا أن يكون الولاء لهم ، فسمع بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألني فأخبرته ، فقال : خذيها فأعتقيها واشرطي لهم الولاء ، فإنما الولاء لمن أعتق . فقالت عائشة : فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أما بعد ، فما بال رجال منكم [ ص: 1236 ] يشترطون شروطا ليست في كتاب الله ، فأيما شرط ليس في كتاب الله فهو باطل ، وإن كان مائة شرط ، فقضاء الله حق ، وشرط الله أوثق . ما بال رجال منكم يقول أحدهم أعتق يا فلان ولي الولاء ، إنما الولاء لمن أعتق . وأمثاله كثيرة .

التالي السابق


الخدمات العلمية