معارج القبول بشرح سلم الوصول إلى علم الأصول

الحكمي - حافظ بن أحمد الحكمي

صفحة جزء
أصل القول بخلق القرآن

وأول ما اشتهر القول بخلق القرآن في آخر عصر التابعين ، لما ظهر جهم بن صفوان شقيق إبليس - لعنهما الله - وكان ملحدا عنيدا ، وزنديقا زائغا ، مبتغيا غير سبيل المؤمنين ، لم يثبت أن في السماء ربا ، ولا يصف الله - تعالى - بشيء مما وصف به نفسه ، وينتهي قوله إلى جحود الخالق عز وجل . ترك الصلاة أربعين يوما ، يزعم يرتاد دينا ، ولما ناظره بعض السنية في معبوده ، قال قبحه الله : هو هذا الهواء في كل مكان ، وافتتح مرة سورة طه ، فلما أتى على هذه الآية ( الرحمن على العرش استوى ) ، ( طه : 5 ) ، قال : لو وجدت السبيل إلى حكها لحككتها ، ثم قرأ حتى أتى على آية أخرى ، فقال : ما كان أظرف محمدا حين قالها ، ثم افتتح سورة القصص ، فلما أتى على ذكر موسى ، جمع يديه ورجليه ، ثم رفع المصحف ، ثم قال : أي شيء هذا ؟ ذكره هاهنا فلم يتم ذكره ، وذكره هاهنا فلم يتم ذكره .

وقد روي عنه غير هذا من الكفريات ، وهو أذل وأحقر من أن نشتغل بترجمته ، وقد يسر الله - تعالى - ذبحه على يد سالم بن أحوز بأصبهان ، وقيل بمرو ، وهو يومئذ نائبها ، رحمه الله - تعالى - وجزاه عن المسلمين خيرا .

وقد تلقى هذا القول عن الجعد بن درهم ، لكنه لم يشتهر في أيام الجعد ، كما اشتهر عن الجهم ، فإن الجعد لما أظهر القول بخلق القرآن ، تطلبه بنو أمية ، فهرب منهم فسكن الكوفة ، فلقيه فيها الجهم بن صفوان ، فتقلد هذا القول عنه ، ولم يكن له كثير أتباع غيره ، ثم يسر الله - تعالى - قتل الجعد على يد خالد بن عبد الله القسري الأمير ، قتله يوم عيد الأضحى بالكوفة ، وذلك لأن خالدا خطب الناس ، فقال في خطبته تلك : أيها الناس ، ضحوا تقبل الله ضحاياكم ، فإني مضح [ ص: 271 ] بالجعد بن درهم ، إنه زعم أن الله لم يتخذ إبراهيم خليلا ، ولم يكلم موسى تكليما ، تعالى الله عما يقوله الجعد علوا كبيرا ، ثم نزل فذبحه في أصل المنبر .

روى ذلك البخاري في كتابه خلق أفعال العباد ، ورواه ابن أبي حاتم في كتاب السنة له وغيرهما ، وهو مشهور في كتب التواريخ ، وذلك سنة أربع وعشرين ومائة ، وقد أخذ الجعد بدعته هذه عن بيان بن سمعان ، وأخذها بيان عن طالوت ابن أخت لبيد بن الأعصم ، وأخذها طالوت عن خاله لبيد بن الأعصم اليهودي الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنزل الله - تعالى - في ذلك سورة المعوذتين ، ثم تقلد هذا المذهب المخذول ، عن الجهم بشر بن غياث بن أبي كريمة المريسي المتكلم ، شيخ المعتزلة وأحد من أضل المأمون ، وجدد القول بخلق القرآن ، ويقال إن أباه كان يهوديا صباغا بالكوفة ، وروي عنه أقوال شنيعة في الدين من التجهم وغيره ، مات سنة ثماني عشرة ومائتين .

ثم تقلد عن بشر ذلك المذهب الملعون قاضي المحنة أحمد بن أبي دواد ، وأعلن بمذهب الجهمية ، وحمل السلطان على امتحان الناس بالقول بخلق القرآن ، وعلى أن الله لا يرى في الآخرة ، وكان بسببه ما كان على أهل الحديث والسنة من الحبس والضرب والقتل ، وغير ذلك ، وقد ابتلاه الله - تعالى - بالفالج قبل موته بأربع سنين ، حتى أهلكه الله - تعالى - سنة أربعين ومائتين ، ومن أراد الاطلاع على ذلك وتفاصيله ، فليقرأ كتب التواريخ ير العجب .

التالي السابق


الخدمات العلمية