صفحة جزء
( وقوله : وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة ، على الأرائك ينظرون ، للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [ ص: 189 ] ، وقوله : لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد ، وهذا الباب في كتاب الله كثير ، من تدبر القرآن طالبا للهدى منه تبين له طريق الحق ) .


ش قوله : وجوه يومئذ ناضرة . . إلخ ؛ هذه الآيات تثبت رؤية المؤمنين لله عز وجل يوم القيامة في الجنة .

وقد نفاها المعتزلة ؛ بناء على نفيهم الجهة عن الله ؛ لأن المرئي يجب أن يكون في جهة من الرائي ، وما دامت الجهة مستحيلة ، وهي شرط في الرؤية ؛ فالرؤية كذلك مستحيلة .

واحتجوا من النقل بقوله تعالى : لا تدركه الأبصار ، وقوله لموسى عليه السلام حين سأله الرؤية : لن تراني ولكن انظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني .

وأما الأشاعرة ؛ فهم مع نفيهم الجهة كالمعتزلة يثبتون الرؤية ، ولذلك حاروا في تفسير تلك الرؤية ، فمنهم من قال : يرونه من جميع الجهات ، ومنهم من جعلها رؤية بالبصيرة لا بالبصر ، وقال : المقصود زيادة الانكشاف والتجلي حتى كأنها رؤية عين .

وهذه الآيات التي أوردها المؤلف حجة على المعتزلة في نفيهم الرؤية ؛ فإن الآية الأولى عدي النظر فيها بـ ( إلى ) ، فيكون بمعنى [ ص: 190 ] الإبصار ؛ يقال : نظرت إليه وأبصرته بمعنى ، ومتعلق النظر هو الرب جل شأنه .

وأما ما يتكلفه المعتزلة من جعلهم ( ناظرة ) بمعنى منتظرة ، و ( إلى ) بمعنى النعمة ، والتقدير : ثواب ربها منتظرة ؛ فهو تأويل مضحك .

وأما الآية الثانية ؛ فتفيد أن أهل الجنة ، وهم على أرائكهم يعني أسرتهم ، جمع أريكة ينظرون إلى ربهم .

وأما الآيتان الأخيرتان ؛ فقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم تفسير الزيادة بالنظر إلى وجه الله عز وجل .

ويشهد لذلك أيضا قوله تعالى في حق الكفار : كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ، فدل حجب هؤلاء على أن أولياءه يرونه .

وأحاديث الرؤية متواترة في هذا المعنى عند أهل العلم بالحديث ، لا ينكرها إلا ملحد زنديق .

وأما ما احتج به المعتزلة من قوله تعالى : لا تدركه الأبصار ؛ فلا حجة لهم فيه ؛ لأن نفي الإدراك لا يستلزم نفي الرؤية ، فالمراد أن [ ص: 191 ] الأبصار تراه ، ولكن لا تحيط به رؤية ؛ كما أن العقول تعلمه ولكن لا تحيط به علما ؛ لأن الإدراك هو الرؤية على جهة الإحاطة ، فهو رؤية خاصة ، ونفي الخاص لا يستلزم نفي مطلق الرؤية .

وكذلك استدلالهم على نفي الرؤية بقوله تعالى لموسى عليه السلام : ( لن تراني ) لا يصلح دليلا ، بل الآية تدل على الرؤية من وجوه كثيرة ؛ منها :

1 - وقوع السؤال من موسى ، وهو رسول الله وكليمه ، وهو أعلم بما يستحيل في حق الله من هؤلاء المعتزلة ، فلو كانت الرؤية ممتنعة لما طلبها .

2 - أن الله عز وجل علق الرؤية على استقرار الجبل حال التجلي وهو ممكن ، والمعلق على الممكن ممكن .

3 - أن الله تجلى للجبل بالفعل ، وهو جماد ، فلا يمتنع إذا أن يتجلى لأهل محبته وأصفيائه .

وأما قولهم : إن ( لن ) ، لتأبيد النفي ، وإنها تدل على عدم وقوع الرؤية أصلا فهو كذب على اللغة فقد قال تعالى حكاية عن الكفار : ولن يتمنوه أبدا ، ثم قال : ونادوا يامالك ليقض علينا ربك ، فأخبر عن عدم تمنيهم للموت بـ ( لن ) ، ثم أخبر عن تمنيهم له وهم في النار .

[ ص: 192 ] وإذا ؛ فمعنى قوله : ( لن تراني ) : لن تستطيع رؤيتي في الدنيا ؛ لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته سبحانه ، ولو كانت الرؤية ممتنعة لذاتها ؛ لقال : إني لا أرى ، أو لا يجوز رؤيتي ، أو لست بمرئي . . ونحو ذلك ، والله أعلم .

إن الناظر في آيات الصفات التي ساقها المؤلف رحمه الله يستطيع أن يستنبط منها قواعد وأصولا هامة يجب الرجوع إليها في هذا الباب :

الأصل الأول : اتفق السلف على أنه يجب الإيمان بجميع الأسماء الحسنى ، وما دلت عليه من الصفات ، وما ينشأ عنها من الأفعال .

مثال ذلك القدرة مثلا ، يجب الإيمان بأنه سبحانه على كل شيء قدير ، والإيمان بكمال قدرته ، والإيمان بأن قدرته نشأت عنها جميع الكائنات . . وهكذا بقية الأسماء الحسنى على هذا النمط .

وعلى هذا ؛ فما ورد في هذه الآيات التي ساقها المصنف من الأسماء الحسنى ؛ فإنها داخلة في الإيمان بالاسم .

وما فيها من ذكر الصفات ؛ مثل : عزة الله ، وقدرته ، وعلمه ، وحكمته ، وإرادته ، ومشيئته ، فإنها داخلة في الإيمان بالصفات .

وما فيها من ذكر الأفعال المطلقة والمقيدة ، مثل : يعلم كذا ، ويحكم ما يريد ، ويرى ، ويسمع ، وينادي ، ويناجي ، وكلم ، ويكلم ؛ فإنها داخلة في الإيمان بالأفعال .

[ ص: 193 ] الأصل الثاني : دلت هذه النصوص القرآنية على أن صفات الباري قسمان :

1 - صفات ذاتية لا تنفك عنها الذات ، بل هي لازمة لها أزلا وأبدا ، ولا تتعلق بها مشيئته تعالى وقدرته ، وذلك كصفات : الحياة ، والعلم ، والقدرة ، والقوة ، والعزة ، والملك ، والعظمة ، والكبرياء ، والمجد ، والجلال . . إلخ .

2 - صفات فعلية تتعلق بها مشيئته وقدرته كل وقت وآن ، وتحدث بمشيئته وقدرته آحاد تلك الصفات من الأفعال ، وإن كان هو لم يزل موصوفا بها ، بمعنى أن نوعها قديم ، وأفرادها حادثة ، فهو سبحانه لم يزل فعالا لما يريد ، ولم يزل ولا يزال يقول ويتكلم ويخلق ويدبر الأمور ، وأفعاله تقع شيئا فشيئا ، تبعا لحكمته وإرادته .

فعلى المؤمن الإيمان بكل ما نسبه الله لنفسه من الأفعال المتعلقة بذاته ؛ كالاستواء على العرش ، والمجيء ، والإتيان ، والنزول إلى السماء الدنيا ، والضحك ، والرضى ، والغضب ، والكراهية ، والمحبة ، والمتعلقة بخلقه ؛ كالخلق ، والرزق ، والإحياء ، والإماتة ، وأنواع التدبير المختلفة .

الأصل الثالث : إثبات تفرد الرب جل شأنه بكل صفة كمال ، وأنه ليس له شريك أو مثيل في شيء منها .

وما ورد في الآيات السابقة من إثبات المثل الأعلى له وحده ، ونفي الند والمثل والكفء والسمي والشريك عنه يدل على ذلك ؛ كما يدل على أنه منزه عن كل نقص وعيب وآفة .

[ ص: 194 ] الأصل الرابع : إثبات جميع ما ورد به الكتاب والسنة من الصفات ، لا فرق بين الذاتية منها ؛ كالعلم والقدرة والإرادة والحياة والسمع والبصر ونحوها ، والفعلية ؛ كالرضا والمحبة والغضب والكراهة ، وكذلك لا فرق بين إثبات الوجه واليدين ونحوهما ، وبين الاستواء على العرش والنزول ، فكلها مما اتفق السلف على إثباته بلا تأويل ولا تعطيل ، وبلا تشبيه وتمثيل .

والمخالف في هذا الأصل فريقان :

1 - الجهمية : ينفون الأسماء والصفات جميعا .

2 - المعتزلة : فإنهم ينفون جميع الصفات ، ويثبتون الأسماء والأحكام ، فيقولون : عليم بلا علم ، وقدير بلا قدرة ، وحي بلا حياة . . إلخ .

وهذا القول في غاية الفساد ؛ فإن إثبات موصوف بلا صفة ، وإثبات ما للصفة للذات المجردة محال في العقل ؛ كما هو باطل في الشرع .

أما الأشعرية ومن تبعهم ؛ فإنهم يوافقون أهل السنة في إثبات سبع صفات يسمونها صفات المعاني ، ويدعون ثبوتها بالعقل ، وهي : الحياة ، والعلم ، والقدرة ، والإرادة ، والسمع ، والبصر ، والكلام .

ولكنهم وافقوا المعتزلة في نفي ما عدا هذه السبع من الصفات الخبرية التي صح بها الخبر .

[ ص: 195 ] والكل محجوجون بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة والقرون المفضلة على الإثبات العام .

التالي السابق


الخدمات العلمية